يحدثنا التاريخ أن نابليون التقي ـ بناء علي طلبه ـ بالأديب الألماني الكبير جيته في مدينة فايمر, وذلك بعد انتصار نابليون علي الألمان في معركة يينا سنة1806, وفي هذا اللقاء بين نابليون وبين أديب الألمان الأعظم, لم يتعامل نابليون مع الأديب تعامل المنتصر مع المهزوم. لأن نابليون, ولاشك, كان يعلم أن الهزيمة العسكرية لاتعني الهزيمة الحضارية,
وقد كان جيته ممثلا للعبقرية الأدبية والفنية في المانيا, وهذه العبقرية تبقي حية ومؤثرة وقوية علي مر العصور, وهي قادرة علي أن تتجاوز الهزائم المؤقته. والتاريخ يستطيع أن يقول إن الجيش الألماني قد انهزم أمام نابليون, ولكن التاريخ لابد أن ينحني احتراما وإعجابا أمام العبقرية الأدبية والفنية التي يمثلها جيته.
وقد كان نابليون من أنبغ العسكريين في التاريخ, ولكنه كان أيضا مثقفا عالما متذوقا للآداب والفنون وكان قادرا علي التحليل والنظر البعيد العميق في أحداث التاريخ, وبهذه الصفات غير العسكرية استطاع نابليون أن يعرف أهمية جيته, رغم أن جيته كان ينتمي إلي الشعب المهزوم عسكريا في ميدان الحرب.
ماذا قال نابليون عن جيته بعد لقائه معه؟ لقد قال عبارة اشتهرت شهرة واسعة, وحاول الكثيرون أن يفسروها بصور مختلفة, وهذه العبارة تقول.. هذا رجل أو هاهنا رجل, ولا بأس من أن نورد العبارة كما قالها نابليون, لأنها أصبحت بنصها الفرنسي من العبارات المأثورة, والتي يرددها الناس كما نطق بها نابليون, وهذه العبارة هي: Voilaunhomme
وعندما ينطق نايلبون بمثل هذه العبارة عن أحد الأشخاص فذلك اعتراف هائل بأهمية هذا الشخص وقيمته وتأثيره علي النفس, واللافت للنظر هنا أن نابليون لم يقل عن جيته إنه عبقري, أو أديب عظيم, بل أختار كلمة الرجل وأكد صفة الرجولة. وهذا في الحقيقة معني كبير.
وقد كان نابليون في ذلك الوقت, سنة1806, هو سيد أوروبا, بل سيد العالم, الذي لم يكن ينافسه في السيادة أحد, واعتراف هذا السيد بأن هناك رجلا يستحق وصف الرجولة هو اعتراف عظيم.
تذكرت هذه القصة التاريخية بين نابليون وجيته وأنا أفكر في أحد مواقف العقاد الذي نحتفل بذكراه هذه الأيام, وهو موقف شهير أدي به إلي السجن, حيث بقي فيه تسعة أشهر تمتد من13 أكتوبر سنة1930 وحتي8 يوليو سنة1931. وهذا الموقف العقادي يستحق أن نصف العقاد فيه بأنه كان رجلا بكل معني الكلمة, وهو نفسه الوصف الذي اختاره نابليون ليطلقه علي أديب ألمانيا الكبير جيته.
ربما كان للوصف الذي أطلقه نابليون علي جيته معان أخري أبعد من المعني المباشر لكلمة الرجولة, ولكنني أري أن الكاتب, أي كاتب, إذا لم تكن فيه رجولة بالمعني العام الذي نفهمه جميعا من هذه الكلمة فإن هذا الكاتب لايمكنه أن يملأ العين والقلب, ولا أن يكون مؤثرا في الناس أو يكون له بينهم مقام محمود, والعقاد بهذا المعني هو مفكر كبير فيه هذه الرجولة التي ترفع من شأن الفكر, وتجعل للأقوال قوة الأعمال, فلا تكون هذه الأقوال مجرد حروف علي الورق ينتهي تأثيرها قبل أن يجف مدادها, وتتبدد وتضيع عند أول اختبار.
في يوم17 يونيو سنة1930 وقف المفكر عباس محمود العقاد في مجلس النواب, وكان عضوا فيه ليقول بصوت رجولي قوي شجاع:
ألا فليعلم الجميع أن هذا المجلس مستعد لأن يسحق أكبر رأس في البلاد في سبيل صيانة الدستور وحمايته.
فمن هو أكبر رأس في البلاد في تلك الفترة؟
إنه الملك فؤاد.
وقد كان الملك فؤاد معروفا بعدائه للمفكرين والأدباء الأحرار, وكان معروفا بنزعته الاستبدادية المتسلطة المتعالية علي الشعب. والملك فؤاد هو الذي أمر بنفي شاعر الشعب الكبير بيرم التونسي بسبب قصائده الوطنية, ومنها ماكان هجاء للملك فؤاد وعائلته, وقد خرج بيرم العظيم من مصر منفيا ومطرودا ومغلوبا علي أمره ليعيش شريدا في باريس سنوات طويلة, عاني فيها الكثير من ألوان الضياع والجوع والبؤس والحرمان,
وللملك فواد مواقف أخري كثيرة تؤكد عداءه للفكر الحر وعدم تسامحه مع الأدباء والفنانين وكل أصحاب الآراء الجديدة الشجاعة, , , كما تمت مصادرة كتاب الإسلام وأصول الحكم للشيخ علي عبدالرازق مع طرد مؤلفه من عمله كأحد القضاة في المحاكم الشرعية, وفي عهد الملك فؤاد كانت الكتابة عن الزعيم أحمد عرابي والدفاع عنه من الأمور المحرمة,
تلك بعض مواقف الملك فؤاد من الفكر والمفكرين , ولم يكن من الممكن أن يفلت العقاد من انتقام الملك فؤاد, بعد أن وقف وقفته الشجاعة في مجلس النواب دفاعا عن الدستور, والحقيقة أن العقاد لم يدع فرصة لأحد لكي يتصور أن موقفه كان موقفا مؤقتا, فقد واصل حملته للدفاع عن الدستور في كتاباته الصحفية الشجاعه القوية, ومما كتبه بعد موقفه البرلماني بيومين إثنين مقال جاء فيه.
[light=FF6666]إن البلاد مستعدة لأن تسحق كل رأس يخون الدستور. هكذا نقول اليوم. وهكذا نقول غدا. وهكذا يقول القانون والدستور.[/light]
وقد ألغي اسماعيل صدقي في العام نفسه,1930, دستور1923 الذي ارتضته البلاد لها وأعلنت إيمانها به, وقامت حكومة صدقي أيضا بحل البرلمان الذي صرخ فيه العقاد صرخته الكبري من أجل الدفاع عن الدستور. وفي ظل هذا الهجوم الاستبدادي ضد الدستور والمؤسسات الديمقراطية بتحريض من الملك فؤاد, يواصل العقاد حملته الرائعة والرائدة دفاعا عن الحرية, فيكتب مقالا عنوانه مسألة الدستور مسألة كل إنسان في مصر تنشره جريدة المؤيد الجديد بتاريخ25 أغسطس سنة1930 حيث يقول العقاد:
ويل لمن يجهلون أن مسألة الدستور هي مسألة كل مصري.. مسألة القاضي والتاجر والزارع والمقرب وغير المقرب, لامسألة النائب والوزير المشتغل بالسياسة دون سواه
. لقد كان لكل أزمة درسها البليغ, ودرس هذه الأزمة البليغ أن يعلم ا لناس كيف يكون المصير إذا بطل في مصر حكم الدستور, وويل لمن يجهل أن مسألة الدستور هي مسألة الحرية والحياة.
ثم يقول العقاد بعد ذلك: إن الاستبداد لايقف عند حد, ولايعرف القيود والمحرمات, فإذا طمع اليوم في شيء, فسيطمع غدا فيما هو أكثر منه, وإذا قلت اليوم إنك ترضيه بالطاعة في هذا وذاك من الأمور, فلن ينقضي عليك أيام حتي تعلم أن الطاعة في هذا وذاك من الأمور لاترضيه ولاتكفيه, وأنه ينتظر منك المزيد بعد المزيد, حتي لاتعلم الفارق بين الرضا والغضب
. ثم يقول العقاد: ماذا يحميك من المستبد إذا لم يحمك الدستور؟ أيحميك القانون؟ أيحميك القضاء؟ إن إرادة المستبدين هي القانون, ووظيفة القضاء في رأيهم هي تنفيذ مايريدون. لقد رأينا كيف تم عزل أحد القضاة لأنه حكم بما لايرضاه الوزير, وهذا أكبر من حل البرلمان ومن المساس بالحياة النيابية, لأن الأمة قد تعيش زمنا بغير برلمان, ولكنها لن تعيش زمنا بغير استقلال القضاء, إن فصل القاضي لهو أكبر من كل حادث آخر في ذاكراة المعاصرين, لأنه ضربة هادمة في أساس كل حرية وكل ضمان.
وهكذا كان دفاع العقاد غير المتردد وغير المرتعش عن الدستور واستقلال القضاء ثم تحذيره القوي من المساس بالدستور الذي ارتضاه الناس أو المساس باستقلال القضاء, فبدون هذا الاستقلال لابد أن تنهار المجتمعات وتستباح الشعوب والحريات.
وكان لابد أن يدفع العقاد ثمن صراحته في البرلمان وثمن كتاباته التي يعود ويؤكد فيها دفاعه عن الحرية ضد أعدائها جميعا, وأنه مستمر في موقفه دون أن يتراجع وأنه مستعد للتضحية وتحمل مسئولية ماينادي به ويتحدث عنه.
هذا موقف مفكر حريص علي رجولة الفكر, أي أنه حريص علي أن يكون الفكر عملا وليس كلاما فقط, وحريص علي أن يكون المفكر علي قد كلامه وأن يكون مستعدا لأن يتحمل الضربات التي يتعرض لها دفاعا عن معتقداته الفكرية والوطنية والانسانية.
لقد كان العقاد رجلا وكان قادرا علي التحمل والتضحية. وقد دخل السجن بسبب صرخته البرلمانية من أجل الحرية وبسبب مقالاته القوية النارية من أجل القضية نفسها, وكانت تهمة العقاد التي تم تلفيقها له هي العيب في الذات الملكية, أي ذات الملك المستبد الطاغية المتعالي علي شعبه أحمد فؤاد, عدو الدستور, نفي بيرم التونسي وأدخل العقاد السجن. والحق أن قصة محاكمة العقاد وسجنه بما فيها من تفاصيل كثيرة مثيرة إنما تقدم مادة غنية جدا
ساحة النقاش