" اسمها سابينا "
فلم وثائقي عن اضطرابات التوحد
إخراج النجمة السينمائية الفرنسية ساندرينا بونير
نشر المقال في صحيفة الشرق الأوسط بتاريخ 2/10/2010
لطيف الحبيب/ برلين
حينما كانت الممثلة ساندرينا بونير ترتقي سلم المجد كنجمة سينمائية عالمية , كانت أختها سابينا تعاني من اضطرابات إعاقة التوحد في مستشفى الأمراض العقلية ,أخرجت ساندرينا فلمها الوثائقي ( اسمها سابينا ) الذي يعتبر فلما شخصيا , يروي بالجملة المصورة قصة حياة أختها سابينا ,ألقت الضوء عبره على حجم المعاناة التي يعيشها الإنسان المعوق وخاصة التوحدي في مستشفيات الأمراض العقلية الحكومية ,وكيف يساهم العاملون في هذه المستشفيات بوعي اوبغير وعي في تدمير وتحطيم نفسية المعاق, بضخه بجرعات عالية من الأدوية والعقاقير المخدرة . لا يدين الفلم النظام الصحي الفرنسي فحسب, بل يطال نقده النظام الاجتماعي السائد . الفلم بورتيرت معتم لإنسان معاق, لونته روح المخرجة ساندرينا بونيه , ليس بالغضب وحده و بالحزن المدمر والدموع المخنوقة أيضا, بهدوء وصبر ,ولجت عالم إعاقة التوحد المضطرب ,وكأنها تقول, إن حطام إنسان معوق لايفقده حب الأخر, . عقدت الممثلة النجمة العزم بعد المشاورات مع عائلتها أن تنتج فلما سينمائيا تسجيلا وثائقيا مباشرا عن حياة أختها المعاقة سابينا .بدأت العمل في الفلم في منتصف عام 2006 وانتهت منه أوائل عام 2007. لم تكن الممثلة المشهورة حاضرة في مشاهد الفلم , قلما نراها , كانت خلف الكامرة ,توجه الكامرة إلى أختها وما يحيط بها , نجحت في انتزاع الحديث أو جر أختها إليه ,بكل الوسائل والطرق وعبر طرح العديد من الأسئلة على أختها , اقتنصت لحظات فعلها وسلوكها وكانت اصدق اللقطات التي واجه فيها المشاهد رعب القسوة وتردي الأوضاع الإنسانية والخدمية وما يعانيه المعوق في مستشفيات العقلية وما آلت له حالة سابينا وتحولاته النفسية والجسدية. عرض الفلم في مهرجان كان وحصل على جائزة, ونال أيضا جائزة الأفلام الناطقة بالغة الفرنسية و نال جائزة الصحافة, كما عد من أحسن الأفلام الوثائقية وعرضته قناة التلفزيون الفرنسي الثالثة.لقد أيقظ هذا الفلم الناس من غفلتهم.
دفع التذكر والرؤية الزمنية للماضي الممثلة السينمائية ساندرينا بونير في فلمها الوثائقي "اسمها سابينا "عن أختها المعاقة عقليا المصابة باضطرابات إعاقة التوحد, أن تطيل التجوال والتنقل بين أحداث ووقائع في أعوام خلت ,ووقائع وأحداث اليوم . لم تستطيع أن تدرك وتستوعب ما حدث لأختها, لم ترغب المخرجة أن تقول إن ما حدث مع أختها جريمة ضد الإنسان المعوق. لكن صراخها يصك الأذان ويسمعه القاصي والداني , من الوحشية أن يحدث هذا التضاد بين جمال المظهر وجمال الروح , تعلمت من مهنة التمثيل , إن جمال المظهر الخارجي لا يتباين مع جمال الإنسان الداخلي , لكنها وضعتنا أمام هذه العسف والوحشية كمشاهدين وشهود على أحداث ووقائع مريرة قاسية , يمر بها الإنسان المعوق يوميا وتتحول إلى ممارسة بديهية أمام أنظار المجتمع, لا بل وتشارك بعض شرائح المجتمع في إنتاجها. لم تشعر النجمة السينمائية ساندرينا بونية لحظة واحدة بالحرج من أختها المعاقة رغم نجوميتها ومجتمعها , بل وظفت كل طاقاتها لمعالجتها وتحسين وضعها الصحي , رافقتها في سفرتها ونقلتها إلى باريس بالقرب منها, ولم يؤثر ذلك على عملها في السينما أو على علاقاتها الاجتماعية , إنها إنسان تحت ظرف خاص يحتاج إلى الدعم والمعونة ,وان تكون بين دفئ المجتمع وليس على أطرافه . لقد وضعت شهرتها في خدمة المعوقين ومساعدتهم على جذب أنظار الرأي العام إلى هذا التردي والتقصير في خدمات المعوقين, لقد أيقظت الكثير من غفلتهم.
فلم وثائقي ذكي عن الأخت التوحدية
من الصعوبة بمكان أن تعيد رؤاك بين ما حدث من قبل وما حدث بعد, دون أن ترتبك المشاعر وتتداخل وتضطرب الذكريات.عن طفولة فتاة وشبابها من فيديو قديم خاص يسرد الفلم الوثائقي في المقطع لأول ( القبل ) جزء من سيرة حياتها, نص مقتضب التعليقات, والأمكنة مفتوحة حركة مكثفة لصور قديمة ,تطل علينا من الماضي فتاة شعرها اسود طويل تتفجر حيوية تغمرك بنظراتها الحائرة ,عابثة ومداعبة ومرة أخرى آمرة ناهية , تنظر بتردد وارتباك إلى الكامرة , ابتسامتها وقهقهاتها ,ولمسة الفرح على وجهها أليفة في محيطها ,حيوية ترقص ,نظرتها فاحصة يقظة تبرق لكل شيء, تحدق في الكامرة طويلا مبهورة , موهوبة تعلمت اللغة الانكليزية واهتمت بالأدب الانكليزي ,قرأت الكتب بشغف, مولعة بالجغرافيا, لكنها منذ الطفولة كانت تحتاج الكثير من الاهتمام ,حالما تهمل وتشعر بالوحدة, تتحول إلى طفل عدائي صعب المراس تضرب أمها وتجرح نفسها بينما يعرض المقطع الثاني من الفيديو نفس المرأة في عمر يناهز 38عاما , أجبرت على ارتداء قميص المجانين , تجلس منهكة , تكور جسدها شعرها قصير أشعث , عيونها خالية من التعبير وكأنها تحدق فراغ بالكاد توقف جفنيها من السقوط,تتحاشى التقاء النظرات , زاد وزنها 30 كغم ,وأصبحت ذاكرتها قصيرة محدودة وقتية , لم تعد لها القدرة على ارتداء ملابسها إلا بالمساعدة , تتحرك ببطء شديد كأن احد يسحبها ويجبرها على المسير, لا ترغب في شيء سوى الاسترخاء .الصراع الدائم بين ذكريات الماضي وواقع الحاضر شغل أحداث الفلم الوثائقي, تتكرر مواجهات بين الزمنين لتبهر المشاهد بعنف التحولات النفسية لامرأة اسمها سابينا. . سابينا "المعتوه" كما أطلق عليها في المدرسة الابتدائية ,هي الأخت الأصغر للنجمة السينمائية الفرنسية " ساندرينا بونيه" تشبهها إلى حد كبير, كانت سابينا تتعلم في مدرسة خاصة وحين بلغت الثانية عشر انتقلت إلى المدرسة التي يتعلم فيها إخوتها , لكن سخرية الطلاب منها حدد حركتها, ودفعها إلى السلوك العدائي مما اضطر عائلتها إلى إخراجها من المدرسة ,بقيت في البيت ,تقوم بالإعمال اليدوية وتتعلم الموسيقى مبدعة خلاقة , تعلمت العزف على البيانو وعشقت باخ وشوبرت, حققت حلمها الكبير بزيارة أمريكا مع أختها مخرجة الفلم النجمة السينمائية . نضج إخوتها وكبروا واستقروا في بيوتهم الخاصة , بعد صدمة عاطفية بموت الأخ الأكبر,بقيت وحيدة مع أمها وانتقلت إلى الأرياف, فقدت ثقتها بمحيطها بعد تغير مألوفها اليومي, تصاعد سلوكها العدائي ضد الأخر والذاتي, فجاءه أخذت تعتريها فورات من الهيجان والسلوك العنيف , لم تنجح الفحوص في تشخيص إعاقة سابينا ,ولم تفلح العلاجات في تحسن حالتها الصحية , استأجرت أختها ساندرينا بيتا خاصا لها وعمل بعض المربيين على رعايتها ,ولكنهم تركوا العمل بعد فترة ولم يستطيع احد مساعدتها , ارتبكت العائلة وبعد معاناة اضطرت إلى إدخال سابينا إلى مستشفى الأمراض العقلية الرسمية التابعة للدولة الفرنسية , طالت إقامتها فيها لأكثر من خمس سنوات فقدت فيها كل ما تعلمته, وضعفت قدرات وعيها وإدراكها إلى الحدود الدنيا , أما كفاءتها الحركية فقد تلاشى الكثير منها, لاحظت عائلتها إن بقائها في المستشفى ليس في صالحها , بدأت العائلة في البحث عن مكان لسابينا ,إلا إن اغلب المؤسسات رفضت قبولها , سعت مديرة إحدى مؤسسات إعادة تأهيل المعوقين لفتح مركز لسكن المعوقين ,لكن قلة التمويل المالي حال دون ذالك ,وبدعم الممثلة النجمة ساندرينا بونية تم افتتاح السكن لمجموعة من المعوقين في قرية "جارنيه" يدعى " مكان الحياة ", أربعة منهم توحديين, إضافة إلى المربيين , بعد سنة انتقلت سابينا إلى السكن الجديد ,ابتداء تم تخفيض جرعات الأدوية التي تتناولها سابينا إلى النصف, بدأت حالتها على طريق التحسن , غدة امرأة لكنك لا ترى صورة الأنثى فيها . تركت سنوات إقامتها في مستشفى الأمراض العقلية الحكومية أثارها السيئة الواضحة على حياة سابينا في سلوكها الاجتماعي والنفسي, نتيجة لعلاجها بجرعات عالية من الأدوية المخدرة والحقن المهدئة لكسر فورات غضبها, لان طرق علاج إعاقة التوحد في زمن طفولة سابينا لم تكن واضحة المعالم أو تحظى بالاهتمام , إضافة إلى عدم وجد مؤسسات مختصة بهذا الأنواع من الإعاقة ( اضطرابات. التوحد ). مزجت المخرجة مابين صور الماضي وصور والحاضر, وتركت المشاهد يحدق طويلا مبهورا بين زمنين في مقارنات عاصفة غاضبة بين الحركات الإيمائية المعبرة عن غضب مخنوق عند المعوق وخنوع , أصبح فلمها الوثائقي الأول أمثولة للنقد الاجتماعي, وصرخة شكوى ووداع لصبا أختها الصغيرة سابينا, تساءلت المخرجة بلقطات سريعة من الزمنين "هل السفر مع أختها الصغيرة ممكن ؟؟" بعد خروجها من مستشفى الأمراض العقلية , ظلت سابينا تلح بسؤال تكراري , تستعيد من خلاله طمأنينتها وحضورها ,تسال أختها (هل تزوريني غدا ؟) ركزت المخرجة على حياة أختها في السكن الجديد, وبدأت تروي أحداث العهد الجديد سينمائيا وتابعتها في كل مكان ففي العمل اليومي في حديقة السكن تكرر سابينا طلب استراحة , في محلات شراء الملابس , في الشارع تتبرع لأحد الموسيقيين , نراها في المسابح وأماكن الاستجمام وحين يفزع الناس من نوبات صراخها المفاجئ , حينما تتحدث بلغة وكلمت نابية مع بائع التذاكر وتكيل له السباب وبنفس اللحظة تحضن المارة وتوزع عليهم القبل , في ساعات أخرى تحطم طبق الطعام على الأرض وتعظ يدها وتضرب وجهها , وفي الليل تدلف إلى غرفتها رغبة في الأمان والطمأنينة , تحفظ الصور والرسائل في صندوق كبير تغلقه حتى لا تمزق وتحطم ما تحب من صور وهدايا في نوبات الغضب , بدأت رويدا رويدا تعبر عن حاجاتها شفاها وتتكلم مع الأخر, وفي خطوات متعثرة بدأت تعود إلى الحياة. ترسبت بعض الذكريات الجميلة في ذاكرة سابينا التوحدية(هدف المخرجة تحفيز ذاكرة أختها ) منها سفرها إلى أمريكا مع أختها في احد المشاهد الأخيرة نشاهد مقطعا من فيديو سفر سابينا مع أختها ساندرينا إلى أمريكا , فجأة تترقرق الدموع في عينيها و تجهش في بكاء طويل انه زمن الفرح المسروق منا وحزن تقدمنا في السن , تطلب المخرجة من أختها أن تكف عن البكاء أو توقف عرض الفلم ,, ترفع سابينا عيناها المغرورقتان بالدموع وترد بصوت خافت إني ابكي من الفرح وارغب بمشاهدة الفلم مرة أخرى ,, تواجهنا المخرجة في عدد من القطات السريعة حدة فورات وغضب التوحدي حين تغير مألوفة والوقوف ضد رغباته ورود فعله الغير متوقعة ووضوحها عبر التوثيق كما نرى قوة تأثير المخرجة المحببة لدى التوحدية سابينا التي أقنعتها بمختلف الوسائل للوقوف أمام عدسة الكامرة لفترات طويلة عبر الأسئلة والأجوبة والحوارات والصور . يتضح سلوك سابينا وتصرفها عبر الحوارات التي تجريها المخرجة مع التربويين والمعالجين, ولكن يبقى السؤال عن حال المعوقين مفتوحا إلى نهايةالفلم.
الفلم الوثائقي( اسمها سابينا ) تتطور أحداثه بشكل بطيء وبدرامية رائعة تروي وتوثق مشكلات المعوقين ,وضعف مؤسسات الدولة لرعاية المعوقين في الزمن الحاضر, عبر الوقائع اليومية لمسيرة فتاة معاقة توحدية ,وسلسلة اللقاءات والحوارات الهادئة التي أجرتها المخرجة مع المرضى وعوائلهم في مستشفى الأمراض العقلية , تعطي انطباعا واضحا عما تودي إليه جرعات الدواء المخدر وليس بتكهنات التحليل النفسي, وسلطت الضوء على الكثير من حالات الإعاقة في مستشفى الأمراض العقلية التي تعالج باستخدام الجرعات العالية من الأدوية والعقاقير المخدرة وتحيل المريض إلى مدمن ,كما هي حالة "اوليفر " تروي أم اولفر " بدلا من حبات الفيتامينات تناولت خطأ حبات من دواء ابني المعاق ,فغرقت في نوم عميق لمدة يوم كامل , وعندما فقت ولمدة طويلة ,بقيت غائبة عن وعي الحقيقي ,ولم أميز ما يجري في التلفزيون " . ان عرض سلسلة مقاطع من فيديو يسجل مسيرة الطفلة التوحدية نجح في شد الجمهور, وحثه على التفكير بما حدث ويحدث , إدراك ووعي سابينا المعتوه وصبوتها ,وخمول وتهشم سابينا المثقلة بخدر الأدوية .
شاهد الفلم أكثر من ثلاثة ملاين ونصف المليون من سكان فرنسا, وأطرت الصحف الفرنسية الفلم الوثائقي والمخرجة النجمة ساندرينا بونية لجرأتها في طرح هذه المشكلة الاجتماعية – مشكلة أختها المعاقة وعائلتها - أمام الرأي العام وحبها الجارف لأختها وعلاقتها الوثيقة مع عائلتها .لم يعامل الفلم بفضائحية كشف أسرار نجمة عالمية وعائلتها , بل طرحت عبر نقاشه قيم جديدة لفهم مشاكل المعوقين ,وما يواجهونه من صعوبات وتجاهل من صناع القرار , حفز وحث أيضا المجتمع إلى الالتفات إلى شريحة واسعة من المجتمع الفرنسي, تعاني من الإعاقة وضعف قدرتها وإمكانيتها للبقاء على الحياة دون مد يد المساعدة لها , والبحث عن أماكن ملائمة لسكنهم ,وتطوير الطرق التربوية والعلاجية .
عرض الفلم ي مهرجان برلين السينمائي حضرته المخرجة النجمة ساندرينا بونيه وعلقت في لقاء لها في مجلة" لورا "الألمانية في العدد الثالث لسنة 2009 ( أريد أن أوضح حقيقة, أن لا تتحول مستشفيات الأمراض العقلية إلى سكن دائم للمعوقين , في اى حال من الأحوال بل مكان رعاية وعناية مؤقت لهم ) ثم قالت ( إن الخطأ ليس في العائلة وإنما في الخلل القائم في مؤسسات رعاية المعوقين , ثم أردفت " أنها هي النجمة ولست أنا ". وصرحت لصحيفة تاكزتسايتنغ ( اشعر الآن أصبحت أكثر فائدة للآخرين ) .
الفلم نداء حار إلى المسؤولين عن السياسة الصحية في الدولة الفرنسية , يطالبهم بتطوير الرعاية الصحية للمعوقين ,ولا يتركوهم لأقدارهم ,ويدعو المشاهد إلى المضي في العمل والاستمرار في الحوارات التي فتح الفلم أبوابها مشرعة من اجل حق المعوق في حياة كريمة .
ساحة النقاش