تشكل مسألة الأمن أحد الرهانات الكبرى المعاصرة في الديمقراطيات الغربية. ومن هنا غدت فاعلية أجهزة الشرطة بمثابة «سلاح» تستخدمه السلطات السياسية في مواجهة «القلق الأمني» الذي تعاني منه المجتمعات المعنية. وبالتالي أخذت هذه الأجهزة بعداً سياسياً وانتخابياً كبيراً.
وقد لا يكون من المبالغة القول إن الرهان «الأمني» يشكّل بالنسبة للديمقراطيات الغربية، في العقدين الأخيرين خاصة، أحد المواضيع الرئيسية في البرامج الانتخابية لمختلف القوى والأحزاب السياسية في حملاتها للفوز بأصوات الناخبين.
يقدم الفرنسيان، المؤرخ جان مارك بيليير والباحث في علم الاجتماع رونيه ليفي، كتاباً تحت عنوان «تاريخ أجهزة الشرطة في فرنسا» يشرحان فيه المسار التطوري لأجهزة الشرطة الفرنسية ولمهماتها الرئيسية في مجالات الأمن العام والشرطة الجنائية والشرطة السياسية على مدى القرون الأخيرة.
ذلك بالتحديد اعتباراً من جهاز الشرطة الذي أنشأه لويس الرابع عشر عام 1667 وحتى قرار ضم جهاز الدرك الوطني الفرنسي لوزارة الداخلية مؤخراً، ومروراً بتأسيس حكومة فيشي، أثناء الاحتلال النازي وبالتواطؤ معه، جهاز الشرطة الوطنية في ربيع عام 1941. بهذا المعنى يجمع المؤلفان بين التاريخ «الطويل» والتاريخ «المباشر» لأجهزة الشرطة في فرنسا.
وعن المهام الأساسية لأجهزة الشرطة يحدد المؤلفان القول إنها «تشكل أحد الأدوات المهمة في آلية عمل الدولة والرقابة على المجتمع وبالتالي هي رهان كبير أحياناً في المجال السياسي».
كما أنها: «هيئة لضبط الروابط والنزاعات الاجتماعية، وبالتالي «أداة أساسية وضرورية» لسلاسة «العيش المشترك» داخل المجتمعات. ومن الصفات الأساسية التي يتم التأكيد عليها أيضاً هو أنها تمثل مجتمعاً خاصاً تنتابه المنافسات والمصالح الخاصة.
وبالإضافة إلى القيم والقواعد الخاصة التي تتمتع بها أجهزة الشرطة فإنها تقيم علاقات معقّدة ومتناقضة مع الرأي العام، ومع الأحزاب السياسية. وقد أقامت مثل هذه العلاقات مع مختلف الحكومات والأنظمة السياسية التي تعاقبت على فرنسا منذ قرون عدة.
ومما يتم تأكيده هو أن المسائل المتعلقة بأجهزة الشرطة تتداخل أكثر فأكثر بصورة مباشرة مع مسألة السلطة. الأمر الذي عبر عنه عالم الاجتماع الشهير «ماكس فيبر» بالقول أن الدولة «تحتكر العنف المشروع» عبر شرطتها.
وتتم في هذا الإطار مقاربة العلاقات بين الشرطة والمجتمع الفرنسي خلال الفترة الراهنة حيث يتمتع النموذج الفرنسي بقدر كبير من «المركزية». هذا إلى درجة التأكيد المؤلفين أنه من المثير للدهشة «التباين الكبير» بين باريس، الخاضعة للسيطرة الصارمة من قبل الشرطة، وبقية فرنسا «المتروكة أمنيا» إلى هذه الدرجة أو تلك.
وعلى قاعدة مسار التطوّر الذي عرفته الشرطة الفرنسية يشرح المؤلفان أنها تواجه اليوم «تحدي المحافظة على الأمن في الضواحي». ذلك أن ضواحي المدن الفرنسية الكبرى، خاصة باريس، عرفت خلال السنوات الأخيرة اضطرابات كثير كان محركها الأساسي هم الشباب ذوي الأصول التي تعود للهجرة من أفارقة وعرب والذين يعانون من درجة كبيرة من البطالة.
ويتم تحديد أحد أكبر تحديات الشرطة الفرنسية في السياق الراهن بضرورة الوصول إلى نسج علاقات «ليست تنازعية» مع سكان الضواحي المعنية.
إن المهمات الحالية للشرطة في بلد مثل فرنسا عديدة ومتنوعة، وتتراوح، كما يحدد المؤلفان القول، من «المحافظة على النظام إلى مكافحة التجسس». وتتراوح مرجعياتها «من الشرطة البلدية حتى الشرطة السياسية المتمثلة فيما يُعرف بجهاز الاستخبارات العامة ».
بالتالي تنبغي،كما يؤكّد المؤلفان، دراسة دور مختلف الأجهزة ورهاناتها ووزنها الحقيقي وصراعاتها الداخلية. هذا كله في منظور التمييز بين «الحقائق» و«الأساطير» المحيطة بعالم الشرطة.
تتم الإشارة إلى أنه جرى لفترة طويلة النظر إلى الشرطة بشكل أساسي من خلال علاقتها مع الجريمة وعالمها ومع النظام والفوضى والعنف.
لكن هناك أسئلة أساسية أخرى ينبغي دائما طرحها مثل علاقاتها بالسلطة السياسية. هذه العلاقات تختلف من حيث طبيعتها، كما يشرح المؤلفان، تبعا للبلدان والمسارات والثقافات والحقبات التاريخية.
وبعد البحث فيما يعارض بين «التقاليد الانكلوسكسونية» و«التقاليد الفرنسية» يبيّن المؤلفان واقع أن الشرطة الفرنسية «بقيت تابعة للبلديات أساسا» حتى عام 1941 لتصبح ذات طبيعة «مركزية». لكن الشرطة البلدية عادت للظهور اعتبارا من عام 1978 ليتعزز دورها اعتبارا من ذلك التاريخ.
هذا إلى جانب التأكيد على الحالة الخاصة لـ"محافظة شرطة باريس» التي بقيت بمثابة «دولة حقيقية داخل الدولة».
في المحصلة يمثل هذا الكتاب مصدرا استثنائيا للمرجعيات الخاصة بالشرطة الفرنسية وبمسارات تطورها الذي عرف تبدّلاً كبيراً زمن لويس الرابع عشر حتى فترة رئاسة نيكولا ساركوزي. ومحاولة للكشف عن دور قوات الأمن و«عالمها الخفي» في إطار ما يسمّى بـ«الديمقراطيات الغربية».
الكتاب: تاريخ أجهزة الشرطة في فرنسا
تأليف: جان ماري بيليير رونيه ليفي
الناشر: نوفو موند باريس 2011
الصفحات: 766 صفحة
القطع: المتوسط
المصدر: جريدة البيان
نشرت فى 25 يوليو 2011
بواسطة books
عدد زيارات الموقع
68,409
ساحة النقاش