جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
من ذكريات الطفولة الأولى (سطور من كتابى: "من كُتَّاب الشيخ مرسى إلى جامعة أكسفورد- محطات على مسيرتى الروحية") 1:
د. إبراهيم عوض
وُلِدْتُ عام 1948م فى اليوم السادس من الشهر الأول، ودخلتُ مبكرا الكُتَّاب وجمعية المحافظة على القرآن الكريم بقريتنا كتامة الغابة التابعة لمركز بسيون بمحافظة الغربية. وفى البداية كنا نستعمل لوح الإردواز الأسود نكتب عليه الألفباء والكلمات الأولية بقطعة طباشير. وبعد أن نكبر قليلا نغادر اللوح الإردوازى إلى الدفتر وقلم الرصاص. أما حفظ القرآن فكان يتم سماعا، إذ كنا نظل نردد وراء المعلم ما ينطقه أمامنا من السور القصيرة جدا حتى نحفظها، ثم فى مرحلة لاحقة، حين تعلمنا القراءة والكتابة، كنا نستعمل اللوح الخشبى المدهون بالطلاء الزيتى الأبيض دون أن يفسره لنا أحد. وكنا نكتب على اللوح بالريشة التى نغمسها فى دواة الحبر الأسود ذات اللِّيقَة. وكلما حفظنا شيئا مسحناه بالماء وقطعة قماش، ثم كتبنا عليه لوحا جديدا. أما ما نكون قد حفظناه من قبل فنقرؤه فى المصحف ذاته. وأذكر أننى، حين كنت أتعلم الألفباء بالجمعية المذكورة، كنت أجد عسرا شديد فى رسم الحروف، وبالذات حرف "اللام ألف: لا"، فكنت أجتهد فى رسم صورة جوزة المعسّل على هيئة كرة مرشوقا قصبة فى كل من جانبيها. وبهذه الطريقة أنجح فى كتابة "اللام ألف" فأشعر بالرضا والحبور لهذا الإنجاز الخارق.
والطريف أن خطى صار جميلا إلى حد معقول فيما بعد حينما تعلمت الكتابة، تأثرا أغلب الظن بخط والدى رحمه الله. ولو كنت دخلت مدرسة تحسين الخطوط لكنت من الموفقين ولأصبحت الآن من الخطاطين المعروفين. أو هذا ما أتصوره على الأقل، وكل إنسان يظن نفسه موهوبا عبقريا، ولست فى تلك الحماقة بالذى يشذ عما تسوله الطبيعة البشرية لأصحابها. بل لقد انضممت إلى الدارسين بتلك المدرسة بشارع الألفى بطنطا فى أواخر عام 1959م وأنا ولد صغير بالسنة الأولى بالمعهد الابتدائى الأزهرى قبل أن تتغير تسميته إلى "المعهد الإعدادى" عندما انتقلت إلى الفرقة الثالثة، وكنت أتردد عليها ليلا مع الطلاب الكبار، ولكن بطريقة غير رسمية بفضل الشيخ عيد عطا صاحب الفضل العظيم فى تحميس جدتى وخالى لإرسالى إلى طنطا للتعلم كما سيأتى بيانه، رحمهم الله جميعا رحمة لا تغادر شيئا لهم إلا محته محوا وصيّرته حسنات.
ولو كان لى أن أعتمد على ذاكرتى فى موضوع تحسين الخطوط لقلت إن الشيخ عيد عطا، وكان فى ذلك الوقت طالبا فى السنة الرابعة بمعهد طنطا الأحمدى، أراد أن ألتحق بالمدرسة المذكورة وأنا أنقل أول خطوة لى فى طريق التعليم فى طنطا، إذ كنت فى السنة الأولى الابتدائية الأزهرية (الإعدادية الآن) فى ذلك الوقت، إلا أن ميعاد التقديم كان قد فات، فأقنع المسؤولين، ببراعته المعهودة، أن يتركونى أحضر الحصص دون أن أكون مسجلا عندهم، وظللت أتردد على المدرسة نحو أسبوعين ثم توقفت. وما زلت أذكر ما كان يلجأ إليه المدرسون لتعليمنا قواعد الخطوط من نسخ وثلث ورقعة وفارسى وديوانى، إذ كانوا يعمتدون على عدد النقط التى يقاس بها طول الحرف أو جزؤه أو الفراغ الذى بين أجزاء الحرف... إلخ. وقد أضحكنى ذات مرة ما قاله مدرس الخط الفارسى حين أراد أن يلفتنا إلى شكل الهاء فى أول الكلمة، إذ شبهها بقط ينظر إلى الخلف. وكلما خطر هذا التشبيه على بالى انتفض المنظر كله فى خيالى كأنه ابن البارحة، والمدرس واقف أمام السبورة، وقد انتهى لِتَوِّه من كتابة الهاء، وهو ينظر إليها ويقلد شكل القط فى التفاته إلى الوراء.
وكنت قد ذهبت إلى طنطا قبل ذلك بسنتين ومكثت مع أخى أياما لا أدرى عددها فى شارع القاضى، الذى كان يقوم فيه وحوله عدد من دكاكين الخطاطين: منهم حسان، وكان شابا له دراجة يأتى بها من منطقة سيجر فى الجنوب، وأبو العلا كبير الخطاطين وأفخمهم، وفريد، الذى كان يتعامل مع الخط بطريقته الخاصة فينهى مثلا حروف الواو والراء والزاى نهاية مفلطحة على هيئة ذيل سمكة متجه إلى الأسفل، وأحمد ومظهر اللذان كانا يكتبان لوحاتهما عادة بالرقعة والفارسى وبخط غليظ، ثم خطاط آخر لا يحضرنى اسمه الآن افتخر أخى أمامه بأننى خطاط مع أننى لا كنت خطاطا ولا حاجة، بل كل ما هنالك أنه كان من الممكن تدريبى لأكون خطاطا، فرد الخطاط المخضرم متسائلا فى دعابة: خطاط أم خطاف؟ فضحكنا جميعا.
وقد تذكرت هذا الرجل حين قرأت لأول مرة رائعة نجيب محفوظ: "خان الخليلى"، وقابلت فيها المعلم نونو الخطاط. والسبب أن كلا الخطاطين كان فكها ساخرا. وبالمناسبة فقد قرأت للأستاذ حامد العويضى الخطاط، فى مقال بديع له بجريدة "القاهرة" فى أغسطس 2001م بعنوان "حسنى البابا أبوها" (أى أبو سعاد حسنى)، أنه من المحتمل جدا أن يكون أديبنا العملاق قد استوحى شخصية نونو الخطاط من شخصية الأستاذ محمد حسنى والد نجاة الصغيرة وسعاد حسنى وعز الدين حسنى، وكان أيضا خطاطا كبيرا كما هو معلوم للجميع، وفيه مشابه من نونو لا تخفى على أحد. وقد أوضح المقال بعض الأشياء التى كانت خافية عنى من حياة حسنى وشخصيته وعلاقته ببناته وأبنائه. كما قابلت فى أواسط ثمانينات القرن الماضى خطاطا دارت بينى وبينه فى طريق العودة من الإسماعيلية حيث بتنا ليلتنا فى شقة دُعِينا لحضور عرس فيها، وكانت أول وآخر مرة نبيت بها، ويملكها شاب زميل لذلك الخطاط الكهل عرفته عن طريق أخيه المحامى، الذى كنت أنوى أن أسند إليه قضية لى، فتقابلت أنا والخطاط فى الشقة المذكورة، وفى طريق الرجوع حدثنى بإكبار عن محمد حسنى وافتخر بأنه تتلمذ على يديه.
ومما لا يزال ملتصقا بالذاكرة من طفولتى الأولى رغم مضى كل هاتيك الأعوام أننى كنت لا أحب الذهاب إلى الكتاب أو جمعية المحافظة على القرآن الكريم كسائر الأطفال فى ذلك الوقت على عكس أطفال هذه الأيام الذين يتعلقون بحَضَاناتهم الجذابة، مفضلا البقاء فى المنزل بجوار والدتى، وكانت سيدة هادئة وطيبة، وكانت تدللنى كثيرا. وكنت، ككل طفل فى مثل سنى وظروفى فى ذلك الحين، لا أريد مفارقة البيت وحنان الأم. إلا أنها حملتنى ذات يوم على كتفها بعد أن ارتدت طرحتها، موهمة إياى أننا ذاهبان إلى الجمعية لنحضر السلم الخشبى الذى كان النجار المشغول فى إعداد بعض التُّخَت والمقاعد فى المدرسة يصنعه لنا هناك. والعجيب أننى كنت أبصر تحت طرحتها اللوح الإردوازى الذى نتعلم فيه الكتابة، وهو ما يعنى، لو كنت ولدا ذكيا فطنا (هذا لو كنت!)، أن النية مبيتة على تركى هناك والعودة بدونى. إلا أننى لم ألق بالا إلى ذلك مفضلا إيهام نفسى بأن الأمور لن تصل إلى هذا الحد، فنحن ذاهبان لإحضار السلم، فماذا فى ذلك من خطر يتهددنى؟ ولنفترض أننى كنت ولدا ذكيا فطنا، وهو ما لم أكنه، فهل كنت لأغامر بالقفز من فوق كتف والدتى والنزول على جذور رقبتى؟ وما إن وصلتْ أمى، طيب الله ثراها، إلى الفصل حتى أنزلتنى من فوق كتفها، بعد أن كانت تدللنى طوال الطريق لتخديرى، ووضعتنى على الأرض وقد صُوِّبَتْ عيون التلاميذ كلهم نحوى، وتركتنى ومضت وأنا أبكى. ولكن كما يقول المثل: اضحك تضحك لك الدنيا. ابك تبك وحدك. وقد بكيت فى ذلك الضحى وحدى، ولكنه بكاء أفضل مليار مرة من الضحك، الذى كان معناه البقاء فى المنزل بجوار والدتى مع استمرارى جاهلا لا أتعلم.
وكانت أمى، حسبما بقى فى خيالى من صورها وكلامها ومواقفها، سيدة طيبة هادئة كما قلت، وكانت تحكى لنا الحواديت والحكايات الفكاهية، وكانت أمية لا تقرأ ولا تكتب ككل نساء القرى تقريبا. ولا أزال أحتفظ لها بمنظر لا أدرى مدى مبلغه من الصحة والدقة يضمها هى وبعض نسوة الشارع، وقد حملن على رؤوسهن قُفَف القمح فى طريقهن إلى الترعة التى فى طرف القرية المؤدى إلى عزبة حسام الدين ليغسلنها ثم ينشرنها فى الشمس على الحصر لتجف قبل أن يذهبن بها إلى مكنة الطحين، وهن يغنين أغنية أم كلثوم: "على بلد المحبوب وَدِّينِى"، وكنت كالعادة أتبعها ممسكا بذيل جلبابها مستمتعا بوجودى معها، وهو ما ألاحظه فى حفيدىَّ الكبيرين ابْنَىْ علاء الدين: لالة وخالد، فهما دائما ما يعبران عن رغبتهما فى الذهاب إلى "ماما"، فأتذكرنى وأنا صغير مثلهما أحب أن أكون مع "أمى" دائما. بيد أن أمى قد رحلت عنا مبكرة جدا، إذ ماتت وأنا فى الخامسة أو السادسة من عمرى، ثم تبعها أبى بعد عدة سنين ولما أبلغ التاسعة، وقبلهما مات خال لى شاب ميتة مأساوية هو أيضا، فانطبعت حياتنا بحزن ثقيل أحاول بطبعى الفَكِه، دون وعى منى، أن أعادله حتى لا يؤودنى حمله. ومن الذكريات العالقة بذهنى لا تفارقه: الليلةُ التى ماتت فيها أمى، إذ أذكر أنهم أيقظونا ليلا ونقلونا إلى بيت جيراننا حيث كان أولادهم مستيقظين يلعبون معنا، وربما قدموا لنا طعاما ريفيا بسيطا بغية شغلنا عن الحزن الذى كان يملأ الأجواء آنذاك. ودائما أتصور أن ذلك كان قبيل الفجر، وأننا كنا فى ذلك الحين نعرف أن أمنا قد ماتت، ولكن دون أن نفهم أبعاد الأمر أو ندرك معناه نظرا لصغر سننا آنذاك.
ورغم اتساع ثقافتى مع الأيام وقراءاتى المتعمقة فى القرآن الكريم وأحاديث المصطفى عليه الصلاة والسلام أرانى عاجزا تماما عن تخيل الظروف التى يعيش فيها الموتى فى العالم الآخر، وبخاصة من أحبهم وأنشغل بمصيرهم كوالدتى ووالدى... أما بالنسبة لنفسى فقد كنت، وأنا طفل صغير، أفزع من الموت وأتخيلنى وقد جاء "الوحش" أو "الغول" بعد دفنى، ونَبَش قبرى واستخرج جثتى والتهمها، وضِعْتُ أنا فى جوف الغول بعد أن أكون قد تألمت آلاما فظيعة أثناء تكسيره لعظامى ونهشه للحمى. لكنى الآن أعرف أن جسدى سوف يتحلل إلى عناصره الأولية ويرجع كما كان ترابا وهواء ليدخل فى تكوين موجودات جديدة، ولا أتخيل عناصر جسدى بعد الموت إلا هائمة فى أرجاء الحقول مع الرياح والشجر والفراشات والطيور والنباتات والمياه، ولا أتصورها أبدا هائمة فى المدن حيث الضجيج وعادم السيارات وكل مظاهر القبح والتشوه والتلوث وانعدام شعور كل واحد بالآخرين. أما روحى فيقوم بينى وبين تصور ظروف حياتها فى عالم الغيب قبل البعث جدار صلب سميك لا يمكن اختراقه.
وكنت، إلى ما قبل سنوات، أتألم أشد الألم حين أفكر أننى سوف أموت، إلا أننى رُضْتُ نفسى على التسليم بحقائق الحياة وأوضاعها التى لا يمكن أن يفلت من الخضوع لها أى إنسان أو مخلوق حتى صرت أتقبل فكرة الموت تقبلا تاما. المهم ألا يكون موتا فيه معاناة وألم. وإنى أدعو الله أن يتم موتى كما يتم انطفاء المصباح الكهربى حيث يسود الظلام فى التو واللحظة بمجرد الضغط على مفتاح النور. ثم إن أملى الشديد فى رحمة الله وفضولى العاتى إلى معرفة ما ينتظرنا هناك فى الضفة الأخرى من الكون قد انتهيا بى إلى عدم الفزع من الموت، الذى دائما ما أذكره فى حديثى مع نفسى أو فى حديثى مع الآخرين، خصوصا إذا كنت أريد أن أحمّس باحثا إلى الانتهاء من رسالته التى أشرف عليها فأقول له مثلا: أرجو زيادة نشاطك حتى تنتهى من رسالتك وتحصل على الدرجة العلمية، فنحن لا نعرف الظروف يا بُنَىّ، وقد أموت فتجد نفسك فى حيص بيص. فيأتينى الجواب دائما: بعد الشر يا دكتور. ربنا يعطيك طول العمر. فأقول: إننى أتحدث عن احتمال قائم، فأرجو سرعة الإنجاز! ولست أشعر آنذاك بتشاؤم ولا يخطر ببالى أبدا أن سيرة الموت قد توقظ الموت من مرقده وتُذَكِّره بى بعد أن كان غافلا عنى كما يعتقد كثير من الناس.