يمكن اعتبار إشكالية الدولة من بين أكثر الإشكاليات تعقيدا والتباسا في الخطاب السياسي العربي المعاصر، وللأسف لم يجهد المفكرون العرب في إيلاء الدولة ما تستحقه من البحث والاهتمام العلمي والتأصيل النظري، فبقيت مفهوما مختلطا بمفاهيم القومية والسلطة والحكومة والإدارة وما شابهها.
والنتيجة هي ضمور الدولة في الوعي العربي المعاصر، الأمر الذي أدى إلى نتائج عكسية في نمط ولاء الناس لها، حتى بات عصيا استقرارها في الوعي الجماعي، بسبب ضعف تأصيلها النظري، وفقر خبرتها في التجربة التاريخية، فلم تتأرضن (تتجسد على أرض الواقع) الدولة كوعاء مشترك في المخيال الجماعي للجماعات العربية، بل تماهت مع مفاهيم أخرى.
جدلية التوحيد والانقسام
لقد عززت خيبات الأمل الناجمة عن فشل وتعثر المشاريع الوطنية في أعقاب الاستقالالات العربية الشعور بغربة الدولة وتغربها لذلك فإن الحاجة تبدو ماسة إلى وعي جديد قادر على تمثل وهضم فكرة الدولة
وفي هذا السياق لا يقدم عبد الإله بلقزيز في كتابه "الدولة والمجتمع" بحثا نظريا في الدولة والمجتمع، مع أنه يدعو إلى وجوب تدشين تفكير نظري في مسائل الدولة والسلطة والمجتمع المدني في الفكر العربي، لكنه يقدم تأملا في جدلية حادة وشديدة التوتر تحكم الاجتماع العربي المعاصر، هي جدلية التوحيد والانقسام التي تشتغل في نسيجه الداخلي باحتدام، وتضعه مع ظاهراته المختلفة في حال من المراوحة المديدة بين التماسك النسبي والتشظي المتسع نطاقا.
غير أن التفكير في هذه الجدلية يقود، بالضرورة، إلى التفكير في الدولة والمجتمع في البلدان العربية المعاصرة، نظرا لكونهما مسرح تلك الجدلية، والفاعل الأساسي في إنتاج ديناميكياتها، والجهة التي ترتد عليها نتائجها إيجابا في قليل من الحالات وسلبا في معظمها.
وهذا يتطلب البحث في إشكالية العلاقة بين الدولة والمجتمع بوصفها الإشكالية الأم التي يندرج في نطاقها بحث الجدلية المدروسة، واتباع منهجية نقدية صارمة، لا يجري فيها تناول الأفكار والمفاهيم بوصفها مسلمات نهائية، بل بطرح الأسئلة عليها، ومحاولة هزها واستنطاقها وخلخلتها، بغية تقديم خلاصات مفيدة حول إشكاليات الدولة والمجتمع العربيين، وتحريض التفكير فيهما ضمن السياقين السياسي والاجتماعي المحددين لهما.
الانسداد السياسي
يغزو بلقزيز فكرة الكتاب إلى ملاحظة حال الاستفحال المتزايد للانسداد السياسي الذي ترزح فيه البلدان العربية المعاصرة، ويمنعها من التقدم أو من فتح الأفق نحو التقدم، ويضغط على حالة الاستقرار السياسي والاجتماعي فيها إلى الدرجة التي تأخذ تناقضاتها الاجتماعية إلى التعبير عن نفسها في صور من العنف الأهلي تنذر بالانفجار الكلي الواسع، بعد أن جرى شيء منه جزئيا في بعض من تلك البلدان.
هذا إضافة إلى ملاحظة طغيان تفكير أيديولوجي وانتقائي لظاهرة الانسداد السياسي تلك، إذ الغالب على من يتناولها أنهم يستسهلون الانطلاق من مقدمات مبسطة ومريحة للوصول إلى استنتاجات تصدر عنها حكما، وكأنها نتائج قاد إليها التحليل!
يريح بعضهم أن ينتهي بـ"التحليل" إلى إنزال حكم الإدانة على الدولة وتحميلها وحدها وزر هذا التدهور الذي وصلت إليه علاقات الاجتماع الوطني. ويحلو لبعضهم الآخر أن يذهب بـ"تحليله" إلى إدانة المجتمع القروسطي المتخلف المستمر مُقنعا في صورة مجتمع "حديث".
ويدعو عبد الإله بلقزيز إلى ثلاثة مطالب تتحدد في الدعوة إلى تفكير حقيقي في مسألة الدولة على الأصول النظرية، والارتفاع عن مستوى كلام العموميات السائبة، والكف عن الثرثرة الأيديولوجية في مسائل الاجتماع السياسي. ودعوة إلى نقد مزدوج للدولة وللمجتمع على السواء، وإلى القطيعة مع النظرة الانتقائية إلى الموضوع. ثم دعوة إلى أن ترفع النخب السياسية العربية درجة انتباهها إلى ما تأخذ مجتمعاتنا إليه بعض الخيارات السياسية الانتحارية من فتن وحروب أهلية تدمر البقية الباقية من تلك المجتمعات.
ويظهر في التحليل أن المجتمع ولد مرتين في تاريخ النوع الإنساني، مرة كمجتمع طبيعي التحم فيه الأفراد بروابط النسب والجوار فقامت جماعات طبيعية كانت، في سلم التطور، دون المجتمع مرتبة لغياب مبدأ التنظيم الذاتي فيها، ومن دون أن يعني ذلك حكما غياب أشكال بدائية أو ابتدائية من تقسيم العمل فيه.
وولد المجتمع مرة ثانية حين قامت فيه الدولة، وتلك كانت ولادته الحقيقية كمجتمع، لأنه من خلالها فقط أمكنه أن يحقق تنظيمه الداخلي، ويقسم العمل فيه، ويوزع السلطة بين أفراده وفئاته، ويعبر عن نفسه وعن ماهيته، ويحمي كيانه الذاتي من خطر العدوان عليه، ويردع العدوان الداخلي بين جماعاته، ويفرض احترام إرادته من خلال التمييز بين حقوق الأفراد والجماعات وحقوق المجتمع ككل ومن خلال احترام فكرة الواجب.
المواطنة والدولة
عندما يجري الحديث عن الديمقراطية كنظام سياسي، ينصرف حكما إلى التفكير في العلاقة السياسية التأسيسية الحاكمة لهذا النظام، وهي علاقة المواطنة، حيث تفترض المواطنة مادتها في المواطنين.
وهؤلاء ليسوا شيئا آخر غير أفراد أحرار متساوين أمام القانون في حقوقهم السياسية لأنهم متكافئون في أداء ما عليهم من واجبات للدولة، مثل دفع الضرائب وأداء الخدمة العسكرية والتضحية عند الضرورة.. إلخ. ذلك أن ما يقضي به التعاقد المبرم بين بعضهم بعضا على تفويضهم الدولة للقيام على أمرهم وتأمين الخدمات العامة والحماية للمجتمع، كما يقضي به التعاقد بينهم وبين الدولة، والدستور صيغة من صيغه، على التوزيع المتوازن بين الحقوق والواجبات.
وبالتالي، لا يمكن التفكير في الدولة الديمقراطية الحديثة، ومن داخل منظومة الفكر السياسي الليبرالي الحديث، إلا بالتلازم مع التسليم بمركزية الفرد في هذه الدولة.
أما الحديث عن الحرية، فإنه يفضي إلى الأفراد، لأن الحرية تعني، بالتعريف، جملة ما يتمتعون به في الدولة الحديثة كأفراد من حقوق مدنية وسياسية.
وهذه الحقوق لا تعترف بها الدولة فحسب، بل تكفلها لهم وتضمنها بالتشريعات والقوانين، حتى إن العدوان عليها لا يستوجب تحصيل الفرد حقه المنتهك أو المغتصب بمقتضى القانون كحق فردي أو مدني فحسب، بل يستوجب أن تأخذ الدولة نفسها حقها أو الحق العام ممن انتهك ذلك الحق، وعليه تبدو مركزية الفرد واضحة هنا أشد الوضوح حين يتعلق الأمر بالحرية.
وبناء على ما تقدم، فإن الحديث لا يستقيم في المجتمع المدني من دون التسليم بمكانة الفرد أو الأفراد في هذا المجتمع.
وإذا كان المجتمع المدني، في فلسفة القرن التاسع عشر، هو مجتمع المصالح المادية ومجتمع المصالح الخاصة، فإن الأفراد/المواطنين في الدولة هم من يعنيهم بالأساس تحقيق تلك المصالح، والشخص الملموس الذي هو شخص مفرد، كما يقول هيغل، هو "المبدأ الوحيد في المجتمع المدني البرجوازي". وليس هذا سوى الفرد/المواطن في الدولة الحديثة.
وكان تشديد الليبرالية على الفرد وتشديد الماركسية على الطبقة قد قاد الفكرتين معا إلى وضع المجتمع في مقابل الدولة، والزعم بأن التحرر الاجتماعي والإنساني، الفردي والطبقي، إنما يكون بالتحرر من سلطة الدولة التي تحد من حريات الأفراد، وتنال منها، أو تلك التي تنتهك الحقوق الاجتماعية والاقتصادية لطبقات الشعب والقوى المنتجة.
كذلك وضع بعض الغلو الليبرالي الفرد مقابل الدولة، كما عند توكفيل وجون ستيوارت ميل وكاسيرر وكارل بوبر، والأمر ذاته نجده في بعض الغلو الماركسي حين وضع المجتمع والطبقات في علاقة تعارض مع الدولة، كما عند إنغلز ولينين وتروتسكي وماركيوز.
غير أن سياقات التعبير المادي والسياسي عن المضمون الفكري المناهض للدولة، والمشارف حد الفوضوية، لم تكن لتقود إلى النتائج ذاتها، أي المطابقة للمقدمات المشتركة بين المنظومتين والرؤيتين، ولا إلى المآلات ذاتها عند كل منهما في التطبيق.
والواقع أن الدولة كانت ثورة في تاريخ المجتمع الحديث بمقدار ما كانت تأسيسا جديدا لمعنى المجتمع ولوجوده التاريخي، من جهة كونها كيانا اجتماعيا جديدا مسيطرا على ذاته ومقررا لمصيره.
ثم قام من التاريخ دليل متكرر على أن تلك الثورة كانت تنتكس كلما دبّ الوهن في الدولة، أو استبدت بها أزمة، أو أصابها سقوط تحت قبضة عدوان من الخارج، إلى جانب تحققات لدولة مناقضة لكيانيتها في هذا الموضع أو ذاك من العالم الحديث.
الدولة عربيا
اللافت في الأمر هو أن الدولة التي دخلت مرحلة الأفول في الغرب، لا تزال مطلبا ضروريا في الحالة العربية، بوصفها مرجعا وخيارا للعمل المجتمعي المؤسسي، وتقع على عاتقها مهمة بناء الهوية المجتمعية القوية في بلداننا ذات التكوينات الهشة، التي تتقاذفها مختلف الانتماءات ما قبل المدنية، من طائفية وإثنية وقبلية، وتخطي تبعات التكوينات المجتمعية الضيقة، إلى جانب حماية الفرد من بطش سلطة الدولة القمعية والشمولية وسطوتها.
ويبدو أن ما نشأ في الحالة العربية هو كيانات تشبه الدولة في شكلها السياسي والقانوني، وتناقضها كنظام ومؤسسات وأهداف، وهي أقرب إلى دول هجين، تمتلك جيشا وأجهزة أمنية ومؤسسات، مهمتها الأولى -وربما الأساسية- هي قمع الشعوب وتكبيل قواها الحيّة وقتل روح المبادرة الحرّة.
وتحولت إلى دولة منتجة لشبكات من الفساد والإفساد ولعصبيات مذهبية وطائفية، بدلا من أن تسهم في تأسيس الجماعة الوطنية الموحدة أو الأمة.
وحاولت الدولة الهجين جعل المجتمع في خدمة نخبتها الحاكمة ومصالحها، أي أنها لم تعمل على خدمة المجتمع بمقدار ما أن المجتمع سخّر بالقوة في خدمة نخبة الدولة الحاكمة، ولم يعنها كثيرا أن تستمد من المجتمع شرعيتها وقوتها، فأوجدت شرعيات "ثورية" انقلابية، وشرعيات دينية ووراثية تجسد سندها في الواقع الجاثم على صدور عامة الشعب أو الرعية حسبما تفضل تسميتهم بعض الأنظمة "الثورية".
وقد نجحت هذه الدولة في إنتاج قدر كبير من السطوة والسيطرة على المجتمع، بمختلف جماعاته الوطنية، واستعانت بالخارج، كي تستقوي عليه وتزيد من قوتها وسلطتها، وباتت أشبه بقوة احتلال داخلي، وليس خارجي، وبالتالي لا يمكن لهذه الدولة الهجين أن تنتج دولة الأمة، أو دولة لمجموع مواطنيها.
وكل ما ترمي إليه هو الاستمرار في السيطرة على مقاليد الحكم أطول مدّة ممكنة، وكأنها غزو داخلي، لا ينتج سوى الفساد والقهر والاستلاب.
ومن الطبيعي في ظل مثل هذه الدول أن تسود مرحلة من انسداد الأفق السياسي والاجتماعي لدى مختلف القوى الاجتماعية الفاعلة التي كانت تأمل أن تكون لها دولة الأمل، دولة الحريات والسيادة والتنمية المتوازنة، دولة لا تحول الأرض التي تسيطر عليها إلى سجن أو معتقل كبير، ودولة تتسع لجميع الأحلام في التقدم والديمقراطية، لا دولة الاستبداد والآلام والعنف الأعمى.
ساحة النقاش