""""""""""""""""""""
ما زلنا نحمل أثقالاً من الفوضى ،تتيه خطواتنا في الدروب المقفرة ..نعد أيامنا المنهزمة ،تكبلنا الهموم رغما عنا ..أستيقظُ في الصباح متعبا والعرق يتقاطر من جسدي المنهك ..اسمع اطلاقة رصاصة ..مالجديد؟ ..كل يوم نسمع اطلاقات تمزق ضجيج الذاكرة ..لا أحتاج إلى استطلاع ماحدث..الرصاص يلعلع يوميا في أجوائنا المسمومة..جاءني صوت ابنتي الصغيرة من خلف الباب الموصد:
_بابا.. بابا ..مازن إبن جيراننا ..انتحر .
حتى لا أعرف من هو مازن ..بيت ضيق يكتظ بكثير من الأولاد ..لماذا انتحر مازن ؟لا أحتاج أيضا للسؤال عن الأسباب ،فكل الأسباب تشابهت لدينا كأيامنا العقيمة ..قبل يومين رأيت امرأة ملفوفة بعباءتها محمولة على الأكتاف ..سمعتُ من أحدهم أنها انتحرت باطلاق رصاصة في فمها ..أدخلوها للمستشفى وغابت عن عيني ..ليس الكبار وحدهم من ينتحرون ..حتى الأطفال تتفجر عندهم شهوة الانتحار ..طالب إبتدائي ..شنقَ نفسه بحبل علّقهُ بمروحة السقف ..كنت أظن أنه فشل في امتحان مدرسي ..وتبين لي فيما بعد انه كان يقلّد
طفلاً في فيلم أمريكي شاهده قبل ليلة ..نهضتُ من سريري ولبست ملابسي على عجل ..تناولت كسرة صمونة وشاي ..وخرجتُ لمواساة جيراني ..من العيب أن اتركهم في محنتهم هذه دون مواساتهم ..في المستشفى ..رأيت جثته ..رصاصة واحدة في مؤخرة رأسه ..شاب ينتحر باطلاق رصاصة من الخلف ..ربما يحدث هذا ..للموت طرق كثيرة ..مرة سمعتُ أن امرأة ..دخلت إلى الحمّام بلّلت جسمها بالماء ثم مدّت يدها لسلك الكهرباء وماتت على الفور ..ذات مساء كنتُ جالسا في المقهى على ناصية الشارع ..يجلس معي صديق قديم ..رأيته يدخّن بشراهة لم أعهدها عنده من قبل ..أحصيتُ مادخّنه من سجائر خلال ساعة واحدة أكثر من عشر سجائر ..سألته عن عدد علب السجائر التي يدخنها في اليوم الواحد ...قال لي مفتخرا :
_خمس علب سجائر .
أثار استغرابي ...نظرتُ إليه طويلا ثنم سألته :
_أليسَ هذا انتحاراً ...ضحكَ من قولي ..و أنشغل باعداد سيجارة ثانية بدلاً عن التي في يده ..قلت له :
_إذا أردتَ الانتحار فعلا ..أُعلّمك على طريقة أسرع وأقل مؤونة ..نظر إلي ساخرا وقال لي بتهكّم :
_علّمني على واحدة من تلك الطرق .
_أغلق عليك غرفتك وضع سم الفئران في قدح يرتقال ..أشربهُ على مهل ..ستجد أنها طريقة مريحة أفضل من الرصاص والشنق والحرق ..لم أكن اتوقع وأنا أنظر إلى صاحبي المبعوج من فروة رأسه من الخلف ..أن صاحبي المدخّن قد فعلها ..لقد قتل نفسه بسم الفئران بعد أن اقفل الباب من الداخل حتى لا يسعفه أحد ..كم شعرتُ بالذنب ؟ أنا قتلته وليس شخصا آخر ..منذ ذلك اليوم وأنا اخشى الخوض في حديث الانتحار..بعد التحقيقات .. ثبتَ أن إبن جيراننا تم قتله من قبل عصابة منفلته .وأنه لم ينتحر كما أُشيع َحينها ..مرة قرأت في كتاب علم النفس ..كان فيه فصلاً كاملا عن الأسباب والدوافع للانتحار ..يقول الكاتب ..إن فكرة الانتحار فكرة ثابتة مبيّتة وليست وليدة اللحظة ...إذن متى جعل صاحبي فكرة الانتحار ثابتة لديه وليس بيني وبين حادثة انتحاره سوى ثلاثة أيام ..عند جسر الشهداء كنت قد بلغتُ منتصفه ..رأيتُ شاباً يتسلق الجسر وقد ساد حركاته ارتباك كبير ..ينظرُ في كل الاتجاهات بجنون ..وقفَ على سطح سور الجسر العلوي وتهيأ للانتحار ..المارّة الذين رأوه لم يحفلوا بما يصنع ..ربما لم تخطر في بالهم أنه سيقوم بعملية انتحار ..أسرعتُ للامساك به من قدميه ..تخلّخل وضعه وأمسكَ بي من عروة سترتي صائحا :
_لماذا تريد أن ترمي بي من فوق الجسر ؟
_بالعكس أنا أريد منعك من ارتكاب تلك الجريمة بحق نفسك ..فجأة تجمع حولي مجموعة من الشبان ..خمّنتُ أهم يعرفونه .وقد صدق ظني ..حين ناداه أحدهم باسمه .قال لهم وهو يمسك بي بشدة:
_هذا الرجل يريد قتلي ..حاول أن يرميني من فوق الجسر.
-_لاتصدّقوه ..أنا رأيته يحاول الانتحار والقفز من الجسر فأمسكتُ به ..تلك الضربات التي تلقيتها على وجهي والركلات التي أوجعت خاصرتي .. جعلتني أصرخ بهم :
_والله العظيم أنا حاولت منعه من الانتحار ..لم يصدقوني وحاولوا ثانية أن يضربوني ..صاح أحدهم:
_أيها الغبي ..هو من طلب منّا أن نصوّره وهو يقف على سور الجسر ..أترى تلك النوارس التي تحلق فوق الجسر .؟
--نعم.. إني أراها ..
_هو يريد صورة جميلة يهديها لحبيبته ليبدو فيها يمسك بالنوارس ..أفهمتَ الآن ؟!