الأمية هي أحد أخطر الظواهر التي تواجهها المجتمعات الإنسانية. وإذا كانت تضرب بقوة أكبر المجتمعات النامية، ومن بينها مجتمعاتها العربية، فإنها لا تزال إحدى المشاكل التي تواجهها المجتمعات المتقدمة. هذا ما يدل عليه بوضوح كتاب وزير التربية الفرنسي الأسبق لوك فيري تحت عنوان «محاربة الأمية».
إن الأمية في المجتمع الفرنسي لا تعني بالضرورة عدم القدرة على القراءة والكتابة، ولكنها تدلّ أحيانا على التلامذة الذين يترددون على المدارس. ويؤكد لوك فيري، مؤلف هذا الكتاب، أن ثلث التلامذة الذين يدخلون إلى المدرسة الإعدادية في فرنسا والنسبة نفسها من الشباب البالغين من العمر 17 عاما يعانون من صعوبات حقيقية في القراءة. ويضيف: «لا يمكننا أبدا أن نسمح باستمرار هذه المأساة التي تصيب أغلبية البلدان الغربية، لكن هذا ما يتم تناسيه غالبا».
«المتهمون» كُثر كما يحددهم أولئك الذين يتعرضون لموضوع الأمية. وفي مقدمتهم «طرق التعليم» و«التلفزيون» أو «سوء تكوين المعلمين» أو «نقص الإمكانيات»، الخ. لكن مؤلف هذا الكتاب يؤكد على أن الظاهرة أعمّ وأشمل وأعمق وهي تخص «تحول في العلاقات مع التقاليد» عامة. ذلك أن اللغة هي «بامتياز» تراث ينتقل من جيل إلى جيل.
و«الموضة» السائدة اليوم هي إعطاء الأولوية ل«الإبداع» على حساب «احترام الموروث». لكن «الإبداع» كما يجري تتم ترجمته عمليا في زيادة «الأخطاء الإملائية» و«عدم التقيّد بالقواعد» اللغوية.
ومن المعروف أن «مكافحة الأمية» في فرنسا حققت انتصارا بعد انتصار وبدا أن أفق عدم وجود أي أمي، بمعنى لا يعرف القراءة والكتابة، قد غدا قريبا. لكن مثل هذا التوجه بدأ بالتقهقر شيئا فشيئا منذ حوالي عقدين من الزمن.
والمنظومة التربوية الفرنسية لم تعد تتقدم منذ أواسط سنوات التسعينات، هذا إذا لم تكن قد بدأت بالتراجع. وما يفعله مؤلف هذا الكتاب بعد استعراض هذا التشخيص الذي قدمه عدد من الخبراء هو محاولة أن يبيّن المصادر الرئيسية لمثل هذه «الأميّة الجديدة».
ويؤكد في فصل أول يحمل عنوان «الأمية اليوم، التشخيص والعلاج» أن «الأمية ظاهرة اجتماعية شاملة. وهي ليست ذات خصوصية فرنسية، بل هي تصيب أوروبا كلها بل والغرب بأكمله». ولذلك ينبغي تحليل الظاهرة في إطارها العام وبالتالي ينبغي تجنّب المقولات التي تتكرر حول «الهجرة والتلفزيون» كي لا يتم اختزال الظاهرة إلى بعض جوانبها فقط.
ويؤكد المؤلف القول أنه «لا يدعو للعودة إلى الوراء» وإلى «قيم الجمهورية الفرنسية الثالثة» ذلك أن «العودة إلى مدارس الأجداد هي ضرب من العبث»، على حد تعبيره. ولن يتم حل المشاكل بالقول «أن الأمر كان سابقا أفضل».
لكن بالمقابل لن تجد حلها عبر ما يسميه المؤلف ب«الأوهام التقدمية» التي كانت مسؤولة إلى حد ما عن تخريب المنظومة التربوية الفرنسية. المطلوب هو «اختراع سبل أفضل وتهيئة سبل العودة إلى الحس الجمهورية السليم» فيما يتعلق بالميدان التربوي.
ولا يتردد المؤلف في فقد ما يسميه ب«نزعة الحداثة» من حيث أنها ولّدت عدة أوهام باسم «التجديد التربوي-البيداغوجي». الوهم الأول هو المبالغة في قيمة طرق التعليم المتجددة،التي فيها شيء من الصحة، ولكن لا ينبغي أن تحل محل «الدروس الكلاسيكية الكبرى». والوهم الثاني يحدده ب«التخلّي عن بيداغوجية العمل لصالح بيداغوجية اللعب».
والوهم الثالث يكمن في تصوّر أن الهدف الأعلى للتعليم والتربية هو العمل بحيث أن يزدهر كل فرد ويحقق ذاته بينما أن الأمر يتعلق بالأحرى في السماح لأطفالنا بأن يصبحوا تلامذة يرتقون بجهودهم وعملهم ليصبحوا غير ما كانوا عليه عند نقطة الانطلاق. والوهم الرابع والأخير الذي يحدده المؤلف هو التقليل من أهمية المسارات التي تقود الشبيبة نحو حالة البلوغ الحقيقية وليس الاكتفاء برفع «شعارات الشباب».
ويشرح المؤلف على مدى العديد من الصفحات الآثار السلبية التي ترتبت على اللبرالية وعلى العولمة اللبرالية على المنظومات التربوية كلها. ذلك من حيث أنها ساهمت في تخريب وتدمير «القيم التقليدية».
ويرى أن أحد مفاتيح فهم القرن العشرين يكمن في القول أن أولئك الذين أطلقوا عليهم صفة «البوهميين» من كل صنف واعتبروهم مخرّبين للنظام التربوي ولغيره ووضعوهم عامة في خانة اليسار، لم يكونوا في الواقع سوى «الذراع المسلحة» لازدهار العالم الرأسمالي وأداة التحقق الكامل لما تتم تسميته ب«مجتمع الاستهلاك». أما النسخة المتقدمة لهذا المجتمع فتجد تعبيرها في «العولمة اللبرالية».
لكن كيف يتم النضال ضد الأمية؟
إن المؤلف يحدد عدة اقتراحات ملموسة لكنها تشكل برأيه «منظومة متناسقة»، مع التأكيد على ضرورة الابتعاد عن «المواعظ الأخلاقية والعامة المتعلقة بالتأكيد على أهمية العمل والسلطة وعالم البالغين».
هو حذف «الترفيع الآلي» من صف إلى آخر، خاصة في المدارسة «الصعبة»، بمعنى التي تعاني من مشاكل تعليمية بحكم وجودها في ضواحي فيها أغلبية من المهاجرين. ذلك أن الأطفال الذين لا يحسنون القراءة في المدارسة الابتدائية سيعانون، حسب رأيه، باستمرار من صعوبات في حياتهم التعليمية.
الكتاب: محاربة الأمية
تأليف: لوك فيري
الناشر: اوديل جاكوب- باريس- 2009
الصفحات: 422
القطع: المتوسط
ساحة النقاش