أدب السجون هو نوع أدبي، يؤرخ لمن قضوا جزءاً من حياتهم خلف القضبان في السجون العربية، ولست بحاجة إلى تقديم الأدلة والبراهين على الجحيم والعذابات والمآسي التي يمر بها السجين، وبخاصة السياسي في بعض بلادنا العربية في مغربه ومشرقه.
فكيف نتصور حياة السجين السياسي العربي وبعض الدول العربية قد تحولت كلها إلى سجون كبيرة.
أدب السجون العربية يأتي في معظمه على شكل الرواية الواقعية أو أدب السيرة الذاتية التي يسجلها بعض من تعرضوا إلى السجن، أو أن يمليها بعد خروجه إلى روائي يصبغها بشكل فني، هذا الشكل من الأدب يبعث على الحزن والكآبة لما يتعرض له السجين العربي من سحق وتدمير آدميته يصل في معظم الأحيان إلى القتل الممنهح بشكل لا يحترم إنسانيته، فكم من الروايات تمنى أصحابها الموت للخلاص من عذاب السجن.
من الروايات التي قرأتها أخيراً رواية (القوقعة-يوميات متلصص) لمصطفى خليفة، تدور أحداثها في السجن الصحراوي في سورية، بطل الرواية الواقعية هذه كان يدرس الإخراج السينمائي في فرنسا، وكان يتمتع بالحرية ورغد العيش وبعيداً عن التنظيمات السياسية.
في إحدى السهرات في شقة أحد أصدقائه أطلق تعليقاً على رقبة الرئيس السوري، ومضت الأيام، ولكنه أصر بعد سنوات أن يرجع إلى بلاده التي لا تعني له الحياة من دونها أي قيمة، على رغم محاولات صديقته الفرنسية من أصول عربية لثنيه عن خطوة الرجوع إلى بلاده، إلا أنه صمم على ذلك، وودعها في مطار ديغول بعد عناق حار وأمل أن يلتقيا قريباً ويكذب مخاوفها غير المبررة.
المضحك المبكي أن بطل روايتنا الواقعية السوداوية ومنذ بداية اتهامه بأنه منتمٍ إلى تيار «الإخوان المسلمون» أخبر كل محقق عذبه أنه مسيحي، فهل يعقل أن يكون عضواً في تيار إسلامي معارض للنظام، ولكنَّ تكراره لهذه المعلومة لم تسمع ولم تشفع له بأن يطلق سراحه، بل كانت وبالاً عليه داخل السجن الصحراوي وبين المساجين الآخرين، والذين معظمهم من تيارات سياسية متعددة، فبعضهم يري أنه كافر وتجب محاكمته وبعض آخر يؤمن بقتله، وهناك من يعتقد بأنه جاسوس مدسوس من النظام بينهم، هذا الوضع والنبذ والصمت جعله يعيش في صومعته الداخلية، ويشاء القدر والظروف أن يكتشف أن هناك ثقباً في الجدار الذي يستند إليه والذي يعطيه إطلالة على الساحة العامة للمعتقل وما يجري فيها من تعذيب وإهانة للإنسان، وتعلق فيها المشانق ويشاهد من كانوا معه قبل قليل في عنبره، وهم يُشنَقون في محاكمات صورية سريعة لا تستغرق أكثر من دقائق.
في البداية كان الرعب والحزن يتملكه لأيام ولكثرة الإعدامات أصبحت تلك المناظر شبه روتينية له، وفقدت قيمتها التلصصية، وهو ما دفعه إلى أن يخبر بعض المساجين في العنبر عن قصصه التي تعلقت بالذاكرة، ومنها قصة الرجل العجوز ذي الـ70عاماً، الذي اكتشفت لجنة التحقيق عند محاكمته أن هناك ثلاثة أسماء تحمل اسمه وأقر الرجل العجوز أنهم أولاده أسعد وسعد وسعيد، فخيرته تلك اللجنة أن ثلاثة من الأربعة سيعدمون فاختار نفسه وأولاده المتزوجين، واختار أصغرهم أن يبقى على قيد الحياة؛ لأنه لم يعش بعدُ حياته، ولكن تلك اللجنة المجرمة اختارت أولاده الثلاثة للإعدام وأبقته هو، فكم نتخيل حاله، وهو يودِّع أبناءه لمقصلة الإعدام.
هذا جزء موثق من قيمة الإنسان في شرقنا ومغربنا العربي، ومن أدب السجون التي تفضح وتنسف كل ادعاء بإنسانية المواطن في دول ترفع شعار الحرية في خطابها السياسي.