<!--<!--<!--
لا تكن أعجـز الناس
فـتـترك سلاحك
شــأن الـدعـاء
فـضـلـــه
آدابــه
أوقاتــه
أحــوالــــــــه
أماكنـــــــه
موانعــــه
كتبـه
عبد الرحمن بن عبد الله بن صالح السحيم
إهـــداء
و
نـــداء
إلى كلّ ملهوف ، وإلى كلّ مكروب ومحزون ، أوسجين أوطريد ، وإلى كلّ مظلوم كبده حـرّى ، وإلى كلّ طريح الفراش حبيس المرض ، أو مَنْ له غائب ينتظر قدومه ، وإلى كلّ امرأة غاب عنها زوجها ، أو اتّسعت هوّة الخلاف بينه وبينها ، وإلىكلّ مَنْ تزوّج ولم يُوفّق ، وإلى كل عَزَبٍ يبحث عن زوجة ، وإلى كل فتاة طالت أيمتها ، وإلى مَنْ رُزِقَ الزوجة وحُرِمَ الولد ، وإلى كلّ أب أو أم يَهمّهم صلاح أولادهم ، أو يُقلقهم فسادهم ، وإلى كلّ ذي حاجة لم تُقضَ له ، وإلى مَنْ أُغلِقَتْ بوجهه الأبواب ، وإلى ذوي الفقر والمَسْكَنَة ، وإلى مَنْ رَكِبَته الديون فتراكمتْ ، وإلى كلّ سائل ، وإلى كل مُبتلى بمسّ أو سحر ، وإلى كل من أصيب بِشواظٍ من عين حاسد ! وإلى من ضاقت عليه السُّـبُل وضاقت عليه نفسه ، وضاقت عليه الأرض بما رحبت فأصبح ينظر إلى الدنيا من ثقب إبرة ولا يرى أمامه سوى إزهاق روحه وقتل نفسه ...
إليكم جميعاً :
ألم يأن لكم جميعاً أن تَمُدّوا أيديكم إلى مالك الملك ، وإلى مَنْ بيده ملكوت كلّ شيء ، وهو يُجير ولا يُجار عليه ؟
ألم تتذكّروا فضل الدعـاء ؟
ألم تعلموا أنه سلاح المؤمن ؟
فـإلى مـتى الـتّـواني ؟
وإلى متى البخل على أنفسكم ؟
وإلى متى العجـز والكسل ؟
إن ما بينكم وبين السماء السابعة سوى مسافة دعوة مظلوم .
وما بينكم وبين باب ذي المنن سوى قَـرْعِـهِ وإدامـة ذلك .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله العلي الأعلى ، الذي يعلم السر وأخفى .
الحمد لله الجواد الكريم ، أمـر عباده بالدعـاء ووعدهم بالإجابة فضلا مِنْه ومِنّة وتكرمـا .
أشهد أني ربي حيي كريم ، وأنه عظيم حليم .
وأنه أهل الثناء والمجد ، لا نحصي ثناء عليه بل هو كما أثنى على نفسه .
وأُصلّي وأُسلّم على من بعثه ربه بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا ، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ، وعلى آله وأصحابه الأخيار الأبرار ما تعاقب الليل والنهار .
أما بعد :
فإن الدعاء عباده بل هو العبادة [1] .
ولما كان كذلك ورأيت أن بعض الناس يتدافعون أحياناً على أبواب الناس ويزدحمون عليها ، غافلين أو متغافلين عن باب ذي الجلال والإكرام ، منصرفين عن باب الجواد الكريم سبحانه ، لما رأيت ذلك أحبب أن أكتب في هذا الموضوع أوضّح فيه ما كان خافيا عليّ في يوم من الأيام ، فقد عَرَضَتْ للعبد الفقير حاجة ، فكان من توفيق الله – جل جلاله – أن وقفت على ما رواه الإمام أحمد وغيره من حديث عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم :" مَنْ نَزَلَتْ به فاقة فأنزلها بالناس لم تُسَدّ فاقته ، ومَنْ نَزَلَتْ به فاقة فأنزلها بالله ، فيوشك الله له برزق عاجل ، أو آجل " [2] فالحمد لله أولاً وآخراً .
وما رأيته من لجوء كثير من الناس إلى الأسباب المادية ، وإلى الخلق - دون قرع باب مسبب الأسباب ، ومن بيده قلوب العباد ، وإليه المعاد - مما دفعني للبحث في هذا الموضوع والكتابة فيه . رجاء أن أنتفع به أولاً ، وينتفع به غيري ثانياً .
وحسبي أن أغرف مما صحّ من دواوين السُّنّة وبطون كتب السلف ، مما وشّيْتُ به هذه الرسالة وحلّيتُ به عرائس القول .
وحسبي أني أنتقي من أطايب القول ، وأنظمه عقداً في سلك الترقيم ! مـما قـد يخفى على بعض الناس إن لم يكن على كثير ممن يُريد الدعاء .
ولي في صنيعي هذا قدوة وأسوة في أئمة الإسلام ، وإن كنت في جنبهم كبقلٍ في أصول نخـل طوال [3] ، لكن التّشبّه بالكرام فلاح .
وبدا لي أن أكتب من خلال النقاط التالية :
1 تعريف الدعاء وأنواعه
2 الأمر بالدعاء والحث عليه .
3 فضل الدعـاء .
4 كيف يكون الدعاء مستجاباً ؟
5 أدعية مأثورة ودعوات مستجابة .
6 موانـع الدعـاء .
7 نماذج من دعوات الصالحين المُستَجابَة .
وسوف التزم في هذه الرسالة بالاقتصار على ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، ففي الصحيح غُنية وكفاية ، وسوف أقوم بتخريج الأحاديث تخريجا متوسطا ، وأُقدِّم بين يدي التخريج بالحكم على الحديث صحة أو حُسنا ، وأما ما يكون من أحـاديث الصحيحين أو أحدهما فسوف أكتفي فيه بمجرد العزو بالجزء والصفحة ورقم الحديث ما أمكن ، إذ أحاديث الصحيح قد جاوزت القنطرة ، وتلقتها الأمة بالقبول ، واعتنيت بتخريج أحـاديث الصحيحين فالمرفوع منها أذكر الكتاب والباب والجزء والصفحـة ، إلا أني أغفلت الأبواب في التخريج من صحيح مسلم ؛ لأن التبويب من صنيع الشُّرّاح وليس من صنيع الإمام مسلم – رحمه الله – .
وإذا كان الحديث في الصحيحين أو في أحدهما فإني أكتفي بالعزو إليهما دون غيرهما ، إلا لزيادة فائدة .
كما سيلحظ القارئ الكريم في بعض الصفحـات أو من خلال بعض النقاط أني أسـرد فيها الآيات والأحاديث دون تعليق أو بيان مُكتفياً بوضع العنوان ، وعذري في ذلك وضوح الفكرة ، مع بيان النصّ بياناً جلـيّـاً لما أردت الاستدلال عليه .
وأتوجّـه بجزيل شكري وعرفاني وتقديري لمشايخي وإخواني الذين راجعـوا هذه الرسالة ، فأتحفوني بمقترحاتهم ، وأمدّوني بملحوظاتهم ، فالله أسأل أن يُعلي درجتهم ، وأن يرفع ذِكرهم ، وأن يُثقِّل بذلك موازينهم .
وأسأله سبحانه وتعالى " سلوك سبيل الرشاد ، والعِصمة من أحوال أهل الزيغ والعناد ، والدوام على جميع أنواع الخير في ازدياد ، والتوفيق في الأقوال والأفعال للصواب ، والجري على آثار ذوي البصائر والألباب ، وأن يفعل ذلك بوالدينا ومشايخنا وجميع من نُحبّه ويُحبنا ، وسائر المسلمين إنه الواسع الوهاب ، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه مَتاب " [4] .
وهذا جُهد الـمُـقـلّ ، فما كان فيه من سداد وتوفيق فهو مِنّـة من الله وحده ، وما كان فيه من عيب فذاك مني والله ورسوله مِنه بريئان .
وأشكر كل من أهدى إليّ عيوبي .
أولاً : تعريف الدعـاء
الدعاء هو النداء والطلب
ومنه قوله سبحانه : ( وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء ) [البقرة : 171]
قال في المصباح المنير : دعوتُ الله أدعوه دعاء . ابتهلت إليه بالسؤال ، ورغبت فيما عنده من الخير ، ودعوت زيداً : ناديته ، وطلبت إقباله [5] .
وقال الزمخشري : دعـو : دعوت فلاناً وبِفلان : ناديته وصِحت به [6]
وقال الحافظ ابن حجر – رحمه الله – : الدعـاء هو إظهـار غـاية التذلل والافتقار الى الله والاستكانة له [7] .
ويُفرّق العلماء بين الدعاء والأمر والالتماس .
فالأمر : طلب من الأعلى إلى الأدنى .
والدعاء : - عكسه – طلب من الأدنى إلى الأعلى .
والالتماس : طلب بين مُتساويين [8] .
وإنما أوردت الفروق هنا لأن من الناس من يُشكل عليه قول الداعي – مثلاً – : اللهم أدخلني برحمتك التي وسعت كل شيء . فيظن أن هذا من جنس الأمر ، وليس كذلك .
أنواعـه :
باعتبار هيئة الداعي :
أن يرفع يديه حذو منكبيه ، أو يمـدّ يديه مَـدّاً ، أو يُشير بأصبع واحدة .
قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم : المسألـة أن ترفع يديك حـذو منكبيك أو نحوهما ، والاستغفار أن تشير بأصبع واحدة ، والابتهال أن تمدّ يديك جميعا [9] .
وكان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا خَطَب يُشير بأصبعه المسبِّحـة .
روى مسلم عن عمارة بن رؤيبة – رضي الله عنه – أنه رأى بشر بن مروان على المنبر رافعاً يديه فقال : قـبّـح الله هاتين اليدين ! لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يزيد على أن يقول بيده هكذا ، وأشار بإصبعه المسبحة [10] .
باعتبار لفظ الدعاء :
توحيد وثناء ، ومسألة عفو ورحمة ، وسؤال عافية ونحوها .
قال ابن منظور – رحمه الله – :
قال الله تعالى : ( وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) قال أبو إسحاق : يقول : ادعوا من استدعيتم طاعته ورجوتم معونته في الإتيان بسورة مثله ، وقال الفراء : وادعوا شهداءكم من دون الله يقول آلهتكم . يقول استغيثوا بهم ، وهو كقولك للرجل : إذا لقيت العدو خاليا فادع المسلمين ، ومعناه استغث بالمسلمين ، فالدعاء ههنا بمعنى الاستغاثة ، وقد يكون الدعاء عبادة :( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ ) وقوله بعد ذلك : ( فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ ) يقول ادعوهم في النوازل التي تنـزل بكم إن كانوا آلهة كما تقولون يجيبوا دعاءكم ، فإن دعوتموهم فلم يجيبوكم فأنتم كاذبون أنهم آلهة ، وقال أبو إسحاق في قوله عز وجل : ( أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ) معنى الدعاء على ثلاثة أوجه :
فَضَرْبٌ منها توحيده والثناء عليه كقولك : يا الله لا إله إلا أنت ، وكقولك : ربنا لك الحمد . إذا قلته فقد دعوته بقولك ربنا ثم أتيت بالثناء والتوحيد ومثله قوله عز وجل :( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ) فهذا ضرب من الدعاء .
والضرب الثاني مسألة الله العفو والرحمة وما يقرب منه كقولك : اللهم اغفر لنا .
والضرب الثالث مسألة الحظ من الدنيا كقولك : اللهم ارزقني مالا وولدا .
وإنما سمي هذا جميعه دعاء لأن الإنسان يصدر في هذه الأشياء بقوله يا الله ، يا رب ، يا رحمن ، فلذلك سمي دعاء [11] . اهـ .
ويُقسّم بعض العلماء الدعاء إلى :
1 - دعاء عبادة .
2 – دعاء مسألة .
فالأول مثاله الصوم والصلاة وسائر العبادات ، فإذا صلى أو صام فقد دعا ربه بلسان حاله أن يغفر له ، وأن يُجيره من عذابه ، وأن يُعطيه من نوالِه .
ومَنْ صَرَف شيئا من هذا النوع لغير الله فقد أشرك بالله ، وشِركه يُعدّ شركاً أكبر .
والثاني منه ما هو عبادة ، وهو موضوع هذا الكتاب ، وهذا لا يجوز صرفه إلا لله ، فَمَن صَرَفه لغير الله فقد أشرك .
ومنه ما هو ليس من جنس العبادة ، ومنه قوله – عليه الصلاة والسلام – : مَنْ دعـاكـم فأجيبوه [12] . وهذا مما يقدر عليه المخلوق ، وفيما يقدر عليه [13] .
والدعاءُ إنما يكون رغبةً ورهبةً خوفاً ورجاءً .
رغبة بما عند الله – جل جلاله – من الثواب العاجل والنعيم المقيم ، ورهبة مما أعدّه لأعدائِه من العذاب المقيم والنَّكال والجحيم .
وقد أثنى الله على أنبيائه فقال : ( إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ) [ الأنبياء : 90 ] .
وقال – عز وجل – آمِـراً عباده المؤمنين بذلك : ( ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ ) [ الأعراف : 55 ، 56 ]
ثانياً : الأمر بالدعاء والحث عليه
أمر الله سبحانه بالدعاء ووعد بالإجابة ، فقال جلّ شأنه : ( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ) [ غافر : 60 ]
فسمى اللهُ عز وجل الدعاء : عبادة ، كما في الآية السابقة ، وكذلك سـمّاه رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما في حديث النعمان بن بشير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : إن الدعاء هو العبادة » ثم قرأ : ( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ) [ غافر : 60 ] [14] .
قال شيخُ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – : الدعـاءُ من أعظـم الدِّيـن [15] .
وقال ابن منظور – رحمه الله – :
في أسماء الله : المجيب ، وهو الذي يُقابل الدعاء والسؤال بالعطاء والقبول سبحانه وتعالى [16] .
وأمَـر الله – عز وجل – بالدعاء والإخلاص فيه ، فقال سبحانه : ( قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) [ الأعراف :29 ] إذ الدعاء حال الإخلاص أبلغُ في حصول المقصود ، وأقرب إلى انكسـار القلب ، وصدقِ اللجؤ إلى الله سبحانه وتعالى . لذا كانت دعـوة المضطر مستجابَـة : ( أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ ) [ النمل :62 ] .
وفي المسند وغيره عن أبي هريرة قـال : قال رسـول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : دعوة المظلوم مستجابة ، وإن كان فاجرا ، ففجوره على نفسه [17] .
ألم تر حال المشركين في الجاهلية الأولى كيف يتخلّون عن آلهتهم ويَدْعُون الله مخلصين له الدين وذلك إذا ركبوا في الفلك ، واضطربت بـهم الأمواج ، كما في قوله تعالى : ( حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) [يونس : 22 ] .
والمشركون ما كانوا يفزعون لآلهتهم عند الشدائد ، بل كانوا يلجئون إلى الله ، إذ النفوس جُبلت على الالتجاء لله وحده عند حصول المكروه ؛ إلا ما يكون من بعض مشركي زماننا ! فإن ملجأهم ومفزعهم (السيّد) أو (القطب) ، فأبو جهل أفقهُ من هؤلاء !!
تأمّل قول الله تبارك وتعالى : ( وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) [ لقمان : 32 ] .
قال ابن القيم – رحمه الله – : التوحيد مَفْزَعُ أعدائه وأوليائه ؛ فأما أعداؤه فينجيهم من كُرب الدنيا وشدائدها :( فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ) [العنكبوت : 65 ] ، وأما أولياؤه فينجيهم به من كربات الدنيا والآخرة وشدائدها ، ولذلك فزع إليه يونس فنجّـاه الله من تلك الظلمات ، وفزع إليه أتباع الرسل فَنَجَوا بِهِ [18] مما عُذِّبَ به المشركون في الدنيا ، وما أُعِدّ لهم في الآخرة ، ولما فزع إليه فرعون عند معاينة الهلاك وإدراك الغرق له لم ينفعـه ؛ لأن الإيمان عند المعاينة لا يُقبل . هذه سنة الله في عباده . فما دُفِعَتْ شدائد الدنيا بمثل التوحيد [19] .
ولما ذُكِرَ الصيامَ وأحكامه في التنـزيل العزيز ناسب المقـام أن يُذكر بعده شأن الدعاء ، إذ الصيام يقترن بالقيام فهما صنوان ، والقيام يتضمن الدعاء ، قال ربنا سبحانه : ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ) [ البقرة : 186] .
وجاء في سبب نـزول هذه الآية أن الصحابة رضي الله عنهم قالوا : يا رسول الله أقريب ربنا فنناجيه ، أم بعيد فنناديه ؟ فأنـزل الله هذه الآية [20] .
وتمعّن في هذه الآية حيث لم تُجعل الإجابة فيها للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فقد ورد قبلها آيـات وبعدها آيات سُئل فيها الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم أسئلة جاءته الإجابة مُصدّرة ـ ( قل ) : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ) [ البقرة :189] (سْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ ) الآية [ البقرة : 215] ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاس وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ِ) الآية [ البقرة : 219] ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ ) الآية [ البقرة : 220 ]
وغيرها من الآيات ، أما هذه الآية فصُدِّرت بـ ( فَإِنِّي قَرِيبٌ ) [21] .
وما ذلك إلا لأن الدعاءَ عبادةٌ محضة لا يجـوز صرفها لغير الله ، وحتى لا يُتوهّم أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم واسطة بين الخلق والخالق في ذات العبادة ، فجاء الجواب بالتأكيد ( فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ) ولم يقل سبحانه وتعالى : فقل ، أي يا محمد . والله أعلم .
ثالثاً : فضل الدعاء
الدعاء فضله عظيم ، وشأنه جسيم
فبالإضافة إلى أنه عبادة مأمور بها ، مُثاب فاعلها إلا أنه :
1 - يُستدفعُ بِـهِ البلاء ، ويُـردُّ بِـهِ القضاء
قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : لاَ يَرُدّ القَضَاءَ إِلاّ الدّعَاءُ ، وَلاَ يَزِيدُ في العُمُرِ إِلاّ البِرّ [22] .
وقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الدعاء ينفع مما نـزل ومما لم ينـزل ، فعليكم عباد الله بالدعاء [23] .
2 - كَـرامـة الدعاء على الله دِلالة على فضله
قال – عليه الصلاة والسلام – : لَيْسَ شَيْءٌ أَكْـرَمَ على اللّهِ سُبْحَانَهُ مِِـنَ الدّعَاءِ [24] .
3 - وبالدعاء تستمطر الرحمات ، وتُستدفع النقمات
ولذا كان الناس إذا قحطوا خرجوا للمصلى ، وسألوا الله جل وعلا ، وتضرعوا إليه فيسألونه بصدق وإخـلاص وحسنِ لجـاءة إليه ، فيستجيبَ دعائهم ، ( وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ ) [ الشورى : 28 ] .
وفي الصحيحين من حديث أنسِ بنِ مالكٍ أَنّ رجُلاً دخلَ المسجدَ يومَ جُمعةٍ من بابٍ كان نحوَ بابِ دارِ القضاءِ - ورسولُ اللهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم قائمٌ يخطبُ - فاستقبلَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم قائماً ، ثم قال : يا رسولَ اللهِ . هلَكَتِ الأموالُ ، وانقطَعَتِ السبلُ ، فادعُ اللهُ يُغيثُنا فرفعَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم يدَيهِ ، ثم قال : اللّهمّ أغثْنا . اللّهمّ أغثْنا اللّهمّ أغثنا . قال أَنسٌ : ولا واللهِ ما نرَى في السماءِ من سحابٍ ولا قَزَعـةً ، وما بَينَنا وبينَ سَلعٍ من بيتِ ولا دارٍ . قال : فطلَعَتْ من ورائهِ سحابةٌ مثلُ التّرسِ ، فلمّا توسّطَتِ السماءِ انتَشَرتْ ثم أمطرَتْ ، فلا واللهِ ما رأينا الشمسَ سبتاً [25] ، ثمّ دَخلَ رجلٌ من ذلكَ البابِ في الجُمعةِ المُقبلة – ورسولُ اللهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم قائمٌ يَخطب – فاستقبلَهُ قائماً فقال :يا رسولَ اللهِ هَلكَتِ الأموالُ ، وانقطَعتِ السبُلُ ، فادعُ اللهَ يُمسِكها عنا ! قال فرفعَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم يديهِ ثم قال : اللّهمّ حَوالَينا ولا علينا . اللّهمّ عَلَى الآكامِ والظرابِ وبُطونِ الأوديةِ ومَنابتِ الشجر . قال : فأَقلعَتْ ، وَخرجْنا نمشي في الشمسِ [26] .
3 - وبالدعاء يُستخرج مكنون عبودية الدعاء والتضرع لله سبحانه والذلّ بين يديه
عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : من لم يَدْعُ اللهَ غضب اللهُ عليه [27] .
وما ذلك إلا لأن العبد مفتقر إلى الله في جميع أحوالـه ، فمن ترك الدعـاء فقد استغنى عن الله بلسان حاله ، وهذا موجبٌ لغضب الله عليه .
اللهُ يغضبُ إن تركتَ سؤالَه وبُنيّ آدمَ حينَ يُسـألُ يغضبُ
ولذا كانت عائشة – رضي الله عنها – تقول : سلوا الله التيسير في كل شيء ، حتى الشسع في النعل ، فإنه إن لم يُيسره الله لم يتيسر [28] .
قال بكر بن عبد الله المزنى : ينـزل بالعبد الأمر فيدعو الله فيُصرف عنه ، فيأتيه الشيطـان فيضعف شكره يقول : إن الأمر كان أيسر مما تذهب إليه [29] .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – : قال بعض السلف : يا ابن آدم . لقد بُورِك لك في حاجة أكْثَرْتَ فيها مِنْ قَرْعِ باب سيِّدك .
وقال بعض الشيوخ : إنه ليكون لي إلى الله حاجة فأدعوه ، فيفْتَح لي من لذيذ معرفته وحلاوة مناجاته ما لا أحبّ معه أن يُعجّل قضـاء حاجتي خشية أن تنصرف نفسي عن ذلك ؛ لأن النفس لا تـريد إلا حظّهـا فـإذا قُـضْيَ انْصَرَفَتْ [30] .
قال ابن القيم – رحمه الله – :
فإذا كان كلُّ خيرٍ أصله التوفيق ، وهو بيـد الله لا بِيَـدِ العبـد ، فمفتاحه الدعاء والافتقار وصِدقِ اللجأ والرغبة والرهبة إليه ، فمتى أَعطى العبد هذا المفتاح فقد أراد أن يفتح لـه … وما أُتي من أُتي ، إلا من قِبل إضاعةِ الشكر وإهمالِ الافتقار والدعاء ، ولا ظَفِرَ من ظَفِر – بمشيئة الله وعونه – إلا بقيامه بالشكر وصدق الافتقار والدعاء [31] .
وقال أيضا :
ليس العجب من مملوك يتذلل لله ويتعبّد لـه ، ولا يمل من خدمته مع حاجته وفقره إليه ، إنما العجب من مالك يتحبّب إلى مملوكـه بصنوف إنعامـه ويتودد إليه بأنواع إحسانه ، مع غناه عنه
كفى بك عزّاً أنك له عبد وكفى بك فخراً أنه لك رب [32] .
وقال ابن رجب – رحمه الله – : واعلم أن سؤالَ اللهِ تعالى دون خلقه هو المتعيّن ؛ لأن السؤال فيه إظهار الذل من السائل والمسكنة والحاجة والافتقار ، وفيه الاعتراف بقـدرة المسؤول على دفـع هذا الضرر ، ونيـلِ المطلوب ، وجلـبِ المنافع ، ودرء المضارّ ، ولا يصلح الذل والافتقار إلا الله وحده ، لأنه حقيقة العبادة [33] .
وقال الحافظ ابن حجر – رحمه الله – : الدعـاء هو إظهـار غـاية التذلل والافتقار الى الله والاستكانة له ، وما شُرِعَتْ العبادات الا للخضوع للباري وإظهار الافتقار اليه [34] .
4 - ( ومما يدل على فضله ) أن الله يُحب الدعاء ، ويُحب الملحِّين فيه
كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يدعو الله كثيرا ، ويُلحّ في الدعاء .
روى ابن عباس – رضي الله عنهما – أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال - وهو في قُبَّـةٍ لـه يوم بدر - : أنشدك عهدك ووعدك . اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم أبداً . فأخذ أبو بكر بيده وقال : حسبك يا رسول الله فقد ألححت على ربك [35] .
وعن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : ألِظُّـوا بـيا ذا الجـلال والإكرام [36] .
قال ابن الأثير : معنى ألِظوا : إلزموه ، واثبتوا عليه ، وأكثروا من قوله والتلفظ به … وفي حديث رَجْم اليهودي ، فلمَّا رآه النبيُّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ألَـظَّ به النِّشْدَة . أي ألَحَّ في سُؤاله وألزمَه إيَّاه [37] .
وقد أثنى الله على خليله إبراهيم بأنه أوّاه ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ ) [التوبة:114] .
قال ابن مسعود – رضي الله عنه – : الأواه : الذي يُكثر الدعاء [38] .
قال ابن رجب : والله سبحانه يحبُّ أن يُسأل ، ويُرغبُ إليه في الحـوائج ، ويُلحُّ في سؤاله ودعائه ، ويغضب على من لا يسأله ، ويستدعي من عباده سؤالَه ، وهو قادر على إعطاء خلقه كلهم سؤلهم من غير أن ينقص من ملكه شيء ، والمخلوق بخلاف ذلك ، يكره أن يسأل ويحب أن لا يسأل ؛ لعجزه وفقره وحاجته ، ولهذا قال وهب بن منبه - لرجل كان يأتي الملوك - : ويحك تأتي من يغلق عنك بابَه ، ويظهر لك فَقْرَه ، ويواري عنك غناه ، وتدع من يفتح لك بابه نصف الليل ونصف النهار ، ويظهر لك غناه ، ويقول ادعني أستجب لك . وقال طاووس لعطاء : إياك أن تطلب حوائجك إلى من أغلق بابه دونك ، ويجعل دونـها حجّابَه ، وعليك بمن بابُه مفتوح إلى يوم القيامة ، أمرك أن تسألَهُ ، ووعدك أن يجيبَك [39] .
5 - بالدعاء تُفرّجُ الشِّدّائد ، وتُنفّسُ الكُرب
فكم سمعنا عمن أُغلقت في وجهه الأبواب ، وضاقت عليه الأرض بما رحبت ، ثم طَـرَقَ باب مسبب الأسباب ، وألحّ على الله في الدعـاء ، ورفع إليه الشكوى ، وبكى فَفُتِحَتْ له الأبواب ، وانفرج ما به من شِدّة وضيق .
ألم تسمع قصة أولئك الثلاثة الذين دخلوا غـاراً فأغْلَقَتْ عليهـم الباب صخـرةٌ عظيمة ، فما كان منهم إلا أن دعوا الله بصالح أعمالِهم وأخلصِها ، فانفرجت الصخرةُ وخرجوا يمشون [40]
6 - وبالدعاء يُستنـزلُ النصر من الله العلي القدير
فالمؤيد بالوحي – عليه الصلاة والسلام – كان يجتهد في استنـزال النصر بالدعاء .
فعن عَبْد اللّهِ بْن عَبّاسٍ قال : حَدّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ قال : لَمّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلَىَ الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ وَأَصْحَابُهُ ثَلاَثُمِائةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلاً فَاسْتَقْبَلَ نَبِيّ اللّهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم الْقِبْلَةَ ثُمّ مَدّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبّهِ : اللّهُمّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي . اللّهُمّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي . اللّهُمّ إنْ تَهْلِكْ هَـَذِهِ الْعِصَابَةُ مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ لاَ تُعْبَدْ فِي الأَرْضِ ، فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبّهِ مَادّاً يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ ، حَتّىَ سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَ هُ فَأَلْقَاهُ عَلَىَ مَنْكِبَيْهِ ، ثُمّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ وَقَالَ : يَا نَبِيّ اللّهِ كَـذَاكَ مُنَاشَدَتَكَ رَبّكَ [41] فَإنّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ ، فَأَنْـزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ : ( إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ ) [ الأنفال :9 ] [42]
فاستجاب الله دعاء نَبِيِّه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ونصره على أعدائه .
وسيأتي مزيد بيان لهذا الحديث في أكثر من موضع ، وسيأتي تخريـجه .
وذكر الله في صفـات عباد الرحمـن أنـهم يدعـونه بقولهم : ( رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ) [ الفرقان : 74 ] .
وختم السـورة بقوله : ( قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ ) [ الفرقان : 77 ]
يعني : أيّ عبء يعبأ بكم ، وأيّ مبالاة يُبالي ربي بكم لولا دعاؤكم وعبادتُكم [43] .
7 - والدعاء سلاح المؤمن ، به يُقاتِل ، وبه يُدافع
ولذا كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يجتهد في الدعـاء قبل الحـرب ، كما في حديث ابن عباس ، المتقدم آنفاً .
وكان المسلمون إذا أرادوا القتال يوم الجمعة أخّروا بدء القتال حتى تـزول الشمس ، ويصعد الأئمة المنابر ، ويدعون للمجاهدين بالنصر .
قال الإمام البخاري : باب كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا لم يقاتل أول النهار أخّـرَ القتال حتى تزول الشمس [44] ثم أورد تحته حديث عبد الله بن أبي أوفى – رضي الله عنه –
قال عبد الله بن أبي أوفي – رضي الله عنهما – : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أيامه التي لقي فيها انتظر حتى مالت الشمس ، ثم قام في الناس خطيبا قال : أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو ، وسلوا الله العافية ، فإذا لقيتموهم فاصبروا ، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف ، ثم قال : اللهم مُنـزِل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم .
وعن النعمان بن مقرن – رضي الله عنه – قال : غزوت مع النبي صلى الله عليه على وسلم ، فكان إذا طلع الفجر أمسك حتى تطلع الشمس ، فإذا طلعت قاتل ، فإذا انتصف النهار امسك حتى تـزول الشمس ، فإذا زالـت الشمس قـاتل حتى العصر ، ثم أمسك حتى يُصلي العصر ، ثم يُقاتل . قـال : وكان يُقـال عند ذلك تـهيج رياح النصـر ، ويدعو المؤمنون لجيوشهم في صلاتـهم [45] .
وفي رواية قال : شهدت القتال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان إذا لم يُقاتل في أول النهار انتظر حتى تهب الأرواح ، وتحضر الصلوات [46]
8 - والدعاء سهامُ الليل ، وهي سهامٌ لا تُخطئ
قال الإمام الشافعي – رحمه الله – :
أتـهزأُ بالدعـاء وتَزْدَرِيـه وما تدري بمـا صنع الدعاء
سهامُ الليل لا تُخطئ ولكن لها أمـدٌ وللأمـدِ انقضـاء
فيمسكها إذا ما شـاء ربي ويرسلها إذا نَفَـذَ القضـاء
قال ابن القيم : والدعاء من أنفع الأدوية ، وهو عدو البلاء ، يُدافعه ويعالجه ، ويمنع نزولَه ، ويرفعه أو يُخَفِّفه إذا نـزل ، وهو سلاح المؤمن …
وله - أي الدعاء - مع البلاء ثلاث مقامات :
أحدها : أن يكون أقوى من البلاء فيدفعه .
الثاني : أن يكون أضعف من البلاء فيقوى عليه البلاء ، فيُصاب به العبد ، ولكن قد يخففه ، وإن كان ضعيفـا .
الثالث : أن يتقاوما ويمنع كل واحد منهما صاحبه [47] .
9 - والدعاء من أعظم أسباب الهداية
ولذا كان من دعائه – عليه الصلاة والسلام – : اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغـنى [48] .
وعلّم رسولُ الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم سبطه الحسن بن عليّ – رضي الله عنهما – أن يدعو بـهذا الدعاء في الوتر : اللهم اهدني فيمن هديت [49] .
قال ابن القيم : العجـب ممن تعرض له حاجـة فيَصرف رغبته وهمَّته فيها إلي الله ليقضيها له ، ولا يتصدّى للسؤال لحياة قلبه من موت الجهل والإعراض ، وشفائه من داء الشهوات والشبهات ، ولكن إذا مات القلب لم يشعر بمعصيته [50] .
وفوائدُ الدُّعاء عظيمة لمن تأملها .
ولكن أين مَنْ يمـدّ يديـه ؟
رابعاً : كيف يكون الدعاء مستجاباً ؟
ثمّـة أمور وآداب وأحوال ليست واجبة كلّها ، فمنها ما هو واجب ، ومنها ما هو م�