حققت العلوم العصبية تقدّما هائلا منذ مطلع عقد الثمانينات الماضي. ولكن هناك مفارقة كبيرة يعرفها هذا الميدان وهي أن التقدم الكبير الذي جرى تحقيقه على صعيد معرفة أسرار الدماغ وآليات عمله لم يتواكب أبدا مع تقدّم مماثل على صعيد التخلّص من أمراض عقلية معروفة منذ عدة قرون. الباحث ومؤرخ العلوم الفرنسي بيير هنري كاستل يكرّس كتابا لهذه المسألة تحت عنوان «العقل المريض»، للبحث في الموضوع من خلال «الدفاع وأشكال الجنون، والأفراد»، كما جاء في العنوان الفرعي للكتاب.

ويؤكد المؤلف منذ البداية أن تطوّرا هائلا قد جرى تحقيقه على صعيد معرفة توصيف الدماغ ودراسة آليات عمله وتقييم فعالية العلاج في مجال الأمراض التي تصيبه. وأدى هذا التطور إلى تغيير كبير في المفاهيم النفسية التقليدية وإلى «تطبيع» استخدامها. هكذا أصبح يتم الحكم على «الحالات العقلية» على أساس علم الأحياء العصبي «البيولوجيا العصبية» وعلم الإحصاء الطبي.

إن المؤلف يستعرض النظريات الكبرى السائدة حتى اليوم في مجال الأمراض العقلية. ويجمعها في تيارين عريضين. يقول أحدهما إن الجنون هو نتيجة لخلل في آليات عمل الجهاز العصبي، ويرى الآخر أن الجنون هو نتاج لميزان قوى على صعيد السلطة ومقابل هذين التيارين يتبنّى المؤلف «طريقا ثالثا» لشرح أشكال الهذيان الحديثة والاكتئاب العصبي ولغز «المجرمين المجانين» وغير ذلك من ظواهر الأمراض العقلية.

ويرى كاستل أنه ينبغي بالأحرى «وضع مسائل فلسفة العقل على طاولة عمل المحللين النفسانيين». وبالتالي فهم أن ما هو «عقلي» له مكوناته النظرية والعملية الناتجة عبر التوفيق والتداخل بين ما هو دماغي وبين ما هو اجتماعي لدى كل فرد. بهذا المعنى يغدو من الخطأ القول أن «العقل» يعني «الدماغ» حصرا.

ولكن من الخطأ أيضا القول إن نشاطات العقل هي «فوق الواقع» وأنها منفصلة تماما عن الآليات العصبية-البيولوجية. ونتيجة للتداخل بين ما هو دماغي وما هو اجتماعي تجهد تحليلات هذا الكتاب للإحاطة بـ «طرفي السلسلة المتمثلة من جهة بالمحددات المتعقلة بالخلايا والمورثات ومن جهة أخرى بالعلاقات بين البشر».

ومن أجل إيضاح حقيقة طرفي «السلسلة» المقصودة يكرّس المؤلف فصلا كاملا لدراسة «النماذج الحيوانية» لأشكال الجنون، أي تلك التي يتم فيها الاستبعاد الكامل لمكوّن العلاقات مع الآخرين في المرض العقلي.

ومثل هذه الدراسة ترمي إلى الكشف عن الأصول العضوية البحتة في بعض الأمراض العقلية البشرية.

ويتم في هذا السياق التعرض لحالة المريض العقلي «جيل دولا توريت» والذي أثار اكتشاف حالته الكثير من «الفضول الفلسفي» منذ عام 1865، أي منذ التعرّف عليها بشكل محدد. تتمثّل الأعراض الرئيسية لهذه الحالة بعدم قدرة المصاب بها على منع نفسه من كيل السباب والشتائم «القبيحة» للآخرين، وبصورة لا إرادية.

ويشرح المؤلف أن البعض يرون في هذا «العقل المنتج للشتائم، الشتّام» كيانا منفصلا عن صاحبه، والخلايا العصبية هي المريضة تحديدا و«كما لو أن الدماغ نفسه هو الذي يقوم بالشتيمة، وليس الإنسان صاحب ذلك الدماغ.

فهذا الإنسان ليس هو الذي يوجه الشتائم إلى إنسان آخر». وهنا ينتمي الخلل العقلي إلى الأمراض ذات الأسباب المادية البحتة التي تعيد الاضطرابات العقلية إلى خلل آليات العمل العصبية، أي إلى خلل في الجهاز العصبي الذي قد تصل أسبابه إلى الجذور الأولى البعيدة لمورثات الأشخاص المعنيين فيه.

ويقوم بيير هنري كاستل بنوع من «تعميم» مثل هذه الحالة في التعامل بين الأفراد وليس التعامل بين إنسان- وإنسان. وهذا ما يسميه «مجتمع الأفراد-الأدمغة». ويؤكد في هذا الإطار على ضرورة معالجة الإنسان لدماغه من أجل إمكانية الاندماج في الحياة الاجتماعية». مثل هذه العلاقات بين «أدمغة» وليس بين بشر يرى المؤلف أنها تتحقق بالصيغة الأكثر شيوعا في عالم السياسة.

ما يتم التأكيد عليه في هذا الكتاب بأشكال عديدة هو أن الجنون يطرح إشكالية على العقل من خلال محاولة «نفسه» والاقتراب أكثر من الحالة الطبيعية، بمعنى البعيدة عن الفعل الثقافي من حيث دلالته الأصلية المتمثلة في تدخل الإنسان لتغيير طبيعة الوسط المحيط فيه. والبرهان الذي يجسده «العقل المريض» لا يطرح مسألة نظرية كبيرة فحسب، ولكنه يطرح مسألة فعالية العلاج وأخلاقيته.

ويصل المؤلف إلى القول إن اعتبار الألم النفساني كمجرّد مظهر خارجي لخلل الجهاز العصبي، إنما يعني اختزال المجنون إلى دماغه فقط والنسيان، أو التناسي، الكامل الاستماع إلى «لغته». بالمقابل لا تتم رؤية سوى «مناورات ذات علاقة بالسلطة» في مظاهر الجنون، كما يفعل ميشيل فوكو وأنصاره. وهم ينسون بذلك أيضا واقع أن العلاج النفسي لا يعتمد حصرا على المعايير الاجتماعية أو السياسية.

ويؤكد المؤلف أن هذين الخطأين المتناظرين» يجهلان بمضمونهما الأحادي المعنى الذي يعطيه المرضى العقليون لما يقومون فيه من أفعال».

ويركز على القول إن المرضى ب«عقلهم» يشكلون أحد ظواهر التراث الإنساني في كل العصور وهم قبل كل شيء «يفكّرون» ويحسّون ويتألّمون

وبالتالي ينبغي محاولة فهمهم وفهم عالمهم.

الكتاب: العقل المريض

تأليف: بيير هنري كاستل

الناشر: ايتاك باريس 2010

الصفحات: 352 صفحة

القطع: المتوسط

المصدر: جريدة البيان
  • Currently 141/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
48 تصويتات / 712 مشاهدة
نشرت فى 8 يوليو 2010 بواسطة books

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

68,351