كتب الدكتور محمد أمين
قد اختلف العلماء فى المراد بقوله تعالى :- الصيام لى وانا اجزى به) مع ان الاعمال كلها له و هو الذى يجزى بها الى اقوال
احدهما ان الصوم لا يقع فيه الرياء كما يقع فى غيره ، حكاه المازرى و نقله عياض عن ابى عبيد ، و لفظ ابى عبيد فى غريبه :- قد علمنا ان اعمال البر كلها لله وهو الذى يجزى بها ، فنرى والله اعلم انه انما خص الصيام لأنه ليس يظهر من ابن أدم بفعله و انما هو شىء فى القلب، و يؤيد هذا التأويل قوله صل الله عليه وسلم : ,, ليس فى الصيام رياء حدثنيه شبابة عن عقيل عن الزهرى فذكره يعنى مرسلا قال ك و ذلك لأن الاعمال لا تكون الا بالحركات ، الا الصوم فانما هو بالنية التى التى تخفى عن الناس ، و هذا وجه الحديث عندى ، انتهى ، و قد روى الحديث المذكور البيهقى فى الشعب من طريق عقيل ، و اوردة من وجه اخر عن الزهرى موصولا عن ابى سلمة عن ابى هريرة و اسنادة ضعيف و لفظة (الصيام لا رياء فيه . قال الله عز وجل : هو لى وانا اجزى به )و هذا لو صح لكان قاطعا للنزاع . و قال القرطبى لما كانت الاعمال يدخلها الرياء والصوم لا يطلع عليه بمجرد فعله الا الله فأضافه الله الى نفسه ، و لهذا قال فى الحديث : -(يدع شهوته من اجلى )و قال بن الجوزى :- جميع العبادات تظهر بفعلها وقل أن يسلم ما يظهر من شوب ، بخلاف الصوم ، و ارتضى هذا الجواب المازرى و قرره القرطبى بأن اعمال بنى ادم لما كانت يمكن دخول الرياء فيها أضيفت اليهم ، بخلاف الصوم فان حال الممسك شبعا مثل حال الممسك تقربا يعنى فى الصورة الظاهرة . قلت : معنى النفى فى قوله (لا رياء فى الصوم )أنه لا يدخله الرياء بفعله ، و ان كان قد يدخله الرياء بالقول كمن يصوم و يخبر بأنه صائم فقد يدخله الرياء من هذه الحيثية ، فدخول الرياء فى الصوم انما يقع من جهة الاخبار ، بخلاف بقية الاعمال فأن الرياء قد يدخلها بمجرد فعلها . و قد حاول بعض الأئمة الحاق شىء من العبادات البدنية بالصوم فقال : ان الذكر بلا اله الا الله بمكن الا يدخله رياء ، لأنه بحركة اللسان خاصة دون غيره من اعضاء الفم ، فيمكن الذاكر ان يقولها بحضرة الناس و لا يشعرون منه بذلك
ثانيها - أن المراد بقوله (و انا أجزى به ) انى انفرد بعلم مقدار ثوابه و تضعيف حسناته ، و أما غيره من العبادات فقد أطلع عليها بعض الناس . قال القرطبى :-معناه أن الاعمال قد كشفت مقادير ثوابها و انها تضاعفت من عشرة الى سبعمائة الى ما شاء الله ، الا الصيام فأن الله يثيب عليه بغير تقدير ، و يشهد لهذا السياق الرواية الاخرى يعنى رواية الموطاء و كذلك رواية الاعمش عن ابى صالح حيث قال : ( كل عمل ابن ادم يضاعف الحسنة بعشر امثالها الى سبعمائة ضعف الى ما شاء الله ، قال الله : الا الصوم فانه لى وانا اجزى به ) أى اجازى عليه جزاء كثيرا من غير تعيين لمقداره ، و هذا كقوله تعالى : ( انما يوفى الصابرون اجرهم بغير حساب ). و الصابرون هم الصائمون فى أكثر الاقوال . قلت ، وسبق الى هذا ابو عبيد فى غريبه فقال : بلغنى عن ابن عيينه انه قال ذلك ، و استدل له بأن الصوم هو الصبر لأن الصائم يصبر نفسه عن الشهوات ، وقد قال الله تعالى :( انما يوفى الصابرون اجرهم بغير حساب )
ثالثها -معنى قوله (الصوم لى )أى انه احب العبادات الى والمقدم عندى و قد قال ابن عبد البر ، كفى بقوله (الصوم لى ) فضلا للصيام على سائر العبادات . وروى النسائى وغيره من حديث ابى امامة مرفوعا ( عليك بالصوم فأنه لا مثيل له ) لكن يعكر على هذا الحديث الصحيح ( و اعلموا ان خير اعمالكم الصلاة )
رابعها : الاضافة اضافة تشريف و تعظيم كما يقال : بيت الله و ان كانت البوت كلها لله . قال الزين بن المنير : التخصيص فى موضع التعميم فى مثل هذا السياق لا يفهم منه الا التعظيم و التشريف
خامسها - أن الاستغناؤ عن الطعام و غيره من الشهوات من صفات الرب جل جلاله ، فلما تقرب الصائم اليه بما صفاته أضافه اليه ، و قال القرطبى ك معناه أن اعمال العباد مناسبة لاحوالهم الا الصيام فانه مناسب لصفة من صفات الحق ، كأنه يقول: ان الصائم يتقرب الى بأمر هو متعلق بصفة من صفاتى .
سادسها - ان المعنى كذلك لكن بالنسبة الى الملائكة ، لأن ذلك من صفاتهم
سابعها - انه خالص لله و ليس للعبد فيه حظ ، قال الخطابى : هكذا نقله عياض وغيره ، فأن اراد بالحظ ما يحصل بالثناء عليه لأجل العبادة رجع الى المعنى الاول ( نفى الرياء ) ، و قد افصح بذلك ابن الجوزى فقال ليس لنفس الصائم فيه حظ بخلاف غيره فان له فيه حظا لثناء الناس عليه لعبادته
ثامنها - سبب الاضافة الى الله أن الصيام لم يعبد به غير الله ، بخلاف الصلاة الصدقة والطواف و نحو ذلك . و اعترض على هذا بما يقع من عباد النجوم و الكواكب واصحاب الهياكل فانهم يتعبدون لها بالصيام ، واجيب بانهم لا يعتقدون الهية الكواكب ، و انما يعتقدون انها فعالة بأنفسها ، وهذا الجواب عندى ليس بطائل ، لأنهم طائفتان ، احدهما كانت تعتقد الهية الكواكب وهم من كان قبل ظهور الاسلام ، واستمر منهم من استتمر على كفره ، والاخرى من دخل منهم فى الاسلام و استمر على تعظيم الكواكب و هم الذين اشير اليهم
تاسعها :- ان جميع العبادات توفى منها مظالم العباد الا الصيام ، روى ذلك البيهقى من طريق اسحاق بن ايوب بن حسان الواسطى عن أبيه عن ابن عيينة قال : اذا كان يوم القيامة يحاسب الله عبده و يؤدى ما عليه من المظالم من عمله حتى لا يبقى له الا الصوم ، فيتحمل الله ما بقى عليه من المظالم ويدخله بالصوم الجنة . قال القرطبى : قد استحسنت هذا الجواب الى أن فكرت فى حديث المقاصة وجدت فيه ذكر الصوم فى جملة الاعمال حيث قال ( المفلس الذى يأتى يوم القيامة بصلاة وصدقة و صيام ، ويأتى و قد شتم هذا و ضرب هذا و أكل مال هذا ) الحديث وفيه (فيؤخذ لهذا من حسناته و لهذا من حسناته ، فاذا فنيت حسناته قبل ان يقضى ما عليه أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه ، ثم طرح فى النار )فظاهرة أن الصيام مشترك مغ بقية الاعمال فى ذلك ، قلت ان ثبت قول بن عيينه أمكن تخصيص الصيام من ذلك ، فقد يستدل له بما رواه احمد عن طريق خماد بن سلمة عن محمد بن زياد عن ابى هريرة رفعة (كل العمل كفارة الا الصوم ، الصوم لى وانا أجزى به)
عاشرها :- ان الصوم لا يظهر فتكتبه الحفظة كما تكتب سائر الاعمال و استند قائله الى حديث اوردة ابن العربى فى المسلسلات و لفظه قال الله :الاخلاص سر من سرى اودعته قلب من احب لا يطلع عليه ملك فيكتبه و لا شيطان فيفسده ) و يكفى فى رد هذا القول الحديث الصحيح فى كتابة الحسنة لمن هم بها و ان لم يعملها ،، هذا ما وقفنا عليه من الاجوبة
و نقل عن بعض الزهاد انه مخصوص بصيام خواص الخواص فقال : -ان الصوم الى اربعة انواع : صيام العوام و هو الصوم عن الاكل والشرب والجماع ،و صيام خواص العوام و هو هذا مع اجتناب المحرمات من قول او فعل ، و صيام الخواص و هو الصوم عن غير ذكر الله و عبادته ، و صيام خواص الخواص و هو الصوم عن غير الله فلا فطر لهم الى يوم القيامة . و هذا مقام عال ولكن حصر المراد من الحديث فى هذا النوع نظر لا يخفى
و أقرب الاجوبة التى ذكرتها الى الصواب الاول والثانى و يقرب منها الثامن والتاسع