مقدمة:

المواطنة في مهدها الأول في صدر الحضارة الرومانية كانت ترتكز في المقام الأول على دعامة واجبات والتزامات المواطنين، ومع التطور وظهور الحركات السياسية والحقوقية وتغير المنظومة السياسية العالمية وظهور نظم الديموقراطية الليبرالية التي سعت إلى توسيع نظرية المواطنة بتوفير الدعامة الثانية للمواطنة وهي المواطنة الحقوقية والتي قسمت حقوق المواطنة إلى ثلاثة مكونات: أول تلك المكونات هي المواطنة المدنية، والتي تعد أحدى أهم نتائج القرن الثامن عشر، والتي أقر، من خلالها، بعض الحقوق المدنية مثل: حرية التعبير والفكر والحريات الدينية، وكذلك إقرار لمبدأ المساواة أمام القانون. ويأتي المكون الثاني وهوالمواطنة السياسية، والذي ظهر مع القرن التاسع عشر، وتأكد فيه على الحقوق الخاصة بالمشاركة في إدارة الشأن العام للبلاد والمشاركة السياسية مثل الحق في التصويت والترشيح للوظائف العامة. ومع القرن العشرين ظهر المكون الثالث وهو المواطنة الاجتماعية، وهوالمكون الذي يعتني بضمان حد أدنى من الأمن الاقتصادي للمواطن لحمايته من قوى السوق خاصة بعد أن ظهر على السطح عيوب الممارسات الرأسمالية وهوما كان يعني بالضرورة تدخل الدولة لضمان حدود دنيا من الأمن المادي والاقتصادي لرعاياها[1].

وباتت المواطنة رابطاً اجتماعياً وقانونياً بين الأفراد والمجتمع السياسي الديموقراطي. وهو ما يعني أن المواطنة تستلزم إلى جانب الحقوق والحريات مسئوليات والتزامات، وبدونهما يفشل المشروع الديموقراطي.

مفهوم المواطنة:

  المواطنة كلمة تتسع للعديد من المفاهيم والتعريفات  فالمواطنة في اللغة مأخوذة من الوطن وهومحل الإقامة والحماية. مواطنة هوتصريف مفاعلة من كلمة وطن‏,‏ والعرب عرفوا الوطن معرفة مبسطة فهو مجرد مقر اقامة‏,‏ مستندين الي الشرح القاموسي لكلمة وطن‏,‏ ففي قاموس لسان العرب‏,‏ نجد أن الوطن هومحل إقامة الإنسان. الوطن هو المنزل الذي نقيم به وهو موطن الإنسان ومحله‏,‏ ويقال أوطن فلان أرض كذا أي اتخذها محلا وسكنا‏,‏ ويكاد هذا التعريف أن يتطابق مع مختلف القواميس العربية.

ولعل هذا التعريف قد أتي إلينا من زمان يسبق قيام الدولة‏/‏الوطن‏,‏ ففيما قبل الدولة الحديثة كان تعريف الوطن هوتلك المساحة من الأرض التي تقيم فيها جماعة من البشر يكونون قبيلة أوجماعة عرقية أودينية‏.‏ ويذكر العلواني أن الاهتمام بهذا المصطلح قد نشأ مع ظهور الدولة الحديثة وحدودها الجغرافية والسياسية. ولفظ "مواطن" تعبير لم يظهر إلا بعد الثورة الفرنسية سنة(1789) م. لكننا يتعين علينا ولكي نتفهم كل ما سبق وكل ما سيأتي أن نعود الي أصل كلمة مواطن سواء في أثينا أو روما القديمتين‏,‏ ففي كلا البلدين كانت المواطنة والمساواة محصورة فقط بين الصفوة‏,‏ أما العبيد والنساء والغرباء والذين لا يمتلكون عقارا فليسوا مواطنين بالمعني المفهوم‏.‏ وكان ثمة فارق بسيط بين مواطنة أثينا التي تستند الي مايمكن وصفه بأنه مساواة بين المتساوين أي بين أفراد من النخبة التي تمثلها قبائل أثينا العشر والتي تستبعد من إطارها غير المتساوين‏,‏ أي النساء والعبيد وغير الملاك‏,‏ وبين مواطنة روما التي قد قامت علي أساس العمل المشترك من أجل تحقيق المصالح المشتركة‏,‏ والمصالح المشتركة هذه تفرض نفسها علي الجميع كحزمة متكاملة لا يجوز الانتقاص منها‏.‏

ومن حيث مفهومها السياسي فالمواطنة هي (صفة المواطن الذي يتمتع بالحقوق ويلتزم بالواجبات التي يفرضها عليه انتماؤه إلى الوطن)، وفي قاموس علم الاجتماع تم تعريف المواطنة: بأنها مكانة أوعلاقة اجتماعية تقوم بين فرد طبيعي ومجتمع سياسي (دولة) ومن خلال هذه العلاقة يقدم الطرف الأول (المواطن) الولاء، ويتولى الطرف الثاني الحماية، وتتحدد هذه العلاقة بين الفرد والدولة عن طريق أنظمة الحكم القائمة.

ومن منظور نفسي: فالمواطنة هي الشعور بالانتماء والولاء للوطن وللقيادة السياسية التي هي مصدر الإشباع للحاجات الأساسية وحماية الذات من الأخطار المصيرية. وبذلك فالمواطنة تشير إلى العلاقة مع الأرض والبلد.

والمواطنة بصفتها مصطلحاً معاصراً تعريب للفظة (Citizenship) التي تعني كما تقول دائرة المعارف البريطانية: (علاقة بين فرد ودولة كما يحددها قانون تلك الدولة، وبما تتضمنه تلك العلاقة من واجبات وحقوق متبادلة في تلك الدولة، متضمنة هذه المواطنة مرتبة من الحرية مع ما يصاحبها من مسؤوليات). واذا رجعنا الي الانسكلوبيديا الأمريكية نكتشف أن مفهوم المواطنة الأمريكية يتسع ليضمن حقوق متساوية لمهاجرين أتوا في مجموعات كبيرة من عديد من البلدان‏,‏ ومن ثم اتسع محققا أيضا وفي ذلك الوقت المساواة الكاملة بين الجميع‏,‏ ومع الحاجة في الحد من هجمات الهجرة الجماعية صدر عام‏1925‏ قانون يمنع الهجرة الجماعية ويحرم المواطن من الجنسية اذا حصل طوعا علي جنسية أخري أو خدم في جيش بلد آخر‏,‏ لكن المحكمة العليا أصدرت حكما شهيرا في عام‏1967‏ مؤداه لا يجوز سحب الجنسية من مواطن أمريكي إلا بإرادته الحرة‏.‏

ويقصد بالمواطنة العضوية الكاملة والمتساوية في المجتمع بما يترتب عليها من حقوق وواجبات. وهو ما يعني أن كافة أبناء الشعب الذين يعيشون فوق تراب الوطن سواسية بدون أي تمييز قائم على أي معايير تحكمية مثل: الدين أو اللون أو المستوى الاقتصادي أو الانتماء السياسي والموقف الفكري.

ويرتب التمتع بالمواطنة سلسلة من الحقوق والواجبات ترتكز على أربع قيم محورية هي: المساواة، والحرية، والمشاركة، والمسئولية الاجتماعية[2].

ويمكن القول إن فكرة المواطنة الغربية قد لخصها كلولوفور في قوله لا يوجد إنسان واحد فائض عن الحاجة فالوطن يضم الجميع ويحتاج الجميع‏.‏

 

المواطنة حقوق:

يرى البعض أنها وطبقا للصيغة اللغوية للمواطنة هي (مُفاعلة)، وهي مفهوم اعتباري شأنه شأن أي مفهوم آخر مثل الحب والسياسة.. أي أنها مشتقة من منشأ سابق عليها موجود مثل الوطن، الأرض.. فالمشرع القانوني أوالدستوري نظّمَّ العلاقة ما بين الأرض والإنسان وأعطاها عنوان (المواطنة).

إذن هي مسألة اعتبارية مشتقة من أمور سابقة عليها فهي غير منزلة من السماء ولا نابعة من الأرض مثل الشجر. ولتقريب مفهوم (الاعتبارية) نضرب مثلاً، عملية البيع والشراء.. حيث توجد مادة ويوجد بائع وكذلك مشترٍ فالعلاقة التي تنظم هذه العناصر الثلاثة غشاً اوصدقاً هي علاقة اعتبارية.

فالمواطنة قوتها وضعفها بقوة وضعف مناشئ الانتزاع، فكما يوجد بيع سليم وآخر باطل، كذلك توجد مواطنة قوية وأخرى خاملة، بينما لا يوجد كرسي يسمى فاسد وآخر سليم. فالمواطنة هي علاقة الإنسان بهذا الوطن وهي قضية اعتبارية خاضعة للتطور وخاضعة للارتفاع والهبوط من خلال نوعية العلاقة بين هذا الإنسان والأرض أوالمجتمع. فلو افترضنا أن هذا الوطن بدساتيره ومواقفه السياسية أساء للإنسان الذي يعيش على أرضه، نجد أن علاقة المواطنة تضعف بطبيعة الحال. ولذا المواطنة ليست شيئاً مقدساً أوأثيرياً أومثالياً، فعلاقة المواطنة تشتد أو تقوى إذا أعطي لهذا الإنسان حقوقه واستجيب لحاجاته الأساسية. فالوطن بهذا المعنى ليس هو الأرض وإنما هو النظام السياسي الذي يعطي لصفة مواطنيه الثبات والاستقرار.

يمكننا أن نخلص من كل ما سبق أن المواطنة هي كلمة تدل على طبيعة العلاقة العضوية التي تربط ما بين الفرد والوطن الذي يكتسب جنسيته، وما تفرضه هذه العلاقة أوالجنسية من حقوق وما يترتب عليها من واجبات تنص عليها القوانين والأعراف،وتتحقق بها مقاصد حياة مشتركة يتقاسم خيراتها الجميع.

مع أن المواطنة تتسع باتساع الدولة إلا أن الدولة باعتبارها كياناً معترفاً به جغرافياً وسياسياً قد تضم مواطنين لهم جنسيات أخرى وليست لهم التزامات المواطنين ذاتها، وبالمثل فهم لا ينتفعون بالامتيازات ذاتها التي ينتفع بها المواطنون وفي كل الأحوال ترتبط المواطنة بالدولة القائمة التي لها سلطات إدراية ولها نظم عاملة، ولها دستور وقوانين ولم تعد المواطنة محصورة في ولاء عشائري ولا قبلي ولا طائفي ولا عرقي ولا طبقي.. بل يتجاوز الولاء هذه الأطر الضيقة ليرتبط بالوطن الأم الحاضن للجميع.

ويذهب الباحثون فى علم الاجتماع الى تعريف المواطنة في المجتمع الحديث نموذجياً (أي كنموذج نظري) على أنها علاقة اجتماعية تقوم بين الأفراد والمجتمع السياسي (الدولة)،  حيث تقدم الدولة الحماية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية للأفراد، عن طريق القانون والدستور الذي يساوي بين الأفراد ككيانات بشرية طبيعية، ويقدم الأفراد الولاء للدولة ويلجؤون إلى قانونها للحصول على حقوقهم. ومن مميزات هذا التعريف أنه بالإضافة إلى كونه نمطياً من الناحية النظرية فهو، في الوقت نفسه، إجرائي منهجي يتيح دراسة المواطنة وقياسها وتحديد مستوياتها والتنبؤ بأبعادها وآفاقها وتقييم وتقويم أدائها في أي مجتمع.

فمن الواضح في هذا التعريف أنه يتضمن آلية التعاقد (العقد الاجتماعي) فحين يفترض أن تكون الحكومة التي تسير الدولة هي المسؤولة عن ترسيخ الشعور بالمواطنة، فإنها إذا أخلت بشروط العقد، أي إذا لم تؤمن الحماية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للأفراد ولم تساو بينهم عمليا أمام القانون، كان من الطبيعي أن يخف إحساس الأفراد بشعور المواطنة والولاء لقانون المجتمع ـ الدولة التي يعيشون في ظهرانيها ـ وأن يبحثوا عن مرجعية أخرى تحميهم، أوتقدم لهم شعورا ولوكان وهميا بهذه الحماية، كالعودة إلى الارتباط بالجذور الدينية أوالطائفية والعائلية والقبلية والعرقية والإقليمية. ولتوضيح ما هو واضح فيما نرمي إليه، دعونا نقوم بتمرين بسيط بواسطة طرح الأسئلة التالية:

- ماذا يفعل المواطن الذي يتقدم لمسابقة انتقاء عمال أوموظفين حين يجد أن المواطن الآخر الأقل كفاءة أوالأقل تمتعا بشروط المسابقة قد قبل وهو غير مقبول؟ بأي جهة انتماء يستنجد وبماذا سيشعر؟ ‏

ـ ماذا يفعل أبناء المنطقة الإقليمية من الوطن عندما يشعرون بالغبن من الخدمات التنموية للدولة في منطقتهم مقارنة بمناطق أخرى من البلاد؟

ـ ما نوع الانتماء الذي يشعر الناس به أوالذي سينمو لديهم، والى أين يتوجهون باختياراتهم، عندما يجدون القوائم الانتخابية مهيأة على أساس الطائفة أوالعشيرة أوالقبيلة، ولوكانت باسم أحزاب ومنظمات وقنوات حديثة، أو عندما يصر المرشح على الإيحاء بعشيرته أوقبيلته في إعلانه الانتخابي؟ كيف للمواطن أن يستشعر حس المواطنة وهو يسمع ويرى أن الوطن يتم اختزاله بفئة معينة وأن المسؤولية بيد فئة دون فئة؟

ـ ما نوع الانتماء والشعور الذي سيستمر لدى الناس المهاجرين إلى ضواحي المدن الكبرى وأطواق الفقر عندما لا يجدون العمل ولا يتمتعون بالخدمات التي يتمتع بها مواطنوهم في المدينة نفسها؟ وما دلالة تجمعهم على أسس طائفية أومناطقية أوعرقية؟

 

المواطنة مسؤوليات وواجبات:

يرى البعض أن المواطنة ما هي إلا المشاركة النشطة في جماعة أوعدد من الجماعات، وتتضمن الإحساس بالارتباط والولاء لمفهوم الدولة أوالنظام المدني Order Civic  وليس شخص ملك أورئيس وتقوم على فكرة الانتماء والأشياء المشتركة، وهوما يعني أن المواطنة هي عضوية نشطة في مجتمع سياسي في إطار من الحقوق والمسئوليات التي يحددها الدستور والقانون.

وقد استدعى مفهوم المواطن بناء مؤسسات المواطنة (أحزاب، جمعيات، تنظيمات) ليتشكل فيها، ويتدرب في إطارها، ويعبر من خلالها عن مشاغله. فتأسست – بالتالي – علاقات المواطنة التي كسرت حيز علاقات القربى الهرمية، لتعبر عن المساواة بين البشر أمام القانون، ولتستشرف إمكانات التجاوز. ويمثل المواطن بالتالي حيز المجال العام المدني؛ فهو النقطة المحورية لأي تبادل نوعي بين البشر، وهو الفرد القيمة الذي بحبه لذاته يحب الآخرين، وببحثه عن منافعه الخاصة يحقق المنافع العامة[3].

وفي دراسة حديثة لمؤسسة ملتقى الحوار للتنمية وحقوق الإنسان صدرت  في أكتوبر 2007 تحت عنوان المواطنة حقوق وواجبات تناولت مدى التزام المواطنين المصريين بالواجبات القانونية والإلزامية التى تفرضها المواطنة. وقد ألقت تلك الدراسة الضوء على الجرائم التي رصدتها المؤسسة والتى تمثل فى مجملها إخلالاً من قبل بعض المواطنين في الوعى بواجبات المواطنة وذلك خلال سبعة أشهر من يناير 2007 وحتى يوليومن ذات العام حيث رصدت الدراسة فى هذا الإطار 93 جريمة. وقد أظهرت الدراسة أن أكثر من 24% من مرتكبي الجرائم التي رصدتها الدراسة من العاطلين، كما أشارت إلى أن 18% من الجناة من العمال وأن 15% مسجلين خطر، وأن 12% من الجناة هم من العمال أصحاب الحرف الخاصة ( نجار، كهربائي..الخ)[4].


مظاهر المواطنة[5]:

1- المشاركة التطوعية والتلقائية والاختيارية على شكل أنشطة اجتماعية مختلفة نافعة .

2- التشبث بالقيم التي لها القابلية لدى الجميع .

3- تكييف السلوك حسب المعايير الوطنية والعالمية التي تؤطر الحياة الفردية والاجتماعية والثقافية .

4- توجيه السلوك الأخلاقي والشعور بالهوية والبحث عن الحقيقة وقول الحق ، التحضر واكتساب الحس المدني الرفيع ، احترام المرأة وتقديرها والعدل والتنازل والحوار وقبول الآخر ، والتعايش مع الغير والتآخي والتضامن، الاعتدال والتسامح .

5- حماية الأملاك العامة والملكية الخاصة.

6- احترام القوانين السارية المفعول.

7- احترام الديانات ومعتقدات الآخرين وثقافاتهم وآرائهم.

8- احترام حقوق وحريات الآخرين و خاصة احترام النساء و الأطفال

9- خدمة الوطن بإخلاص والحفاظ على مكتسباته والدفاع عنه .

10- محاربة الفساد والإبلاغ عن كل عمل ضار .

11- أداء الالتزامات والأعباء المالية والواجبات الضريبية.

12- المبادرة إلى المشاركة في الواجبات التضامنية .

13- المشاركة في الانتخابات والترغيب في هذه الواجبات والحقوق وهذا يدفعنا إلى الحديث عن مقتضيات المواطنة.

المواطنة والعولمة:

في ظل المفهوم الجديد للعولمة وما أتت به من تحولات سياسية واقتصادية وثقافية وعلمية وتقنية فقد أصبح العالم وطننا الأكبر أوكما يقال قريتنا الكوكبية التي نسكن فيها  ومن ثم ظهر ما يعرف بالمواطنة العظمى أو المواطنة العالمية (Global Citizenship). والمواطنة بمفهومها القومي لها قيمها وبمفهومها العولمي لها قيم خاصة بها؛ فالمواطنة من مفهومها القومي لها قيمها مثل: الولاء، وحب الوطن، وخدمة الوطن بإخلاص والتعاون والمشاركة في الأمور العامة بين المواطنين. أما المواطنة بمفهومها العولمي فهي تتطلب: السلام، والتسامح الإنساني واحترام ثقافات الآخرين وتقديرها والتعايش مع كل الناس، كذلك التعاون مع هيئات ونظم وجماعات وأفراد في كل مجال حيوي كالغذاء والأمن والتعليم والعمل والصحة.

وإذا كان سؤال المواطنة في الماضي يركز على كيفية إدماج الأفراد كمواطنين ضمن إطار الدولة الحديثة، فإن سؤال المواطنة الآن ينصب على ما يبدو ، على معالجة عجز الدولة الحديثة عن بناء المواطنة والحفاظ عليها بسبب عدم قدرتها على دمج الأفراد وتحقيق المساواة والعدل بين الجميع[6].

ولم يعد مفهوم المواطنة بصورته البسيطة الذي يعني "صفة المواطن الذي يتمتع بالحقوق ويلتزم بالواجبات في إطار الدولة القومية التي يحمل جنسيتها"يستجيب للتحولات المهمة التي تمر بها المجتمعات الأوروبية حاليا ومن أهمها: بروز ظاهرة التعددية الثقافية نتيجة للهجرة العالمية المتزايدة مع قدوم العولمة، فضلا عن تعرض دعائم الدولة القومية للاهتزاز بسبب تنامي النزعات العرقية والقومية، وكذلك ظهور التكتلات السياسية الإقليمية الكبيرة كالاتحاد الأوروبي، والتي وفرت فرصا للانتماء إلى كيانات وجماعات سياسية أكبر وطرح أسئلة عن مصير المواطنة القطرية في ظل هذه الكيانات الجديدة، بالإضافة إلى النمو المتسارع للمجتمع المدني العالمي بتجلياته المختلفة، والذي أخذ يعيد للأذهان مفهوم المواطنة العالمية التي كانت ولا تزال حلم الفلاسفة والمفكرين، وأخيرا وليس آخرا دخول الفردية كتصور مثالي لتجسيد حرية وكرامة الفرد، في أزمة حادة نتيجة للتطرففي ممارستها إلى حد تهديد نسق القيم الذي يحكم العقد الاجتماعي، مما أثر على التضامن الذي يمثل أساسا وقاعدة في أي مجتمع سياسي[7].

والمواطنة بمفهومها العالمي لا تمسح أو تلغى المواطنة بمفهومها القومي فبدون تلك الأخيرة لا وجود للمواطنة بمفهومها العالمي فكلاهما يعاضد الأخر.

المواطن العالمي شخص حضاري يعتبر العالم كله وطنا له وهوشخص يمتنع عن التركيز علي الولاءات القبلية أوالعرقية أوالقومية. هو مرتاب -بصفة خاصة- في استخدام هذه الولاءات كمعيار في التدابير الأخلاقية، ولن يحس بأي شعور للاستعلاء لهويته الثقافية أوالعرقية، ولكنه يري نفسه جزءا مركبا من عدة إمكانات تشكل هويته. إنه يمكن أن يعلم الناس أن يكونوا مواطنين عالميين نسبيا ومتسامحين. وما لم تأخذ المؤسسات التعليمية في الحسبان الحاجة الجديدة إلي تنمية التسامح فإن التصادم والصراع قائم أويزيد وعلي ذلك يجب علي المدارس والجامعات أن تركز بإرادة قوية علي الأهداف العامة لتعليم الأطفال كي يصبحوا مواطنين أكثر عالمية وتسامحا وأن يكونوا أكثر استعداداً للمواطنة العالمية. وهو ما يتطلب تجديد الانتباه لأهداف المؤسسات التعليمية ودمجها الواضح بالمواطنة العالمية عند تحديد جودتها ونوعيتها. إن هذا يعكس الوضوح الأخلاقي الذي يعبر عنه مشروع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان كوسيلة أفضل لخلق ظروف للسلام الدائم‏,‏ ويمكن أن ينجح التعليم العالمي للتسامح وحقوق الإنسان في حالة إذا ما تم في وقت واحد في جميع الأماكن والتقدم في التعليم من أجل المواطنة العالمية يجب أن يتم في الوقت نفسه في أماكن مختلفة؛ لأنه من الخطورة الشديدة أن يتم الالتزام من جانب واحد يتعلم الأطفال التسامح والقيم العالمية بينما تشيع بعض الدول الكراهية في نفوس الأطفال.

 

المواطنة والانتماء:

هناك فارق كبير بين المواطنة والانتماء‏,‏ فالمواطن هو الذي يحصل علي جنسية دولة ما‏,‏ بصورة قانونية‏,‏ ولأسباب يحددها هو‏,‏ ولمصالح يسعي الي تحقيقها من وراء حصوله علي جنسية هذه الدولة‏,‏ أما الانتماء فمصدره الارتباط بهذا البلد الذي يحمل جنسيته‏,‏ فهو يرتبط بهذا البلد بوجدان وتاريخ وماض وحاضر ومستقبل‏.‏

فالحصول علي جنسية دولة ما هو إلا إجراء قانوني‏,‏ يتطلب من الراغب في التجنس ان يستوفي متطلبات محددة منها‏:‏ الزواج ممن يحمل جنسية هذه الدولة‏,‏ أو الإقامة لفترة محددة‏,‏ أو أن يكون قد ولد في هذا البلد حتي ولو كان والداه لا يحملان جنسية هذا البلد‏,‏ أو أن يكون قد استثمر في هذا البلد مبلغا مشروطا من المال‏,‏ أو ان يكون ابنا لأم تحمل جنسية هذه الدولة‏,‏ وغيرها من الاشتراطات القانونية التي تؤهل هذا الشخص للحصول علي جنسية دولة ما‏,‏ وفي هذا الاطار فإننا نجد الكثير من المفارقات الغريبة التي تقطع بأن الحصول علي جنسية دولة ما‏,‏ تحمل صفة الاختيار‏:‏ فالقادر في هذه الأيام يمكنه ان يحصل لابنه علي جنسية الولايات المتحدة الأمريكية اذا ما أرسل زوجته لتضع طفلها في أحد مستشفياتها ليؤمن له مستقبلا مضمونا كمواطن امريكي‏,‏ والمقامر يدرج اسمه في يانصيب أو لوتارية الجنسية الأمريكية التي تمنح فيها الولايات الأمريكية الجنسية لعدد محدد من الأفراد كل عام يختارون علي أساس عشوائي من مجمل الأسماء المتقدمة للحصول علي الجنسية‏,‏ والمتميز علميا أو أكاديميا أو في التخصصات الخاصة أو النادرة تستقطبه الدول الكبري ـ وتحديدا الغربية ـ للاستفادة منه بالحصول علي منتج بشري متميز وجاهز لمجرد منحه الجنسية ـ وهو ما يطلق عليه استنزاف العقول‏Brain Drain ‏ ـ وهي عملية تقطف فيها الدول المتقدمة العقول والكفاءات من الدول النامية‏..‏مجمل القول ان الحصول علي الجنسية هي آلية قانونية لها أهداف محددة ومرام ذاتية سواء من الأفراد أو الدول‏.‏ والمهاجر‏,‏ يرتبط بدولة المهجر برباط الانتماء‏:‏ فهناك عقد سياسي واجتماعي يربطه بموطنه الجديد.

أما الانتماء فهو إحساس يولد مع الإنسان‏,‏ ويكبر معه‏,‏ يتفرع في شرايينه‏,‏ ويعيش في وجدانه. والانتماد يتولد عن المصالح‏,‏ وارتباط المواطن ببلده يعتمد في الأساس علي ما تقدمه اليه بلده‏,‏ أو بمنطوق أكثر وضوحا بالمنافع المتبادلة بين المواطن ووطنه‏.‏ الانتماء قدر ولا يقايض‏,‏ وأنظمة الحكم وقتية والوطن ثابت‏,‏ واهتزاز معيار المواطنة لا يعني المساومة علي الانتماء‏,‏ والشعب المصري علي امتداد تاريخه لا يقبل الا بالانتماء لمصر مهما عاني من الفقر أو حتي القهر‏.


وهنا نتساءل: لماذا لانري في مصر سمة المواطنة الحقة في هذه المرحلة من تاريخنا المعاصر؟

إن المواطن المصري قد فقد إلي حد كبير سمة المواطنة فهو لايحترم القانون بل يخاف من الأمن‏,‏ وهو لايري أن له دورا يؤديه كمواطن‏,‏ بل هو مهمش عن المشاركة في حل المشاكل التي يمر بها وطنه‏,‏ والتي تمسه نارها وتمس حياته بصورة مباشرة ومن ثم فقد نأي بنفسه عن المشاركة السياسية كمواطن‏,‏ بعد أن شعر أنه يعاني من غربة في وطنه‏؛ فالحياة السياسية مقصورة علي حزب أوحد‏,‏ والاوضاع الاقتصادية تلتهم حياته‏,‏ والتمايز الطبقي جعله يشعر بعدم الانتماء ـ حتي في حدوده الدنيا ـ خاصة بعد أن وصل التمييز بين المواطنين إلي مرحلة شراء القادرين وذوي المراكز والمناصب لامتحانات الثانوية العامة المؤهلة لدخول بعض الجامعات الحكومية والتي كانت تتميز دوما بالتكافؤ والعدالة والشرف‏,‏ مما كان له الفضل في اتاحة الفرصة أمام غير القادرين ماديا‏,‏ أن يتفوقوا علميا ويكونوا فئة من العلماء والمتخصصين والأطباء والمهندسين والمهنيين المتخرجين من كليات القمة‏,‏ الذين ينتمون للطبقة المتوسطة ودون المتوسطة‏.‏

تعميق المواطنة:

·   تطبيق مبدأ تكافؤ الفرص وحظر التمييز خاصة في مجال العمل والتي تمس حياة الناس جميعاً، متضمناً وسائل التقدم للعمل وتنظيم الاختبارات لشغل الوظيفة وحق المواطن في الحصول علي شهادة تكشف النقاب عن اسباب عدم قبوله وتنظيم كافة التزامات أرباب العمل تجاه المواطن سواء كانت الحكومة أو القطاع العام أو الخاص أو الاهلي؛ لتحقيق مبدأ تكافؤ الفرص وعدم التمييز بين المواطنين إلا علي اساس الجدارة الحقيقية مع الاهتمام بحقوق المعاقين وأصحاب الاحتياجات الخاصة في شغل وظائف حقيقية لهم والبحث في موقف الجهات التي قد تتجه إلي عدم تعيين الأقباط ونفس الوضع للجهات التي قد تعين أقباطاً دون المسلمين، وضرورة انتهاء المحسوبية والواسطة، فنحن في حاجة إلي مجتمع بلا معسكرات ذات نسيج واحد. والالتفات بجدية إلى المشكلة الطائفية في مصر؛ فقد انتهت إحدى الدراسات إلى أن هناك ثمة مشكلة طائفية حقيقية في مصر، لا يصلح معها التهوين من قبل الدولة؛ وإنما ضرورة إيجاد السبل لإعادة بناء الوطنية المصرية على أسس موضوعية[8].

·   خطورة التمييز ضد المرأة في العمل، فليس من المقبول ان يرفض البعض تشغيل المرأة بسبب حصولها علي إجازات رعاية الأطفال والحمل والولادة وغيرها. يظهر مبدأ تكافؤ الفرص بالنسبة لعمل المرأة الكثير من التناقضات حتى في أوروبا؛ فدائما ما تكون المرأة هي الضحية لأن المستوي التعليمي متساو بين المرأة والرجل وبالرغم من تلك لاتزال فرص العمل للمرأة أقل ولا يزال هناك عدم مساواة بالنسبة للنساء في تولي المراكز القيادية والاقتصادية والعلمية ولايزال أجر المرأة أقل من الرجل حتي وان قام الاثنان بالعمل نفسه.

·   الانتهاء من مراجعة المناهج الدراسية بواسطة الخبراء المختصين لتنقية المناهج من أي تمييز بين المواطنين مهما كانت اختلافات المكانة الاجتماعية أو الجنس أو الدين.

·   ضرورة رفض التهميش لفئات فى المجتمع، مع قبول مبدأ التعددية الثقافية والتعبير عنها؛ فدولة المواطنة هى دولة القانون والحرية والعدالة. يتساوى فيها المواطنون أمام القانون. وهى قوية بوحدتها، وثرية بتعدديتها.

·   نشر الديموقراطية في إطار النظام العام واحترام مصالح المجتمع ومصالح الأفراد داخله ولو اقتنعنا بحق الفرد في التعبير عن رأيه والاختلافات في الرأي والتأكيد على أنه لا يمتلك أحد الحقيقة المطلقة وهي غير موجودة إلا في الذات العليا وهي وجود الله سبحانه وتعالي فقط وهذه هي الحقيقة الوحيدة وغير ذلك هي حقائق نسبية والفكر أيضا نسبي ومن حق كل فرد أن يعتقد في شيء وأن يتحاور حوله ويختلف أو يتفق مع غيره ويجب علي المحاور أن يعترف بحق من يحاوره في الاتفاق والخلاف وحقه في إبداء الرأي. ولكل مواطن الحق في إبداء رأيه سواء اختلف أو اتفق مع الآخرين ويجب أن يعبر عن وجهة نظره بحرية كاملة طالما ان هذا الحوار لم يتعرض للكيان الوطني أو النظام العام أو صالح المجتمع.

·   تغيير البرامج الإعلامية بشكل جذري؛ فالإعلام المصري لا يشجع علي إقرار وتأكيد أفكار المواطنة وأفكار المساواة بين الأفراد بعضهم بعضا فهو إعلام يفرق ويفرز بين الحاكم والمحكوم وبين الغني والفقير وبين المنتمي الى مجتمع ومجتمع آخر وهي أفكار تتنافي وفكر المساواة بين الأفراد.


[1] سعيد عبد الحافظ (تحرير)، المواطنة: حقـوق و واجـبات، مركز ماعت للدراسات الحقوقية والدستورية، القاهرة، 2008 ص ص 11-12.

[2] هاني عياد (تحرير)، المواطنة في التعليم، الهيئة القبطية للخدمات الاجتماعية، سلسلة إصدارات منتدى حوار الثقافات (26)، القاهرة، 2004 ص ص 11-12.

[3] أماني قنديل (تحرير)، الموسوعة العربية للمجتمع المدني، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2008 ص 106.

[4] سعيد عبد الحافظ (تحرير)، مرجع سابق، ص ص 23-25.

[5] أ.د. جعفر شيخ إدريس، مجلة البيان، العدد 211، ربيع الأول 1426 هـ.

[6] الأب وليم سيدهم اليسوعي (تحرير)، المواطنة عبر العمل الاجتماعي والعمل المدني، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2007 ص 18.

[7] إبراهيم أحمد إبراهيم، مفهوم المواطنة بين المحلية والعولمة: مصر نموذجا، عرض لرسالة دكتوراه بنفس العنوان للباحث قايد دياب قايد، كلية الآداب، جامعة بنها، 2006، شؤون اجتماعية، العدد 101، ربيع 2009، السنة 26 ص ص 273-274.

[8] المرجع السابق، ص 280.

المصدر: إعداد: د. صابر أحمد عبد الباقي - كلية الآداب جامعة المنيا
  • Currently 223/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
71 تصويتات / 4622 مشاهدة
نشرت فى 9 فبراير 2010 بواسطة drsaber

ساحة النقاش

drugsaddiction

مصادر مقالاتك ترسم شخصك الكريم شكرا على المقال

د. صابر أحمد عبد الباقي دكروري

drsaber
مدرس علم الاجتماع كلية الآداب جامعة المنيا »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

415,450