authentication required

هل قال النبى إن الساعة ستقوم فى حياته؟
إبراهيم عوض
(ردا على المستشرق الفرنسى پول كازانوڤا)

فى كتابه: "Mohammed et la Fin du Monde" (مكتبة پول چيوتنيه/ باريس 1911م)،  الذى ظللت أبحث عنه عشرات الأعوام، ولم أعثر على نسخة منه (ضوئية) إلا منذ سنة تقريبا، يقول المستشرق الفرنسى پول كازانوڤا (Paul Casanova)، ضمن ما يقول، إن من حقه كإنسان غير مسلم أن يشير إلى ما يقول إنها أخطاء محمد. جاء هذا الكلام فى سياق تفتيشه عن السر فى أنه صلى الله عليه وسلم لم يحدد للمسلمين الطريقة التى تنتقل بها السلطة من بعده إلى غيره من المسلمين، إذ كان الرسول، كما يقول، يؤمن بأنه لن تكون هناك حاجة أصلا لأن يخلفه أحد، إذ سوف تقوم القيامة فى حياته وينتهى كل شىء. لقد كان يظن أنه هو الذى بشر المسيح بظهوره عند نهاية العالم.
فأما أن من حق كازانوڤا أن ينظر إلى النبى محمد عليه الصلاة والسلام بعين غير عيون المؤمنين به فهذا من حقه، إذ إن ديننا لا يطالب الناس بالخرور على وجوههم صما وبكما وعميا مؤمنين به وبنبيه وكتابه دون عقل أو تفكير. ولكننا من جهة أخرى نقول له: ابحث كما تشاء، وفكر كما تشاء، ولكن عليك أن تتخلص من تعصبك وتحاول أن تقترب بإخلاص نية وقوة عزيمة مما أتى به محمد صلى الله عليه وسلم وأن تقول كلاما لا يدابر المنطق ويخاصم العقل ويتحداه ويفتئت على وقائع التاريخ فتأتى بتفسيرات بهلوانية تتعامى عن الحقائق الناصعة. بل من حق كازانوڤا أن يكفر بمحمد حتى لو ظهر له الحق ساطعا فى الآفاق، لكن لا يصح أن يلف ويدور محاولا استغفال قرائه بسَوْق أدلّة مضحكة لا يقتنع العقلاء بها. إن أحدا لن يحاسبه على كفره بالإسلام، لكننا سوف نقهقه من بهلوانياته كثيرا.
وأما أن الرسول لم يهتم بأمر حكم المسلمين من بعده فهذا غير صحيح، بل تناولها القرآن والحديث، ولكنهما اكتفيا فى هذا الميدان بإرساء المبادئ العامة لأن أساليب الحكم تختلف من عصر لعصر، والعبرة بالقيم الكريمة التى تحكمها من عدل وشورى واحترام للرعية وسهر على مصالحها وعدم ظلمها أو الانحياز لطائفة أو طبقة منها على حساب طبقة أخرى بدون داع. وقد تكلم القرآن عن الشورى مثلا فى أكثر من موضع فيه. كما طبقها الرسول تطبيقا فى كل تصرفاته ومواقفه السياسية ما لم يكن نزل عليه بشأن الأمر وحى من السماء. وكان الصحابة على مستوى هذا المبدإ فى حياته وبعد مماته صلى الله عليه وسلم. كما تحدث الرسول عن وجوب الرفق بالرعية والعمل على مصلحتها وعدم إرهاقها بما يثقل كاهلها، وبين أن هناك حكاما سوف يأتون من بعده لا يراعون مبادئ الإسلام، وأثنى عليهم شرا وحذر منهم وخَوَّفهم العاقبة الأليمة التى تنتظرهم يوم الحساب. كما نهى الحاكمَ أن يضرب أبشار رعيته أو يأكل مالها أو يظلم أحدا منها بل حذر من ظلم أهل الذمة. أما أنه صلى الله عليه وسلم لم يحدد شخصا بعينه ليخلفه فى الحكم من أهله فهذا أمر طبيعى لأن الله لم يختره للنبوة كى يحولها إلى مكسب شخصىٍّ وأُسْرِىٍّ. كذلك منع الرسول المسلم من التطلع إلى الحكم والتهافت عليه على غير رغبة الناس قائلا إنه لا يولِّى أحدا ولايةً بناء على تشوُّفه وتحرُّقه إليها.
وعلى الناحية الأخرى نهى صلى الله عليه وسلم عن الخروج على الحاكم متى اتفقت الرعية عليه، وهو ما تجرى عليه الأمم الديمقراطية الآن حين تختار الأغلبيةُ حاكم الدولة، فلا يصح حينئذ أن يخرج أو يتمرد أو ينقلب عليه أحد ممن لم ينتخبوه بحجة أنهم لا يريدونه، إذ متى تم انتخابه فلا اعتراض عليه من هذه الجهة. ولو كان الرسول الكريم قد فعل ما يريده كازانوڤا ما سَلِم أبدا من لسان كازانوڤا  وضربائه واتهموه بأنه إنما ادعى النبوة كى يحوز السلطان ويورثه لأهله من بعده. ولقد كان عليه السلام حازما جازما حين عرض عليه المشركون فى مكة توليتهم إياه عليهم، إذ أبى وأعلن فى حسم أنه نبى لا يريد منهم الخضوع لسلطانه بل الانصياع لدعوة الحق التى أتاهم بها. فهو إذن يجرى على ذات المبدإ منذ أوائل نبوته حتى وفاته صلى الله عليه وسلم.
صحيح أن هناك حديثا يقول: "بُعِثْتُ أنا والساعة كهاتين" (وأشار الرسول بإصبعين متجاورين من أصابعه)، لكنى أفهم مرالحديث الكريم على أنه لا نبى بعده، ومن هنا فلن يفصل أحد من النبيين والمرسلين بينه وبين يوم القيامة، فقد روى أبو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمْ الْأَنْبِيَاءُ كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي". ولايمكن فى الواقع أن يكون معنى الحديث غير هذا، فقد تحدث القرآن، الذى ينسب كازانوڤا تأليفه إلى محمد، عن عالمية الإسلام وأن محمدا رسول إلى الناس جميعا، فكيف سينتهى العالم مع موت الرسول، والإسلام لم يفتح العالم بعد؟ كما تنبأ النبى بأن الأرض سوف تُزْوَى لدينه فيبلغ منها ما بلغ الليل والنهار، بمعنى أنه سوف ينتشر فى كل الآفاق. فكيف يحدث هذا إن صح ما يهرف به كازانوڤا من سخف؟ وكيف لم تَثُرْ فتنة وتنازع بين المسلمين حين يَرَوْن أن نبيهم الذى أكد لهم قيام الساعة قبل موته قد مات دون أن تقوم الساعة؟
كذلك لو كانت الساعة ستقوم فى حياة النبى عليه السلام فلم كان جوابه فى كل مرة يسأله فيها الكفار أو يستفسر المسلمون عن ميعادها أنه لا يعرف عن ذلك الأمر شيئا إذ هو من الغيب الذى لا يعلمه سوى الله سبحانه؟ وقد تكرر هذا فى القرآن الكريم وفى الحديث الشريف كليهما: قال تعالى "يسألونك عن الساعة: أيَّان مُرْسَاها؟ فيمَ أنت مِنْ ذكراها؟ إلى ربك منتهاها"، وسأله ذات مرة أحد الصحابة عنها، فرد قائلا: "ما المسؤول عنها بأعلم من السائل". ولو كان كلام كاذابونا صحيحا لكان رده عليه السلام أنه لا وقت هناك لا للمماحكة والجدال ولا للاستفسار والسؤال، فالساعة فى طريقها إلى الانفجار فى غضون سنوات معدودات. ثم لو كان الأمر كذلك فلم كانت كل تلك المعارك مع المشركين واليهود والروم والصراعات مع المنافقين إذا كانت الدنيا ستخرب تماما فى أعوام قلائل؟
وحين كان الكفار يستعجلون محمدا العذاب الذى يهددهم القرآن به كان رد القرآن: "وإمّا نُرِيَنَّك بعض الذى نَعِدهم أو نتوفينَّك فإنما عليك البلاغ، وعلينا الحساب". ومفهوم هذا النص، الذى تكرر فى القرآن بمعناه، هو أن العذاب الذى تُوُعِّد به الكفار قد يتأخر إلى ما بعد وفاة الرسول. ولو كانت القيامة ستقوم فى حياته لكان سَخَرُ المشركين منه عظيما، وحَقَّ لهم، إذ يَرَوْنَه قد رجع فى كلامه وقال إن القيامة قد تتأخر إلى ما بعد وفاته. وهذا السخر لم يحدث، لسبب بسيط هو أنه عليه السلام لم يقل قط إنها سوف تقوم أثناء حياته.
ثم لدينا حديث النبى لزوجاته أنّ أسرعهن لحوقا به إلى العالم الآخر هى التى صفاتها كذا بما يدل على أنه سيموت وتبقى زوجاته بعده زمنا. عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أسرعكن لحاقًا بي أَطْوَلُكُن يدًا. قالت: فكنّ يتطاولْنَ أيَّتُهنّ أطولُ يدًا. قالت: فكانت أطولَنا يدًا زينبُ. لأنها كانت تعملُ بيدِها وتصَّدَّقُ" .ومثله الحديث التالى، وهو عن فاطمة. قالت عائشة: "ما رأيت أحدا أشبه سَمْتًا ودَلًّا وهَدْيًا برسول الله في قيامها وقعودها من فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: وكانت إذا دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم قام إليها فقبَّلها وأجلسها في مجلسه. وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل عليها قامت من مجلسها فقبَّلته وأجلسته في مجلسها. فلما مرض النبي صلى الله عليه وسلم دخلت فاطمة فأَكَبَّتْ عليه فقبَّلَتْه ثم رفعت رأسها فبكت ثم أَكَبَّت عليه ثم رفعت رأسها فضحكت، فقلت: إنْ كنتُ لأظنّ أن هذه من أعقل نسائنا، فإذا هي من النساء. فلما تُوُفِّيَ النبي صلى الله عليه وسلم قلت لها: أرأيتِ حين أَكْبَبْتِ على النبي صلى الله عليه وسلم فرفعتِ رأسك فبكيتِ، ثم أكببتِ عليه فرفعتِ رأسكِ فضحكتِ، ما حملك على ذلك؟ قالت: إني إذن لبذرة. أخبرني أنه ميت من وجعه هذا، فبكيت. ثم أخبرني أني أسرع أهله لحوقا به، فذاك حين ضحكتُ".
ثم ماذا عن النبوءات الأخرى الخاصة بفتح فارس والروم كقوله عليه السلام مثلا: "إذا فُتِحَت عليكم فارسُ والرُّومُ أيُّ قومٍ أنتم ؟ قال عبدُ الرَّحمنِ بنُ عَوفٍ: نقول كما أمرَنا اللهُ. قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أو غير ذلك. تتنافَسون ثم تتحاسَدون ثم تتدَابرون ثم تتباغَضون أو نحوَ ذلك ثم تنطلِقون في مساكينِ المهاجرِينَ فتجعلون بعضَهم على رقابِ بعضٍ"؟ وكيف يمكن أن يقف المسلمون الأوائل ساكتين، وقد مات نبيهم دون أن تُفْتَح فارس والروم كما خَبَّرَهم؟
وماذا عن الإشارات التالية وأمثالها عن الساعة: "لا تقوم الساعةُ حتى تقتتلَ فئتانِ عظيمتانِ يكونُ بينهما مقتلةٌ عظيمةٌ دعوتُهما واحدةٌ، وحتى يُبْعَثَ دجَّالونَ كذَّابونَ قريبٌ من ثلاثين كلُّهم يزعمُ أنَّهُ رسولُ اللهِ، وحتى يُقبضَ العِلمُ، وتكثُرَ الزلازلُ، ويتقارب الزمانُ، وتظهرُ الفِتنُ، ويكثُرَ الهرْجُ، وهو القتلُ، وحتى يكثُرَ فيكمُ المالُ فيفيض حتى يهِمَّ ربُّ المالِ من يقبلُ صدقتَه، وحتى يعرِضَه، فيقول الذي يعرضُه عليه: لا أَرَبَ لي به، وحتى يتطاولَ الناسُ في البنيانِ، وحتى يمرَّ الرجلُ بقبرِ الرجلِ فيقول: يا ليتني مكانَه، وحتى تطلعَ الشمسُ من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناسُ آمنوا أجمعونَ. فذلك حين "لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيْمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيْمَانِهَا خَيْرًا". ولتقومنَّ الساعةُ وقد نشر الرجلانِ ثوبَهما بينهما فلا يتبايعانِه ولا يطويانِه. ولتقومنَّ الساعةُ وقد انصرف الرجلُ بلبنِ لَقْحَتِه فلا يَطْعَمُه. ولتقومنَّ الساعةُ وهو يُلِيطُ حوضَه فلا يسقي فيه. ولتقومنَّ الساعةُ وقد رفع أُكْلَتَه إلى فيه فلا يَطْعَمُها"، "لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا التُّركَ صِغارَ الأعيُنِ تقاتلوا قومًا نعالُهم الشَّعرُ"؟
وماذا نفعل بما جاء فى القرآن من أن الإسلام سوف ينتشر وينتصر على الأديان: "هو الذى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق لينصره على الدين كله ولو كره الكافرون"، وهو ما تكرر فى القرآن مرتين بنفس الألفاظ تقريبا: مرة فى "التوبة"، ومرة فى "الصف"؟ ثم ماذا عن أحاديث آخر الزمان، ومؤداها أن الزمن سوف يتطاول ويتطاول حتى يقع كذا وكذا مما أنبأهم به صلى الله عليه وسلم؟ وماذا نصنع مع قوله صلى الله عليه وسلم مثلا إن الأمم سوف تتداعى على المسلمين كتداعى الآكلين إلى القصعة رغم أنهم آنذاك سيكونون كثيرين كثرة السيل، وهو ما لم يحدث إلا بعد قرون حين استطاع الغرب أن ينهض من تخلفه ويفتح الدنيا ويقسمها بين دوله وتُسْتَعْمَر معظم بلاد المسلمين، ومنها ما حدث فى فلسطين حين امتلخها اليهود بمعاونة الدول الغربية من أهلها وفعلوا بهم الأفاعيل وما فتئوا حتى يوم الناس هذا، ومنها ما حدث للعراق حين تجمعت الجيوش من كثير من بلاد العالم وحطموه ومزقوه على أعيننا جميعا، وما زال الحبل على الجرار مع غيره من بلاد المسلمين؟
نعم كيف كان يمكن أن يتم هذا دون أن يمتد الزمان بأمة الإسلام بعد وفاة النبى عليه السلام، أى دون أن تقوم القيامة مع موته؟ وما العمل مع قوله تعالى، الذى يزعم كازانوڤا أن محمدا هو صاحبه: "وما محمد إلا رسول قد خَلَتْ من قبله الرسل. أفإن مات أو قُتِل انقلبتم على أعقابكم؟ ومن ينقلبْ على عقبيه فلن يضرَّ اللهَ شيئا"؟ أليس معناه بكل جلاء وسطوع أن محمدا سيموت قبل أمته، بما يعنى أن القيامة لن تقوم مع وفاته؟ ولنكن على ذكر من أن ذلك قد وقع كما ألمح القرآن، فاستغرب عمر أن يموت النبى، وظن فى البداية أنه إنما  ذهب للقاء ربه وسيعود كما عاد موسى من لقائه بربه فوق الجبل. ولنسمع أيضا هذا الحديث النبوى الكاشف: "أنا فَرَطُكم على الحوضِ. ولأنازعن أقوامًا ثم لأغلبن عليهم، فأقولُ: يا ربِّ، أصحابي أصحابي!  فيقالُ: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك". أى أن الدنيا لن تنطوى صفحتها بموت الرسول بل سيكون هناك "بَعْدٌ" يُحْدِث فيه ناسٌ ينتسبون إليه ما يُغْضِب ربَّهم عليهم.
ويشبه هذا الحديث فى مسألة "البَعْدِيّة" ما رُوِى عن العرباض بن سارية. قال: "صلَّى بِنَا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ الصبحَ ثُمَّ وعظَنَا موعظةً بليغةً ذرَفَتْ مِنها الأعينُ ووجِلَتْ مِنها القلوبُ، فقال قائلٌ: يا رسولَ اللهِ، كأنَّها موعظةُ مُوَدِّعٍ. فأوْصنا. قال: أوصيكُمْ بتقْوَى اللهِ عز وجل والسمعِ والطاعةِ، وإنْ كان عبدًا حبشيًّا. فإنَّهُ مَنْ يعشْ مِنكمْ بعدِي فسيَرَى اختلافًا كثيرًا. فعليكُمْ بسنَّتِي وسنةِ الخلفاءِ الراشدينَ المهديينَ مِنْ بَعْدي، وعضُّوا عليها بالنواجذِ، وإيَّاكُمْ ومحدثاتِ الأمورِ، فإنَّ كلَّ بدعةٍ ضلالةٍ".
ويشبهه أيضا أنه صلى الله عليه وسلم كان عنده يوما نفر من قريشٍ فقال لهم: "ألا إنَّكم وُلاةُ هذا الأمرِ مِن بعدِ ، فلا أعرِفُني ما شَقَقْتُم علَى أمتي من بعدي. اللَّهمَّ مَن شَقَّ على أُمَّتي فَشُقَّ علَيهِ"، وكذلك ما روته عائشة من قوله عليه السلام لها: "إن قومَكِ استقْصَروا مِنْ بنيانِ البيْتِ. ولولا حَدَاثَةُ عهْدِهِمْ بالشِّرْكِ أعدتُ ما تركوا منه. فإِنْ بدَا لقومِكِ مِنْ بعدِي أن يَبْنُوه فهَلُمِّي لأُرِيَكِ ما تَرَكُوا منه. فأرَاها قريبًا مِنْ سبْعَةِ أذرُعٍ". ومثله "إنَّ الدِّينَ ليأرِزُ إلى الحجازِ كما تأرِزُ الحيَّةُ إلى جُحْرِها وليعقلنَّ الدِّينُ منَ الحجازِ معقِلَ الأرويَّةِ من رأسِ الجبلِ. إنَّ الدِّينَ بدأَ غريبًا ويرجِعُ غريبًا، فطوبَى للغرباءِ الَّذينَ يُصلِحونَ ما أفسدَ النَّاسُ مِن بعدي مِن سُنَّتي"، "سيكونُ أُمَراءُ مِن بعدي يقولونَ ما لا يفعَلونَ ويفعَلونَ ما لا يُؤمَرونَ. فمَن جاهَدهم بيدِه فهو مُؤمِنٌ، ومَن جاهَدهم بلسانِه فهو مُؤمِنٌ، ومَن جاهَدهم بقلبِه فهو مُؤمِنٌ. لا إيمانَ بعدَه"، "اللهَ اللهَ في أصحابي. لا تتَّخذوهم غرضًا من بعدي. فمن أحبَّهم فبحُبِّي أحبَّهم، ومن أبغضهم فببُغضي أبغضهم. ومن آذاهم فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذَى اللهَ ، ومن آذَى اللهَ يُوشكُ أن يأخذَه".
وهناك حديث أبى هريرة التالى، وهو "أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أتى المقبرةَ فقال: السلامُ عليكُمْ دارَ قومٍ مُؤمنينَ. وإنا إنْ شاء اللهُ بكمْ لاحقونَ. وددتُ أنَّا قدْ رأينا إخوانَنا. قالوا: أوَلسنَا إخوانَك يا رسولَ اللهِ؟ قال: أنتمْ أصحابي، وإخوانُنا الذين لمْ يأتوا بعدُ. فقالوا: كيفَ تعرفُ منْ لم يأتِ بعدُ من أمتكِ يا رسول اللهِ؟ فقال: أرأيتَ لو أنَّ رجلًا لهُ خيلٌ غُرٌّ محجَّلةٌ بين ظَهْرَيْ خيلٍ دُهْمٍ بُهْمْ، ألا يعرف خيلَهُ؟ قالوا: بلى يا رسولَ اللهِ! قال: فإنهمْ يأتونَ غُرًّا مُحجَّلينَ منَ الوضوءِ. وأنا فرَطُهمْ على الحوضِ. ألا ليُذَادَنَّ رجالٌ عنْ حوضِي كما يُذَادُ البعيرُ الضالُّ. أُناديهم: ألا هَلُمّ! فيقال: إنهمْ قد بدَّلوا بَعْدَكَ. فأقولُ: سُحْقًا سُحْقًا". ومثله: "اللهَ اللهَ في قِبْطِ مصرَ، فإنكم ستظهرون عليهم، ويكونون لكم عُدَّةً وأعوانًا في سبيلِ اللهِ".
ومثله حديث حذيفة بن اليمان: "كان الناسُ يَسأَلونَ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عنِ الخيرِ، وكنتُ أسأَلُه عنِ الشرِّ  مَخافَةَ أن يُدْرِكَني، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنا كنا في جاهليةٍ وشرٍّ، فجاءنا اللهُ بهذا الخيرِ، فهل بعدَ هذا الخيرِ من شرٍّ؟ قال:  نعمْ. قلتُ: وهل بعدَ ذلك الشرِّ من خيرٍ؟ قال: نعمْ، وفيه دَخَنٌ. قلتُ: وما دَخَنُه؟ قال: قومٌ يَهْدُونَ بغيرِ هَدْيِي تَعرِفُ منهم وتُنكِرُ. قلتُ: فهل بعدَ ذلك الخيرِ من شرٍّ؟ قال: نعمْ، دُعاةٌ على أبوابِ جَهَنَّمَ. مَن أجابهم إليها قَذَفوه فيها. قلتُ: يا رسولَ اللهِ صِفْهم لنا. قال: هم من جِلدَتِنا، ويتكَلَّمونَ بألسِنَتِنا. قلتُ: فما تأمُرُني إن أدرَكني ذلك؟ قال: تَلزَمُ جماعةَ المسلمينَ وإمامَهم. قلتُ: فإن لم يكن لهم جماعةٌ ولا إمامٌ؟ قال: فاعتَزِلْ تلك الفِرَقَ كلَّها، ولو أن تَعَضَّ بأصلِ شجرةٍ، حتى يُدرِكَك الموتُ وأنت على ذلك". ومثله كذلك الحديث الذى رواه عتبة بن غزوان، ونصه: "إنَّ مِن ورائِكم أيامَ الصَّبرِ. لِلمُتَمَسِّكِ فيهنَّ يومئذٍ بما أنتم عليه أجرُ خمسين  منكم. قالوا: يا نبيَّ اللهِ، أو منهم؟ قال، بل منْكم".
ثم أين فى القرآن المجيد أو فى الحديث الشريف ما يربط بين موت الرسول عليه السلام وبين قيام الساعة؟ أتحدى أى كازانوڤا أو كاذابونا أن يأتينا بشىء من ذلك. وهذا هو النص القرآنى الوحيد الذى يشير إلى إخبار السيد المسيح بمجىء نبينا من بعده برسالة السماء: "وإذ قال عيسى بن مريم: يا بنى إسرائيلَ، إنى رسول الله إليكم جميعا مصدِّقًا لما بين يدىَّ من التوراة ومبشِّرًا برسولٍ يأتى من بعدى اسمُه أحمدُ". وكما نرى جميعا ليس فيه أى ربط بينه وبين وقوع الساعة. بل إن النص الذى يعتمد عليه المسلمون فى القول بتنبؤ  المسيح بمحمد عليهما السلام ليخلو من هذا الربط تماما. يقول يوحنا فى الإصحاحات الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر على التوالى من إنجيله على لسان السيد المسيح: "وَأَمَّا الْمُعَزِّي، الرُّوحُ الْقُدُسُ، الَّذِي سَيُرْسِلُهُ الآبُ بِاسْمِي، فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ، وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ"، "وَمَتَى جَاءَ الْمُعَزِّي الَّذِي سَأُرْسِلُهُ أَنَا إِلَيْكُمْ مِنَ الآبِ، رُوحُ الْحَقِّ، الَّذِي مِنْ عِنْدِ الآبِ يَنْبَثِقُ، فَهُوَ يَشْهَدُ لِي"، "لَكِنِّي أَقُولُ لَكُمُ الْحَقَّ: إِنَّهُ خَيْرٌ لَكُمْ أَنْ أَنْطَلِقَ، لأَنَّهُ إِنْ لَمْ أَنْطَلِقْ لاَ يَأْتِيكُمُ الْمُعَزِّي، وَلَكِنْ إِنْ ذَهَبْتُ أُرْسِلُهُ إِلَيْكُمْ".
ليس ذلك فحسب، بل إن القرآن والرسول ليخطِّئان، بدلا من ذلك، النصرانية فى بعض الأشياء، ويؤكدان أن عيسى عليه السلام ما هو إلا عبد لله ونبى من أنبيائه وأنه لم يُصْلَب بل رفعه الله إليه أيًّا كان معنى الرفع: هل هو بالجسد أم بالمكانة والمجد؟ إن كلام كازانوڤا ليوحى بأن النبى كان يجد فى ربط نفسه بعيسى عليه السلام مفخرة مع أنه صلى الله عليه وسلم رغم تواضعه قد بين ما خص الله به دينه من امتيازات فاق بها أديان إخوانه الرسل جميعا بما فيهم عيسى عليه السلام: "فُضِّلْتُ على الأنبياءِ بسِتٍّ: أُعْطِيتُ جوامِعَ الكَلِم، ونُصِرْتُ بالرُّعْبِ، وأُحِلَّت لي الغنائمُ. وجُعِلَت لي الأرضُ طَهورًا ومسجِدًا، وأُرسِلْتُ إلى الخَلقِ كافَّةً، وخُتِمَ بي النبيُّونَ". وهناك أيضا الحديث التالى الذى يؤكد أن عيسى عليه السلام متى ما عاد إلى الدنيا فلسوف يحكم بشريعة الإسلام: "لا تقومُ السَّاعةُ حتَّى ينزلَ فيكم ابنُ مريمَ حَكَمًا مُقْسِطًا فيَكْسِرَ الصَّليبَ ويقتلَ الخنزيرَ ويضعَ الجزيةَ ويفيضَ المالُ حتَّى لا يقبلَهُ أحدٌ".
ولقد فهمت، من خلال ما انتهيت منه من صفحات كتاب المستشرق الفرنسى، أنه يقول بأن أتباع محمد قد غيروا فى القرآن ونقحوا بعد موته حتى لا تظهر عورة نبوءته بقيام الساعة فى عهده. وهذا هو السخف بعينه، إذ لا دليل على ما يقول ولا نص ولا وثيقة. ثم كم من الوقت يا ترى أخذ أولئك المنقحون حتى أتموا مهمتهم الشيطانية هذه؟ وأين ومتى فعلوا ذلك؟ ومن يا ترى قام بذلك العمل؟ وأين النصوص التى كانت موجودة فى الأصل فحذفوها، والنصوص التى وضعوها مكانها لتدارى العورة التى كانت موجودة؟ وكيف فى ذلك الزمن المتقدم استطاعوا أن ينجزوا تلك المهمة العجيبة، فيضعوا أيديهم على النصوص التى تدين رسولهم وغيروها بنصوص أخرى تستر تلك العورة؟ لا يوجد طبعا شىء كهذا ولا يمكن أن يوجد لأنه لم يحدث إلا فى تخيلات كازانوڤا الباطلة وبهلوانياته المتساخفة. إنه لو حدث شىء من هذا لكانت فتنة وهياج ومعارك. ونحن نعرف أن من المسلمين من لم يقبل جمع عثمان المسلمين على قراءة واحدة رغم ما فى ذلك من خير ورغم ما قدم من خدمات جُلَّى للإسلام، فاشتعلت الفتنة ولم تنته إلا بمقتله عليه رضوان الله. فكيف لو جرت أيدى العبث فى كتاب الله كله حذفا وإضافة وتقديما وتأخيرا وتخليطا؟ الواقع أن كازانوڤا وأمثاله إنما ينطلقون من التعصب المقيت على الإسلام يريدون أن يشيعوا التشكيك فيه والتقليل من شأنه وينشروا عنه الاتهامات الزائفة الجزاف معولين على أن كثرة الدوىّ فى الآذان أَمَرُّ من السحر.
ترى لو أن النبى عليه السلام كان يعتقد وينشر بين أصحابه أن الساعة ستقوم فى حياته بحيث يتزامن موته ووقوعها فلم يا ترى كتب فى قرآنه الذى ألفه طبقا لمزاعم كازانوڤا أنه لا يصح أن يتزوج المسلمون أزواجه من بعده أبدا؟ معنى ذلك أنه سيموت قبل الساعة وتبقى زوجاته وأصحابه من بعده بحيث يمكن أن يفكر بعضهم أن يأخذ هذه أو تلك من نسائه زوجة له. ولو افترضنا أن المزورين الذين عكفوا على القرآن هم من أضاف هذا الشرط فلم هجست نفوسهم بهذه الفكرة التى لا يمكن أن تخطر على بال أحد، والتى كانت قمينة أن تهيج نساء النبى عليه السلام إذ تحرمهن من مزاولة حياتهن الفطرية لقاء لاشىء، بخلاف ما لو نزل هذا الحكم من السماء، فإنهن سوف ينزلن عليه راضيات مؤمنات كما حدث فعلا؟ كما كان عدد من الصحابة كُفَلاء أن يعترضوا على أمر كهذا لم يقله الرسول نفسه، إذ كان هناك من يتطلع إلى التزوج بهذه أو تلك من زوجاته، وبخاصة بعدما ثبت أن كلامه فشنك وأن محور رسالته قد انتقض تماما بعدم قيام الساعة فى حياته.
كذلك لو كان القرآن قد ربط بين قيام الساعة وموت الرسول ثم مات الرسول، كما وقع فعلا، أكان الصحابة يَبْقَوْن على إيمانهم به وينطلقون فى عزم وثيق يفتحون العالم؟ إن وقوع الأمر على ذلك النحو كان كفيلا بأن يُفْقِد الصحابةَ اتزانهم وإيمانهم برسولهم ويبين لهم أنه إنما كان يكذب عليهم فيرتدوا، أو فى  أقل الليل كان من شأنه أن يحبطهم ويقضى على الأمل بين جنباتهم فى الانتصار على الدنيا والدين كله فلا يفكروا مجرد تفكير فى فتح البلاد ونشر الدين. لكن كازانوڤا قد أعماه التعصب، فصال وجال فى بيداء الهزل والوهم، وضل عن بينة وبصيرة وسبق إصرار.  

 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 87 مشاهدة
نشرت فى 24 يوليو 2017 بواسطة dribrahimawad

عدد زيارات الموقع

32,867