يتفق الجميع على القول اليوم إن المسألة السكانية «الديموغرافية» هي أحد أكبر الرهانات والتحديات التي ستواجهها البشرية في المستقبل المنظور، إلى جانب تحدي المناخ.

والباحث الفرنسي الشهير بمسائل التطور السكاني للعالم «هيرفيه لوبرا»، الذي كان قد قدّم العديد من الأعمال حول هذه المسائل، قدّم عملاً أخيراً تحت عنوان: «حياة وموت سكان العالم». والسؤال الذي يفتتح به تحليلاته هو الذي يتردد على لسان كُثر، ومفاده: هل سكان العالم في خطر؟ ويشير في معرض الإجابة إلى أن منظمة الأمم المتحدة قد أكّدت في إحصائياتها أن عدد سكان المعمورة يقترب من 7 مليارات نسمة، وأنه سيبلغ قبل أفق عام 2009 نحو 9 مليارات نسمة. وهنا يّطرح سؤال آخر: هل يمكن للبشرية عندها أن تؤمّن ما يكفي للبقاء، وبأي مستوى؟

إن المؤلف يشرح على مدى الفصول الستة التي يتألف منها الكتاب مستقبل تطور سكان العالم، ابتداء من تقديم لمحة تاريخية عن هذا التطوّر، وتقسيم البشر منذ بداية القرن التاسع عشر وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 بين طبقات وأجناس.

ويتم التوقف عند آثار التقدم العلمي والتكنولوجي ونتائجه على مستوى الصحة في فصل يحمل عنوان «الانفجار السكاني»، يليه فصل آخر يشرح فيه المؤلف الاتجاه المعاكس تحت عنوان: «نهاية الانفجار السكاني» ليتعرّض المؤلف في الفصل الأخير إلى ما يسميه «طيف المجاعة».

لكن المؤلف يشير منذ البداية إلى أن واقع اليوم يشير إلى ارتفاع كبير في أسعار المواد الغذائية الأساسية، مع تزايد أيضاً في عدد ضحايا المجاعات في العالم. ثم يفتح قوسين ليؤكد أن المشكلة الحقيقية ليست على هذا الصعيد، وإنما هي في موقع آخر. ذلك أن الانخفاض الكبير في معدّل الولادات في أكبر بلدان العالم يدفع إلى القول بإمكان أن يبلغ ازدياد سكان العالم سقفاً أعلى قبل موعد عام 2050.

ومشكلة أخرى يؤكد عليها المؤلف في تحليلاته وهي أن المهم ليس «الكمية الإجمالية» للأغذية، ولكن بالأحرى نسبة الغذاء الحيواني فيها، وكذلك النسبة المتزايدة للإنتاج الزراعي المتأثر بالمواد الكيماوية.

وما يراه المؤلف هو أن دراسات تطور السكان لا تقدّم أكثر من استقراء توجهات قد تؤدي إلى استخراج «نتائج ممكنة الحدوث». واعتماداً على هذه النتائج التي «قد تحدث»، تمكن صياغة «تحذيرات» و«إنذارات» حيال أشكال السلوك القائمة.

وإذا كان المؤلف يؤكد على جدية المشكلة السكانية التي يواجهها العالم، فإنه لا يرى أن خطورتها تأتي من السكان، ولكن بالأحرى من نمط الاستهلاك القائم.

ويشرح أن مخاطر حقيقية تترصد البشرية إذا لم يغيّر البشر من نمط سلوكهم. ومن الميول التي يتم التأكيد عليها لدى «خبراء السكان» تشاؤمهم بصورة عامة.

تتم الإشارة هنا إلى أن «إسحاق نيوتن» كان قد قام بإجراء بعض التوقعات السكانية في منظور حساب «متى ستأتي نهاية العالم»؟ كنا أن مثل هذه التوقعات تجد ما يدلّ عليها في كتابات عالم الاقتصاد الشهير «مالتوس». ويشير المؤلف إلى أن الأفكار السائدة اليوم هي مختلفة تماماً، لكن هذا لا يمنع واقع أن «خبراء علم السكان» احتفظوا بنوع من حس «التنبؤ» بالكوارث.

ويحدد المؤلف القول إن شبح «الانفجار السكاني» بدأ بالظهور والترسخ منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945. وكان ذلك يمثل منعطفاً في رؤية المستقبل، ذلك أن الخشية في الماضي القريب كانت بالأحرى هي بسبب شبح «الانحسار السكاني».

وكانت سنوات السبعينات من القرن الماضي هي التي شهدت قمة توقعات الزيادة السكانية حيث دلّت على أن عدد سكان العالم قد يبلغ 12 ملياراً من البشر في أفق نهاية القرن الحادي والعشرين. لكن أُعيد النظر في هذه التوقعات لاحقاً ليصار إلى القول إن عدد البشر سيبلغ ما يزيد على 9 مليارات بقليل في أفق منتصف هذا القرن الحالي.

تتم الإشارة هنا إلى أنه لم يكن هناك من ارتقب سابقا انخفاض عدد الولادات حتى في البلدان النامية وليس المتقدمة فقط. إن المؤلف يقدم العديد من الأمثلة للدلالة على المنحى الجديد الذي يتعاظم في العالم للحد من النسل. وهكذا يبلغ المعدّل في تونس مثلاً أقل من طفلين لكل امرأة، وفي إيران انخفض المعدّل خلال 15 سنة فقط من ستة أطفال إلى طفلين لكل امرأة.

ويشير المؤلف إلى أن تفسيرات عدة ممكنة لمثل هذه الظاهرة؛ مثل انخفاض الريع البترولي. لكن يبقى من الصعب، برأيه أيضاً، تقديم تفسير لظاهرة عكس التوجّه. كما أنه من الصعب تقديم تفسير لظاهرة عكس التوجه. كما أنه من الصعب تفسير الزيادة الكبيرة في ولادات بحقبة معيّنة في بلد معيّن. ويشرح المؤلف أن مثل هذا الانخفاض ليس جيداً وليس سيئاً بحد ذاته.

الممكن هو ملاحظة وجوده. أما التعليق عليه فإنه قد لا يتعدّى الأحكام الأخلاقية. لكن المقلق هو أن البلدان النامية تميل أكثر فأكثر إلى تقليد نمط الاستهلاك الأميركي.

وهنا برأيه تكمن المشكلة الحقيقية. ذلك أن زيادة عدد السكان أو تضاؤلهم ليس هو الرهان، ولكن بنية «الاستهلاك» أولاً وأساساً. أما المجاعات فليس نقص الأغذية هو الذي يسببها، ولكن السياسات التي أدت إلى مثل هذا النقص.

الكتاب: حياة وموت سكان العالم

تأليف: هيرفيه لوبرا

الناشر: لوبومييه باريس 2009

الصفحات: 171 صفحة

القطع: المتوسط

المصدر: جريدة البيان
  • Currently 135/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
45 تصويتات / 548 مشاهدة

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

68,389