دوافع حركة الإصلاح الدينى فى أوروبا ونتائجها
د. محمد ماهر الصواف
انطلقت حركة الإصلاح الديني من أوروبا في القرن السادس عشر الميلادي ، وكان أشهر قادتها في ألمانيا مارتن لوثر، وجاءت هذه الحركة لترفض استبداد الكنيسة و القول: "بإن البابا ممثلُ الله على ظهر الأرض ويجب أن تكون له السيادة العليا والسلطان الأعظم على جميع المسيحيين، حكاماً كانوا أو محكومين".
وكان أهم ما نادت به هذه الحركة الإصلاحية ما يلى : -
- منع ترويج صكوك الغفران لأن الغفران مرتبط بالعمل الصالح .
- رفض فرض الكنيسة للكتاب المقدَّس باللغة اللاتينية وإحتكارها لفهمه وتفسيره، والعمل علي تنوير الناس بالفهم الصحيح للكتاب المقدس وفهمه فهما صحيحا إنطلاقا من أن الإيمان مسألة فردية.
- رفض نظام "محاكم التفتيش" والذى ابتدعته الكنيسة، ومحاكمة العلماء أمامها، ورفض كل ما يؤدى إلى تقييد العقل.
وسنتناول توضيح ذلك كما يلى :
أولاً :بالنسبة لصكوك الغفران فهى سند أو صك كانت الكنيسة تحث الناس لشرائه كمساهمه منهم لبناء كنيسة جديدة تحمل آسَم القّديس "بطرس" وذلك بسبب قِدَم الكنيسة الحاليّة وعدم صلاحيتها للترميم وأن ذلك يضمنُ لهم غفرانَ الذنوب ليس في الحياة فقط بل بعد الممات، ومن ثم تُفتحَ لهم أبوابُ جنة النعيم وتُغلقَ أمامهم أبواب عذاب الآخرة، وقد واجهت هذه الصكوك موجةٌ عارمةٌ من الإنتقادات والإحتجاجات من قِبَلِ الرهبان قبلَ غيرهم وهاجموا البابا .
ثانيا : كانت اللغة اللاتينيّة هى اللغة الوحيدة التي سمحت الكنيسة الرومانية باستخدامها لقراءة الكتاب المقدس. وأصبح من الصعب علي المجتمع الأوربي قراءته وتفسيره، وتملكت الكنيسة بذلك «السلطة التعليمية» التى تخول للبابا الحق فى التفسير والقول الفصل فيما يتعلق بالأحكام الدينية . وقد اعترض لوثر علي هذه السلطة ومعتبرًا أنّ لكل إمرئ الحق فى التفسير وأنّ الكتاب هو المصدر الوحيد للمعرفة المختصة بأمور الإيمان؛ لذا قام لوثر بترجمة الكتاب المقدس باللغة الألمانية بدلاً من اللغة اللاتينيّة حتى يتمكن الأفراد من التعرف على الأحكام دون تدخل الكنيسة ودون وساطة رجال الدين .
ثالثا : ولعل من الأمور الهامة التى وجدت إعتراض كثير من الناس بصفة خاصة المفكرين والعلماء هو موقف الكنيسة الرافض لنتائج الأبحاث العلمية والتطور العلمى والنظريات الجديدة المتعلقة بدراسة الظواهر الطبيعية، وتحديد أسبابها وتفسيرها تفسيراً مادياً وعلمياً، بل وسعت إلى تقييدها للعقل وتقديم المفكرين والعلماء وكل من يتقدم بأفكار أو نظريات تعد من وجهة نظر الكنيسة خارجة عن إطار الكتاب المقدَّس إلي محاكم دينية ( محاكم التفتيش ) التي أصدرت أحكام بحرق وتعذيب العلماء، فقد كان رجال الكنيسة يزعمون "أنّ الكتاب المقدس يتضَّمنُ كل أنواع العلوم التي يحتاجها الناس سواء أكانت علوم دين أو علوم دُنيا " وأنَّ أساس كُلَّ علمٍ، عندهم، هو الكتاب المقدّس وتقاليد الكنيسة .
فقد أحدثت تلك الممارسات وما صدر من أحكام ضد العلماء ردود فعل غاضبة ورافضة لها، بل وأدت إلى ظهور بعض حالات الإلحاد والتخلى عن العقائد الموروثة التى وجدها الناس تتناقض فى مجملها مع منطق العقل وأبسط مراتب البحث والتفكير العلمى .
وهكذا لم يقتصر الاعتراض علي بعض العقائد فقط بل إنها قد امتدت لبعض المسائل العلمية كخلق السموات والأرض والشمس فقد كان رجال الكنيسة يؤمنون بأن الأرض مُسطّحةٌ وأن السماء مخلوقةٌ من مادةٍ صلبةٍ كالأرض وأنّ الشمس تدور حول الأرض إلا أن العالم البولندى " كوبرنيكولس" Nicolaus Copernicus رفض ما يؤمن به رجال الكنيسة وتقدم بنظريته التى تقول بأن الشمس هى مركز الكون وليست الأرض، وإنَّ الأرض والكواكب الأخرى تدور حول الشمس بسرعةٍ ، فإذا نظرنا إلى السماء فتصوَّرنا أن الأجرام السماوية تتحرك، فما ذلك إلا نتيجة لدوران الأرض في الاتجاه المعاكس .
وظلت نظرية "كوبرنيكولس" ناقصةً، ولكنّ عالم الفيزياء الألماني "يوهانز كيبلر Johannes Kepler) " تمكّن من توفير الأدلّة الحسابية على صِحَّتَها، ثم قام الفلكي "جاليليو جاليلي " Galileo Galilei بإجراء اختبارٍ عمليٍّ تجريـبيٍّ لتلك "الفرضّية" عن طريق رصد الكواكب "بالتليسكوب"
وقد لاقت هذه النظريات قبولاً واسعاً لدى عديد من العلماء رغم أن رجال الكنيسة وجدوا أن ما تقدمه هذه النظريات من أفكار يعد مخالفاً لما جاء فى الكتب المقدسة، لذا ووجَّهت الكنيسة تهمة (الهرطقة Heretic) - التى تقترب من كلمة الزندقة فى الإسلام - إلى بعض العلماء مثل الفليسوف الإيطالى "جيوردانو برونو Giordano Bruno" وتم محاكمته وانتزاعُ الإعترافات من "برونو" عن طريق التعذيب وحُكِمَ عليه بالموت لأنه "تعنّتٌ و أصر على هرطقته"... وكان قد جاهد ليشرح أنّ أفكاره ليست خطأً، دون جدوى. وتم حرقُه حيّاً فى كامبو دي فيوري" وقد كمّموه قبل أن يأخذوه إلى المحرقة لتفادى أن تتسبّبَ عباراته فى قلقلة معتقدات الجمهور الذى حضر لمشاهدة المحرقة.
أيضا بعد أن أعلن جاليليو جاليلي العالم الإيطالي نتائج أبحاثة وما أجراه من اختباراتٍ عمليةٍ تجريبيةٍ أثبتَ من خلالها صحّة نظرية "كوبر نيكولس" وذلك عن طريق رصده للكواكب باستخدام "التليسكوب" وأثبت دورانَ الأرض حول الشمس على خلاف الإعتقاد الكنَسيّ القائم على أنّ الأرض ثابتةٌ لا تتحرك، وأنّها مركز الكون. ، ثارت ثائرةُ الكنيسة وأعلنت هرطقة وكفر وإلحاد هذا العالم مُستندةً إلى أنَّ أقواله تخالف ما ورد في الكتاب المقدس. وتمَّ تحويل (جاليليو) إلى محكمة التفتيش في روما. وأجبرته لجنة المحكمة على الرجوع في رأيه بأن عرضتْ عليه أولاً وسائل التعذيب المستخدَمة إذا ما أصرَّ على رأيه... وكانت أعمالُ "جاليليو" قد أُدينت ووُضِعت في كشف الممنوعات منذ عام 1616م وقد أمضى بقية حياته مُعتقَلاً في منزله إذ أنَّ شهرته العالمية قد سمحت له بتفادي العواقب الوخيمة، فكانت عمليّةُ اعتقاله في منزله هى الوسيلة الوحيدة لتفادي عمليات التعذيب الرسمية التي تمارسها اللجنة. خصوصاً بعد أن صدر الحكم عن محكمة التفتيش بسجنه وتعذيبه بشدّةٍ مما اضطّره للتراجع عن نظرياته العلمية، التي أثبت العلُم الحديث صحَّتها تماماً .
ويُستفادُ مما سبق أنَّ الكنيسة حاصرت العقول الحرّة، وحاولت جاهدةً أن تحجر عليها، و لم تعترف بالحرية الفكرية إلا تلك التى تدور فى فلكها وتوافق هواها، وما خالفها كان "هرطقة" وتمرّداً وخروجاً عن جادة الصواب واستحق الحرمان والقتل والإحراق البطيء المؤلم بالنار. ولا شك فقد ساعدت حركة الإصلاح الديني في الحد من إستبداد الكنيسة، وتنوير الناس بالفهم الصحيح للكتاب المقدس وإنطلاق العلم والبحث العلمي دون قيود، وشَقَّتْ أوروبا طريقها نحو العلم والنهضة الصناعية والعلمية والعمرانية بعد أن إضطرت الكنيسة بالإبتعاد عن التدخُّل في شؤون الحياة العامّة والخاصّة للمجتمعات والدّول. وقد كان ذلك مقدمةً للنهضة فتحولت "أوروبا" خلال سنواتٍ قليلة من عصر الظلمات إلى عصر التنوير.