يمثل هذا الكتاب (الدين والدولة في تركيا.. صراع الإسلام والعلمانية) خلاصة نتاج علمي دقيق لعشرات الحوارات والمقابلات التي أجراها مؤلفه مع كوكبة من المفكرين والمبرزين السياسيين والاجتماعيين الأتراك، وهو يعد بذلك إضافة نوعية للمكتبة العربية؛ لمنهجه «الرؤيوي» الراصد وفق بعدي، النظرة الداخلية من جهة.
وتلك المتركزة على العمق، من جهة أخرى، علاوة على كونه يتوضع بمثابة محاولة لبناء جسر للتواصل والفهم بين عالم الترك والعرب، في وقت نحن وهم، في أشد الحاجة إلى ذلك.
يجمع كتاب «الدين والدولة في تركيا ..صراع الإسلام والعلمانية» لمؤلفه الدكتور كمال السعيد حبيب، والصادر عن مكتبة الأسرة ـ سلسلة العلوم الاجتماعية - 2009، بين موضوعي تحولات الإحياء الإسلامي التركي، والنظام السياسي في مراحله المختلفة، بدءًا من إعلان الجمهورية الكمالية، مروراً بتبوء حزب العدالة والتنمية السلطة، ووصولاً إلى ما هو الحال عليه في الوقت الراهن. تنطلق المقولة الإشكالية البحثية الرئيسية للكتاب من حقيقة أن النظم الشمولية والفاشية ذات الحزب الواحد والمرجعية الذاتية الضيقة المتعالية للنخبة، تحاول بناء ما يطلق عليه في العلوم الاجتماعية، الدين السياسي، ليكون بديلاً عن الدين الإلهي الذي جاء به الرسل، وهو ما يخالف رغبة وميول الناس.
يستهل الكاتب محاور بحثه بتحليل وتفصيل مشبع بأوجه المقارنات والمناقشات العلمية، على لسان خبراء في هذا المجال، ليفيدنا بأن الكمالية في تركيا فشلت في أن تتولى أو تقوم بدور شغل مكانة وأهمية الدين الإسلامي في المجتمع، فجاء «طورجوت أوزال»، رئيس تركيا سابقا، فسمح بمشاركة أوسع للإسلاميين ولرأس المال الإسلامي، في الدولة والمجتمع، حيث تمخض عن ذلك فوز حزب العدالة والتنمية في الانتخابات للمرة الأولى في عام 2002. ونجد المؤلف يصر على الإدلاء في هذا الخصوص، بوجهة نظر علمية منطقية:
نحن أمام تنازع حقيقي بين الدين، كتعبير عن حاجة روحية وثقافية تعكس الهوية والوجود للإنسان والمجتمع في تركيا، وبين الدولة التي وضعت نفسها في مواجهة كاملة معه باعتباره قوة رجعية، لا بد من الإجهاز الكامل عليه والتخلص منه...
ويتطرق حبيب في الفصل الأول من كتابه إلى موضوع «الإسلام والتيارات الاجتماعية والفكرية في تركيا»، ليبدي لنا ماهية بزوغ الطرق الصوفية في تركيا: النقشبندية، التيجانية، إضافة إلى حركات إحياء العلوم الإسلامية، كالسليمانية، ثم النورسية، التي عملت على إنقاذ الإيمان واستمرار بقاء الإسلام، ثم الحركة الثقافية في تركيا ممثلة بمدارس فكرية متنوعة تنطلق من الإسلام، وعلى رأسها المدرسة الإصلاحية، لمحمد عاكف.
وفي الفصل الخاص بدراسة وتبيين واقع «الأحزاب الإسلامية قبل الرفاه»، يبحث حبيب في علاقة الإسلام بحزب الشعب الجمهوري في الفترة الممتدة بين عامي 1922 ? 1946.
وينتقل ليوضح هنا طبيعة علاقة الإسلام بالأحزاب الإسلامية المختلفة في فترة التعددية الحزبية في الفترة من 1946-1950، ثم موضع الإسلام في الحياة الاجتماعية والسياسية لتركيا في الفترة من 1960-1970، وينتهي الفصل بتناول ظاهرة أحزاب ما يعرف في تركيا بـ «الملي جوروش»، والتي أسسها أبو الإحياء الإسلامي التركي، «نجم الدين أربكان».
ويطرح الكتاب في بحثه المعنون بـ «الرفاه والوصول إلي السلطة»، موضوع التساؤل الأهم في السياسة العربية راهناً: كيف يمكن ممارسة ديمقراطية لا تستثني الإسلاميين؟. وذلك عبر عرضه لعودة حزب الرفاه إلى الساحة السياسية التركية في عام 1984، ونجاحه لاحقاً في اكتساح الانتخابات البلدية في مارس 1994، وبعدها في الانتخابات البلدية عام 1995، وحصوله على المركز الأول فيها، ثم وصول رئيسه «نجم الدين أربكان» إلى رئاسة الوزراء عام 1996.
ويركز الكتاب في محور مناقشته التالية على تسجيل وتشريح تجربة حزب العدالة والتنمية، وكيفية نجاحه في مختلف الأحداث والمعارك السياسية، إلى أن تصدّر وتزعم المجتمع التركي بوجهة حقيقية، تحوز ثقة وتأييد كاملين، ويبين الكتاب هذا في مبحث عنوانه «العدالة والتنمية ومستقبل الإسلام السياسي»، ويأخذنا المؤلف في سياق معالجاته وسرده ضمن هذا المجال.
في رحلة توثيق وتدقيق وتحقيق معمقة، نتعرف معها عن كثب، إلى خبرة حزب العدالة والتنمية، الذي استقل عن تجربة أربكان ليؤسس لنفسه، كجيل جديد، خبرة مختلفة، كونه يؤمن بأن إيديولوجيته هي الديمقراطية المحافظة القائمة علي فكرة التوافق والتجاور، وليس الصراع والثنائيات، علاوة على كونه لا يستخدم الدين كأداة في الصراع الاجتماعي والسياسي، ويملك رجالات وشخصيات نموذجية تجسد جيل الوسط في الحركة الإسلامية التركية، مثل:
أردوغان، عبدالله جول، وهو بالتالي قدم صيغة توافقية تقوم على فكرة الحل الوسط التاريخي الذي يحترم عقائد الإسلاميين وحقهم في التعبير، دون أن يهمل اعتماد علمانية تقبل قواعد الديمقراطية والتعددية، بما في ذلك الاعتراف بالتعددية الثقافية للأكراد، ليصبح مع هذا الفكر الجامع والمثالي، الحزب المعبر عن التيار الرئيسي في المجتمع التركي.
وغير مقتصر على الإسلاميين وحدهم، وإنما يضم قطاعات متنوعة من الشباب والنساء واليساريين والعلمانيين، خاصة وأنه تجاوز التيارات التقليدية في الحياة السياسية التركية، سواء الإسلامي أو القومي أو العلماني الأتاتوركي، واستبدالها بما أطلق (أطلقنا) عليه مسمى «الجمهورية الثالثة»، المرتكزة على فكرة تجاوز الاستقطاب ومحاولة بناء تيار جامع جديد يعبر عن طموحات ورؤى وأفكار شتى القطاعات لأجيال جديدة دخلت المعترك السياسي التركي.
يتابع هذا الفصل التحولات المختلفة والمعارك التي خاضها حزب العدالة والتنمية منذ تعديل الدستور ومحاولة الدخول إلى الاتحاد الأوروبي.
الكتاب: الدين والدولة في تركيا ..صراع الإسلام والعلمانية
تأليف: د.كمال السعيد حبيب
الناشر:مكتبة الأسرة سلسلة العلوم الاجتماعية 2009
الصفحات: 246 صفحة
القطع : المتوسط
ساحة النقاش