ليالي السيرك (Nights At The Circus) لأنجيلا كارتر رواية هامشية بالمعنى الثيولوجي، فهي و إن كانت العتبة الحقيقية لعالمها المدهش ، الذكوري من الداخل و الأنوثي في الإطار ، فإنها لا تختار غير الأعشاب البشرية التي تنمو على أطراف مجتمعات ، نعتقد أننا ننتمي إليها و لكننا في الغالب نكون منفصلين عنها ، اغترابا ، و هذا هو الموازي الفلسفي للانتحار الذهني . إن الانفصال عن الكتلة هو إعدام أولي للبنية الأساسية ، و ذلك من خلال الإجراء الأصلي للتجزئة.
تتألف الرواية من ثلاثة فصول هي على التوالي : لندن ، بطرسبرغ ، سيبيريا.
و إذا كانت الصفة المكانية هي التي تحيل إليها عناوين تلك الفصول ، فإن السيرك هو المكان الصحيح لمتواليات من الأحداث لا تفتأ تتحرك فوق خارطة العالم.

إن الرؤية إذا ، كرنفالية ، و العالم هو سيرك دائم . و الأفعال التي نأثم باقترافها ، فالإثم هو واقعة سيكلوجية مركزية ، ما هي إلا ألعاب بهلوانية متفق عليها بين الذات و الوجود ، أو الجنس البشري و القدر. و إن الإثم على ما يبدو ، هو فاكهة من الجنة ، مقدرة علينا ، نحن أفراد الجنس البشري ، لنشقى في دورة من العذاب لا ينتهي ، كما تؤكد على ذلك أنجيلا كارتر في معظم كتاباتها ( مثل أبطال و أشرار الصادر عام 1969 ) ، و فيما بعد في قصة ( القتل بالفأس في فول ريفير ) التي تتحدث عن الجانب التدميري للاوعي الإنساني، ليس بالمعنى الفرويدي للكلمة و إنما بالمعنى المعرفي كذلك. فالمعرفة هنا هي جرح للفطرة على أنها جسد نفكر به دون أن نصنعه. و كل الجروح تكون دامية. و بمقدورنا أن نعـرض تلك الفكـرة بكلمات " بابا همنغواي " التي وردت في ( هضاب خضراء في إفريقيا ) : إن إطلاق النار على عصفور يطير أمر مبهج كما إطلاق النار على ضبع شرس. في كلتا الحالتين لك أن تقهقه من الضحك ملء فيك.

الثيمة الأساسية في هذه الرواية هي التكوين الوجداني لفيفير المدهشة التي لها نبرة أو فونيتيك أو جرس صوت مثير للأعصاب ، و يشبه الصخب المعنوي و الفيزيائي حين نعمد إلى إغلاق علبة نفايات بالطباق المثبت عليها.
إلا أن هذا الصوت المنفر لم يكن يدل فعليا على سعة العالم الداخلي لفيفير المدهشة ، الفارة من بيت الطاعة الأبوي ، إلى عالم من العهر ، حيث تكون المباني فيه ( المعدّة للسكنى أصلا ) عبارة عن قلاع سقطت من السماء إلى الأرض. مطر موحل نلوث به أبداننا و نفوسنا ، و كل ما يجري فيه من أحداث إنما يحصل في تمام غياهب الظلمات. و السـتائر المسدلة هنا بإحكام فوق النوافذ هي عازل حقيقي بين طرفي التكوين المانوي : التراب و النار ، أو الظلمة و النور ، أو الخير و الإثم.

و لكن لدى أنجيلا كارتر القدرة لتعكس هذه المحاورات الثنائية السفسطائية ، و تحولها إلى صراع واقعي بين الحياة ( المقاومة و المستقبل ) و الموت (النهاية المدلهمة للتاريخ بقوة الإنجاز ).
غير أنه حينما تكفل لنا الذات الإلهية بإماطة اللثام عما في داخل هذه القلاع بفتح الستائر في لحظة غضب ، لن يقدّر لك إلا أن ترى المسخ الذي آل إليه الجنس البشري ، مجازا، و هو عبارة عن عناكب تتدلى من خيطان تحيكها بروية ، و ذباب أسود ، و صراصير تحبو على الأسقف و الجدران.
كافكا مع تاء التأنيث.
إلى هنا و تبدو الحبكة تطويرا للخط الطبيعي الذي اقتبسناه من موباسان الغرائبي و زولا القاتم الدارويني.

إنما الجديد في الموضوع هو أن هذه الأحداث يتم سردها تقنيا عن طريق مقابلة صحفية و كولاجات ، يجريها شاب موهوب يبحث عن فرصة، مع فيفير ما بعد العهر، فيفر التي وجدت فرصتها قبل مدة و استخدمت الموهبة العجائبية التي محضها لها الله ، و هي زوج أجنحة عظيمين مطويين على امتداد ذراعيها حتى منتصف ظهرها. لقد فردت هذين الجناحين و طارت بهما. و تحولت من البغاء ، الذي كانت تعتقد أنه بابلي و مقدس و هو واهب للمتعة و مانح للحياة لدى البسطاء ، إلى أكروبات و سيدة مجتمع و لاعبة محترفة في سيرك ، حيث تزرع الضحكة على الشفاه البائسة و تضع بقعة الضوء في قلوب المعذبين.
ليالي السيرك لأنجيلا كارتر استحقت أن تقول عنها جريدة الغارديان في صفحة متابعة للكتب : هذا كتاب رائع و مدهش بكل المقاييس.

المصدر: عالم الكتاب العربي/ صالح الرزوق – فبراير 2005
  • Currently 185/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
61 تصويتات / 435 مشاهدة
نشرت فى 23 يونيو 2010 بواسطة books

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

68,386