مارس الأديب والناقد والفيلسوف الأميركي جورج ستينر مهنة الكتابة الصحافية في «النيويوركر» خلال الفترة الواقعة بين عام 1967 وعام 7991. وطالت كتاباته جميع مشارب الأدب والفن والسياسة والمجتمع وغيرها.

وقد جمع مختارات ـ 53 مقالة ـ من أصل 150 تقريباً من تلك التي ساهم فيها بالنيويوركر وأصدرها في «كتابات في نيويوركر». ومن خلال هذا الكم الكبير من المقالات ومن تنوّع الموضوعات التي تطرّق لها يؤكد جورج ستينر مجموعة من الأفكار التي يراها بمثابة ثوابت في مجالاتها. هكذا يرى في النزعة القومية المتشددة السم الأكبر في التاريخ الإنساني الحديث. ذلك على خلفية اعتقاده أن الإنسان الذي يحترم نفسه يكون العالم كله هو وطنه. فالبشر جميعهم ينتمون إلى نفس الوطن الذي هو المعمورة كلها. والإنسان هو أخ الإنسان لكن بالمقابل يؤكد جورج ستينر أن السمة الكبرى في عالم اليوم هي التغيّر. يكتب: «إننا نعيش لحظة مثيرة من تاريخ الإنسانية. ففي كل صباح نجد أمامنا عندما نستيقظ عوالم جديدة».

والمساهمات التي يضمها هذا الكتاب تؤكّد كلها مسألة معينة هي «أهمية القراءة». لكن القراءة التي يعنيها «تتجاوز كثيراً حدود معرفة القراءة والكتابة». إنها القراءة التي تقوم على «الاندهاش» أمام الكلمات وأمام ما تدل عليه وتوحي به. والقراءة التي تتجاوز «فعل القراءة» إلى «فعل التأمل والتفكير». وفي العديد من «كتابات» جورج ستينر في ال«نيويوركر»، كما في غيرها من أعماله، يطرح باستمرار تقريباً نفس السؤال: لماذا نقرأ؟
ويشبّه الكاتب دوره في عالم القراءة والدعوة إليها بساعي البريد، الذي «يجهد كي يوصل الرسائل إلى العنوان الصحيح المطلوب». أما النقد الأدبي، والنقد عامة، فهو نوع من «توزيع الرسائل» الفلسفية والشعرية والثقافية.
ويشير في هذا السياق إلى الامتياز الكبير الذي حصل عليه عام 1967 عندما خلف الناقد الأميركي الكبير «ادموند ويلسون» في السنيويوركر» التي كانت تمتلك آنذاك مكانة أدبية مرموقة. لقد كانت هي المطبوعة التي يكتب فيها كبار الروائيين والشعراء والباحثين.

الميزة الكبرى في محتويات هذا الكتاب هي قبل كل شيء تنوّعه الكبير والمساحة «الزمنية» الشاسعة التي احتوت أحداثه. هكذا يمكن أن نقرأ ما كتبه ستينر من «عروض الكتب» التي اختارها كي يقدّمها لقرائه، وهو لا يتردد في اعتبار أن «سلطته» في اختيارها كانت امتيازاً كبيراً بالنسبة له.
وإلى جانب الخوض في عالم الكتب نجد ما هو موجّه إلى «عامّة القراء» عبر الحديث عن عصر النهضة الأوروبي أو عن مبدعين مثل كافكا وغوغول وبرخت وشومسكي وغيرهم. ومن الشخصيات التي يكتب عنها مؤرخ الفن والجاسوس البريطاني أنتوني بلنت.

أنتوني بلنت هذا يتم تقديمه على أنه ناقد فني كبير وأخصائي في فن الرسم الفرنسي خلال القرن السابع عشر، أي ما يعرف بالحقبة الكلاسيكية، لكنه كان يعمل بنفس الوقت مستشاراً لدى ملكة بريطانيا.
وأيضاً وهذا هو ما يجده ستينر مثيراً، كان جاسوساً لحساب السوفييت. ومن خلال دراسة شخصية هذا المثقف الكبير والجاسوس العتيد، يبيّن المؤلف كيف أن الإنسان يمتلك في أعماقه ما يمكن أن يدفعه إلى السمو والتسامي والقيام بأنبل الأعمال، وفي الوقت نفسه ما يمكن أن يدفعه إلى أن يفعل أكثر الأعمال دناءة وصولاً إلى أن يصبح جاسوساً ضد بلاده.

يكتب ستينر عن انتوني بلنت أنه «قدّم مجموعة من الأعمال التي تنمّ عن الحقائق العميقة التي تواجه الشرط الإنساني، ودون أن يسيء إلى ما تمليه مسؤوليته الجمالية». لقد كان بلنت أحد أفضل نقاد الفن البريطانيين لعقود، ولعقود أيضاً عمل لحساب جهاز الاستخبارات السوفييتي «كي.جي.بي».

إن كتابات ستينر مجموعة في هذا العمل تحت ثلاثة عناوين ثلاثة أقسام - هي «تاريخ وسياسة» و«الكتّاب والكتابة» وأخيراً «مفكّرون». وتتردد فيها كلها فكرة رئيسة مفادها أن البشر تسكنهم دائماً دوافع قوية كي يقدّموا أفضل ما يمتلكه الإنسان.
ولكن بنفس الوقت و«للأسف» هؤلاء أنفسهم يمكن أن يدلوا بوضوح على المآسي والحروب المدمّرة التي عرفها القرن العشرون الذي كان أحد أكثر الفترات فتكاً بالبشر خلال تاريخ الإنسانية كله.
هذه الازدواجية في «التسامي» و«التدنّي» كانت وراء توصيف ستينر لأنتوني بلنت أنه «قسّ الخيانة». ونجد نفس «الغضب» لدى المؤلف حيال نفس الازدواجية، بين «الأسمى والأدنى» في شخصية البير سبير، أحد «مهندسي» خطط هتلر والذي كان يتصف من جهة ب«قدر كبير من الحساسية» لكنه كان من جهة أخرى «شديد الإخلاص والولاء لطاغية» هو هتلر. والأمر نفسه بالنسبة للكاتب الفرنسي الشهير «لويس فردناند سيلين» العبقرية الأدبية من جهة وصاحب الأفكار العنصرية من جهة أخرى.

ويُبدي جورج ستينر باستمرار أيضاً نوعاً من الرفض حيال ما يسميه ب«النظريات» الخاصة بالأدب مثل البنيوية وغيرها التي يرى أنها لا تشرح العمل نفسه بل تختزله إلى مجرد «نموذج». إنه يطالب ب«الاندهاش» كما شاع منذ زمن ارسطو. ذلك أن حبّ أي شيء يعني أساساً «الاندهاش» حياله و«فن القراءة» هو «فن الانتباه المركّز». وما يحفظه الإنسان عن ظهر قلب لا يمكن لأحد أن ينتزعه، لا الشرطة السرية ولا الرقابة.

ويرى ستينر أنه يكفي حفظ عشرة أشخاص لأبيات شعرية للتأكد من أنها سوف «تعيش» دائماً. وهذا أهم بكثير من الشرح والتعليق، فما تحمله في داخلنا يكبر أيضاً في داخلنا بنوع من الحوار الداخلي.
ويؤكد أن «بودلير وفاليري وبيكيت ليسوا بحاجة لستينر ـ يقصد نفسه كناقد ـ الصغير»، بل هو الذي يحتاجهم ويعترف لهم مقابل حاجته بالجميل». ذلك أنه لايزال يمتلك القدرة على «الاندهاش» أمام «المجازات» التي كشفوا عبرها عن عوالم حافلة بالدعوة للتأمّل حتى بعد قرون طويلة.

الكتاب: كتابات في النيويوركر

تأليف: جورج ستينر

الناشر: نيو ديريكشن بايبرباك نيويورك 2009

الصفحات: 344 صفحة

القطع : المتوسط

المصدر: جريدة البيان
  • Currently 180/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
60 تصويتات / 458 مشاهدة

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

67,453