لو شئت أن أحدد النقد بثلاث كلمات لقلت : إنه عمل الحياة الدائم ، فهي ما زرعت السماء شموساً وأقماراً وكوكبات ومجرات ، ولا فجرت من أديم الأرض هذه الأشكال ما بين سائل وجماد ونبات وحيوان وإنسان ، ولونتها بسائر الألوان ، ولا ربطت كل ذلك بنظام شامل مانع لتقبع من بعدها في زاوية من المسكونة ، وتنظر إلى زرعها بعين ارضى ، ثم تقول معتزة بما صنعت :" إنه حسن جداً " .
فلو أنه كان أقصى ما تستطيع أن تتوخاه لما أمعنت فيه تبديلاً وتغييراً ، وتحريفاً وتحويراً .فما تفتت نجوم وتكورت نجوم ، ولا بركان ، وطغى بحر ، وزمجر إعصار ،وقرقر زلزال ،ولا كان إنطلاق بعد انغلاق ، وانغلاق بعد انطلاق ، أو نمو ينتهي إلى انحلال ، وانحلال ينتهي إلى نمو ، ولا كان " هذا الحيوان المستحث من جماد " الذي حار في نفسه على قدر ما حارت البرية فيه .
لو كان لنا أن نُجري على هذه الحركة الكونية التي لا تنقطع ولا رفة جفن مثل الأحكام التي نجريها على حركاتنا البشرية لقلنا إنها ناجمة عن قلق وشوق في آن معاً . فنجن لا نأتي حركة من الحركات - عفوية كانت أو عن سابق قصد وتصميم - إلا نتيجة لعدم اطمئناننا إلى وضع نحن فيه ، وإلا تشوقاً منا إلى وضع أفضل منه .
ما كان الإنسان في حاجة إلى التفكير والتمييز والخلق والتخيل والإرادة والإفصاح عن هذه جميعها لو لم يكن العالم الذ يسكنه عالماً إزدواج ثم تناقض كل ما فيه . فذكر وأنثى ، وبعيد وقريب ، وطويل وقصير وحار وبارد ، وثقيل وخفيف ، وأبيض وأسود ، وحلو ومر إلى آخر ما هنالك من متناقضات .
ولا كان القلق والشوق لولا الحاجة الدائمة إلى الاختيار ما بين هذا الشيء ونقيضه ، أو ذلك الفكر وعكسه ، أو هاتيك العاطفة وأختها التي على الطرف الآخر منها . فنحن مدعوون في كل لحظة من وجودنا إلى التافكير والتمييز والاختيار - أي إلى النقد .