أمم قهرت الفشل
فريد مناع
في هذه المقالة نصحبك في جولة سريعة عبر تاريخ الأمم؛ لترى نفس السُنة مطبقة في أبلغ صورها {ولن تجد لسنة الله تبديلاً} [الأحزاب: ٦٢].
إنها جولة نهديها لمن دفعته الظروف الحالية، التي منيت بها أمتنا في هذه الأيام إلى أن ييأس ويقنط، ويظن أنه لن تقوم لأمتنا قائمة بعد الآن، نقول له: انظر، فقد مرت أمتنا بل وأمم أخرى بظروف من الفشل والهزيمة، أقسى مما تعيشه أمتنا اليوم بكثير، ولكنها قامت مرة أخرى لتعود أقوى مما كانت عليه لما أتقنت فن انتزاع النصر من بين فكَّي الهزيمة، ولنبدأ بمشهد من تاريخ الأمم الأخرى.
ألمانيا.. عمار بعد الدمار:
مشهد أليم ذلك الذي شاهده من تبقى من الشعب الألماني عقب استسلام ألمانيا في الحرب العالمية الثانية يوم 8 مايو 1945م لقوات الحلفاء، كانت ألمانيا عبارة عن حطام دولة، بعد أن أصيبت بذلك الدمار الشامل في كل البنية التحتية بل والفوقية للدولة الألمانية، والذي نتج عنه انهيار تام في الروح المعنوية للشعب الألماني المهزوم، بعد سنوات من الانتصارات المذهلة، وبعد أعوام من الشعارات البراقة، أصبح الألمان وقد وجدوا بلدهم قد صار حطامًا ركامًا، وهناك ما يقرب من خمسة ملايين رجل من رجالهم في معتقلات الحلفاء، والتي لم تتسع لهم فأرسلوا معظمهم إلى معتقل سيبيريا الجليدي الشهير.
دُمرت البنية التحتية للمدن الألمانية تمامًا، وسُويت المنازل بالأرض، مدن كاملة سويت بالأرض كمدينة (كولونيا) على سبيل المثال، لا يوجد طعام، لا توجد موارد أساسية، باختصار، انهيار تام، تخيل لو أنك كنت هناك، ووجدت نفسك من هذا الشعب البائس، ماذا كنت ستفعل؟
الكثير منهم قالوا: إن المستقبل مظلم، بلادنا محتلة من قبل أربع دول منتصرة، وهي الولايات المتحدة الأمريكية، الاتحاد السوفيتي، بريطانيا، فرنسا، بل وأكثر من هذا، أن العديد من سكان المناطق التي استولت عليها القوات السوفيتية نزحوا إلى ألمانيا الغربية، وقدر عددهم بحوالي 15 مليون لاجئ، ولو نظرنا إلى الشعب الألماني يومئذٍ لوجدناه مؤلفًا من النساء والأطفال والشيوخ والعجائز فقط، فلقد مات من مات من الرجال، واعتقل من اعتقل.
في البداية، وعقب صدمة الهزيمة والعار، تساءلت العقول: ما هو الحل؟ كانت العقول تجد صعوبة في الإجابة على هذا السؤال؛ ولهذا فكانت تهرب من الواقع المرير بقطعة من الحبال تشنق بها نفسها، ولكن فجأة ظهرت فكرة، وكالعادة كقشة من الأمل، تتشبث بها العقول، تناقلت الألسن هذه الفكرة الجديدة، كانت هذه الفكرة مجرد تساؤل: لقد كنا قبل الهزيمة دولة عظمى، فما هو المانع أن نقوم مرة أخرى، وما هو المانع أن نحاول من جديد؟! أتدري يا طالب النهوض، من كان الداعي لهذه الفكرة والمروج لها بين أوساط الشعب الألماني؟ لقد كانت المرأة.
نعم المرأة الألمانية هي أول من قدحت زناد فكرها، وأشعلت بريق الأمل في نفوس الشعب الألماني، وكانت بداية النهضة الألمانية، وكانت بداية قصة رائعة من العمل الجماعي الدئوب، كتب فصولها الشيوخ والنساء والأطفال، وكل هذا بالجهود الذاتية للشعب وليس للحكومة، كان الناس كلما انتهوا من بناء بناية كتبوا عليها العبارة التالية: (لا تنتظر حقك، افعل كل ما تستطيع).
وعندما جاء العام 1975م، كانت ألمانيا قد بُنيت من جديد، أي في ثلاثين عامًا فقط، بل وحازت على المركز الثالث على مستوى العالم في معدل التنمية، وعلى المركز الثاني في نسبة الصادرات.
ولكي نتحدث عن كيفية بناء ألمانيا لنفسها من الصفر في ثلاثين عامًا فقط، فيمكننا أن نميز ثلاث مراحل عبرتها الملحمة الألمانية في رحلة النهوض:
المرحلة الأولى: مرحلة إعادة البناء (1945م ـ 1955م):
ولقد قادت المرأة هذه المرحلة، فكان شعارهم في هذه الفترة (لا تفقدوا الأمل، نحن شعب قوي، نحن أفضل شعوب الدنيا)، هكذا كان الألمان يحافظون على جذوة الأمل في نفوسهم، هكذا كانوا يحمِّسون أنفسهم للعمل والبناء، لقد كان المحرك الأساسي لهم في هذه الفترة إيمان شديد راسخ بأنهم أحسن شعب في الدنيا.
وقرب نهاية هذه المرحلة وقع حدث كان له أكبر الأثر في رفع الروح المعنوية للشعب الألماني؛ فقد فاز المنتخب الألماني بكأس العالم لكرة القدم عام 1954م، وهذا الحدث جعل العالم ينظر إلى الألمان في ذهول وإعجاب، بقدرة هذا الشعب القوي الإرادة على تجاوز ظروف الفشل بصورة مذهلة.
المرحلة الثانية: مرحلة بناء المصانع (1955م ـ 1965م):
في بداية الخمسينيات قام الألمان ببناء الكثير من المصانع، واستوردوا الأيدي العاملة من الخارج، فجاء إلى ألمانيا ما يقرب من 5 مليون عامل، ومعظمهم من تركيا، وكانوا يكتبون بداخل كل مصنع ما يسمى بقيم العمل: الجدية ـ الانضباط ـ الحرص على الوقت.
وبالفعل صنع الألمان جوًّا من العمل الجاد يُرَسِّخ هذه القيم، ليس في نفوس العمال الألمان فحسب، بل وفي نفوس كل الوافدين من الخارج؛ مما ضاعف من الإنتاج، وقفز بمعدلات التنمية إلى مستويات عالية.
المرحلة الثالثة: مرحلة تعميق الشعور بالانتماء للوطن، ورد الجميل له (1965م ـ 1975م):
بعد أن أصبح العديد من رجال الأعمال وأصحاب المصانع أثرياء، قامت الحكومة بتكليف كل منهم بتدريب وتعليم مئات من الشباب، وإيجاد فرص العمل لهم، ردًّا لجميل هذا البلد عليهم، وتعبيرًا عن الانتماء العميق للدولة الألمانية، وبالفعل تم هذا بنجاح منقطع النظير، فلم يعد هناك شاب واحد عاطل بين حدود الدولة الألمانية، مما قفز بمعدلات التنمية والنمو الاقتصادي إلى تلك المعدلات الخرافية.
وكتعبير عن نجاح الحكومة الألمانية، سُئِل وزير الاقتصاد الألماني عن خطط الحكومة، فمط شفتيه وقال: لا شيء، واستدرك قائلاً: الشعب الألماني لا يحتاج لتوجيهات من أحد.
محنة التتار ... سحابة عابرة:
وأما تاريخ هذه الأمة، فهو حافل بالأدلة الدامغة على ثبوت تلك السنة، فكم هي المرات التي نهضت فيها هذه الأمة من كبوتها، بعد أن ظنَّ الظانون أنها ستهلك ولن تقوم لها قائمة، ومن بين كل تلك التجارب التي خاضتها أمة الإسلام وحوَّلت فيها الهزيمة المنكرة إلى نصر ساحق، والفشل الذريع إلى نجاح باهر، والكبوة إلى نهضة اخترنا لك هذه التجربة الرائعة... محنة التتار.
يقول المؤرخ ابن الأثير المتوفى عام 630هـ، وهو يستعرض وقائع عام 617هـ: (لقد بقيت عدة سنين معرضًا عن ذكر هذه الحادثة استعظامًا لها، كارهًا لذكرها، فأنا أقدِّم إليها رجلاً وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين، ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟ فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل هذا أو كنت نسيًا منسيًّا).
ويقول أيضًا واصفًا إياها: إنها (الحادثة العظمى والمصيبة الكبرى التي عقمت الأيام والليالي عن مثلها، عمت الخلائق وخصت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم مذ خلق الله I آدم إلى الآن لم يبتلوا بمثلها لكان صادقًا، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها... ولعل الخلق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم وتفنى الدنيا... إنهم لم يبقوا على أحد، بل قتلوا الرجال والنساء والأطفال، وشقوا بطون الحوامل وقتلوا الأجنة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم).
وإليك بعضًا مما فعله التتار بالمسلمين: فقد هجم التتار بقيادة جنكيز خان على بخارى، وبعد ثلاثة أيام من الحصار طلب أهلها الأمان فتظاهر بإعطائهم إياه، وأظهر العدل وحسن السيرة وأمرهم أن يخرجوا بأسلحتهم ويقاتلوا معه من اعتصم بالقلعة، وكان في القلعة أربعمائة من فرسان المسلمين، فسقطت القلعة، وقُتل كل من فيها من المسلمين.
ثم عاد جنكيز خان إلى البلد بخارى، وغدر هو وجنوده بأهلها، فاستباحوها، وفعلوا بأهلها الموبقات، وقتلوا منهم خلقًا لا يعلمهم إلا الله، وأسروا الذرية والنساء، وفعلوا بهن الفواحش بحضرة الرجال، فقتل أناس دون نسائهم، وأسر آخرون فعذبوا أشد العذاب، وأحرقت المساجد والمدارس حتى صارت خاوية على عروشها.
وكان التتار في هذه المعارك يعتمدون كثيرًا على الحرب النفسية، فكانوا يُكْرِهون الأسرى على القتال معهم وإلا قتلوهم، فيوهمون الناس بكثرتهم، ويتقون بالأسرى في المقدمة، وكانت وسائل الإعلام تنقل أعمال التتار الوحشية، فتتقطع قلوب الناس رعبًا قبل المعركة.
ووصل الجيش التتري بغداد في المحرم سنة 656هـ، وعندما أحاط الجيش التتري ببغداد حفروا الخنادق حول الأسوار لتطويق المدينة، ثم شرعوا في بناء أسلحتهم الصينية حول بغداد.
كان معهم مجانيق تقذف كتل الصخور، وعربات ذات عجلات، وقاذفات نفط تقوم بقذف السهام الملتهبة على مسافات بعيدة المدى، فأصبح المدافعون وسكان بغداد أهدافًا سهلة لهذه القذائف ليلاً ونهارًا.
وأحاط التتار بدار الخلافة وبدأوا بقصفها من كل جانب، فدخل أحد السهام من الشباك فأصاب جارية كانت ترقص بين يدي الخليفة، البلاد في الأزمة وعلى أبواب الكارثة، والخليفة مشغول باللهو والرقص، ماتت الراقصة فاستشاط الخليفة غضبًا، فما كان منه إلا أن أمر بزيادة الستاتر على القصر، لكي لا تقطع عليه السهام لحظات الأنس والسرور، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وكان الوزير ابن العلقمي أول من برز إلى التتار، فخرج بأهله وأصحابه إلى هولاكو واجتمع به، ثم عاد إلى الخليفة وقال له بلسان الناصح: إن الملك يريد أن يبقيك في الخلافة ويزوج ابنته بابنك، وأنه يريد الصلح حقنًا للدماء، وأشار عليه بالخروج لمقابلة هولاكو، وقال: (فليُجب مولانا إلى هذا فإن فيه حقنَ دماءِ المسلمين).
خرج الخليفة وأولاده الثلاثة ومعهم سبعمائة راكب من القضاة والعلماء والأعيان حتى يشهدوا الصلح، وعندما وصلوا إلى هولاكو احتُجزوا، وسُمح لسبعة عشر رجلاً منهم فقط بمرافقة الخليفة.
ولما وقف الخليفة أمام هولاكو هاله ما رأى من الجبروت والإهانة، فأراد أن يتكلم فاضطرب كلامه، ثم تم القبض على الخليفة، وأُخذ الذين جاءوا معه على مجموعات ليشهدوا العقد، فكلما أخذت مجموعة قتلت حتى قتلوا جميعًا.
ثم أُمر الخليفة أن يصدر أوامره للناس في بغداد بإلقاء السلاح، ثم سار التتار بالخليفة تحت الحراسة إلى دار الخلافة ليدلهم على أماكن الذهب والمجوهرات، وكان معهم الوزير العلقمي، ومستشار هولاكو نصير الدين الطوسي، وبعد أن نهبوا دار الخلافة عادوا بالخليفة إلى هولاكو، وعندما أراد هولاكو قتل الخليفة نهاه مستشاروه عن إراقة دم الخليفة على الأرض، وهددوه بأنه إذا فعل ذلك سيثور بركان يدمره هو وجنوده، فأمر هولاكو بوضع الخليفة في كيس من الجلد، ثم رفسه الجنود حتى تهشمت عظامه ومات.
وبهذا سقطت الخلافة العباسية في بغداد في الرابع عشر من صفر عام 656هـ.
وبعد أن ألقى سكان بغداد السلاح، وانتهت المقاومة، دخل الجنود التتار بغداد ونزلت الكارثة العظيمة بالمسلمين، فقتل التتار كل من قدروا عليه من الرجال والنساء والأطفال والشيوخ، وهتكوا أعراض النساء، وشقوا بطون الحوامل، وقتلوا الأجنة، ونهبوا الأموال، وأحرقوا الكتب، وهدموا البيوت.
وكان الناس يجتمعون في البيوت ويغلقون عليهم الأبواب، فيفتحها التتار إما بالكسر وإما بالنار، فإذا دخلوا عليهم هربوا إلى السطوح، فقتلوهم حتى جرت الميازيب بالدماء.
كان ضحايا هذه المجزرة الجماعية ثمانمائة ألف إنسان، وقيل: مليون وثمانمائة ألف، وقيل: مليونين، وامتلأت بغداد بالجثث حتى صارت كالتلال في الطرقات، وتعفنت الأشلاء، وتلوث الهواء فانتشر الطاعون في بغداد فمات منه خلق كثير.
وكان كثير من الناس قد اختبئوا في الآبار وقنوات الأوساخ والنجاسات، فلما نودي في بغداد بالأمان خرجوا كأنهم الموتى من قبورهم لا يعرف الوالد ولده، ثم أخذهم الطاعون فألحقهم بمن سبقهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وهذه الوقائع التي يرويها ابن الأثير تكاد تكون تجسيدًا مضحكًا محزنًا للأمر الذي آل إليه الكثيرون من أبناء عالم الإسلام، يقول رحمه الله: (ولقد بلغني أن إنسانًا منهم ـ أي من التتار ـ أخذ رجلاً، ولم يكن مع التتري ما يقتله به، فقال له: ضع رأسك على الأرض ولا تبرح، فوضع رأسه على الأرض ومضى التتري فأحضر سيفًا وقتله به).
في هذه الظروف السياسية والنفسية، ومن خلال وهج السيوف التي تقطر دمًا وأصداء المعارك التي أثار نقعَها سيلٌ لا أول له ولا آخر من خيول الغزاة، بعث هولاكو برسالته تلك إلى سلطان مصر المملوكي: سيف الدين قطز.
وكان الطاغية يعرف جيدًا خلفية الرعب والانهزام التي نسجتها العقود الأخيرة، على امتداد خارطة العالم الإسلامي في أعماق نفوس أبنائه، فعرف كيف ينتقي كلمات رسالته، قال: (من ملك الملوك شرقًا وغربًا، باسمك اللهم باسطَ الأرض ورافعَ السماء، يعلم الملك المظفر قطز، الذي هو من جنس المماليك الذين هربوا من سيوفنا أننا جند الله في أرضه، خَلَقنا من سخطه، فسلِّموا إلينا تسلموا قبل أن تندموا، وقد سمعتم أننا خربنا البلاد وقتلنا العباد، فلكم منا الهرب ولنا خلفكم الطلب، فعجلوا لنا بالجواب قبل أن تُضرِمَ الحربُ نارها وترميكم بشرارها، فما بقي لنا مقصد سواكم، والسلام).
كل المؤشرات وكل الحسابات الأرضية المنطقية كانت تقود مباشرة إلى نتيجة واحدة، أنه يستحيل على الأمة أن تخوض هذا التحدي، فمأساة بغداد ما زالت ماثلة للأعين، والمسلمون مشتتون مزعزعون، بل ويعيشون بلا خليفة بعد مقتل الخليفة العباسي.
وفي ظل تلك الظروف الصعبة بل المستحيلة، يواجهون ذلك السيل التتري الهادر الذي لم ينجح في إيقافه أحد، لأجل هذا لم يكن أمام تلك الأمة التي ذاقت مرارة الهزيمة إلا أن تركن إلى خيار الاستسلام والخضوع، هذا ما كانت تقود إليه حسابات الأرض، ولكن حسابات السماء كان لها شأن آخر، كان تضع في المقادير ذلك العامل الحاسم الذي يغفل عن تأثيره الأرضيون.
إنه الإيمان بالله تعالى الذي ما أن يوجد في معادلة النصر والهزيمة حتى يقلبها رأسًا على عقب بإذن من العلي القدير، الذي يقول في كتابه العزيز: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} [آل عمران: ١٣٩]، ويقول عز من قائل: {وكان حقًّا علينا نصر المؤمنين} [الروم: ٤٧]، فماذا تفعل قوة التتار بل كل قوى الأرض كلها أمام قوة القوي المتين؟!
وهكذا كان على السلطان المظفر سيف الدين قطز أن يتخذ قراره، فكان رده على هولاكو صارمًا حاسمًا بالسيف لا بالكلام، فقتل رسل التتار، وعلق رءوسهم على باب زويلة، وأعلن الجهاد في الأمة، وإذ رأى ترددًا وجبنًا ونكوصًا من عدد من الأمراء ألقى كلمته المؤثرة قائلاً:
(يا أمراء المسلمين، لكم زمان تأكلون أموال بيت المال، وأنتم للغزاة كارهون، وأنا متوجه، فمن اختار الجهاد فليصحبني، ومن لم يختر ذلك يرجع إلى بيته، فإن الله مطلع عليه، وخطيئة حريم المسلمين في رقاب المتأخرين، يا أمراء المسلمين، من للإسلام والمسلمين إن لم نكن نحن).
فلما سمعوا ذلك الكلام الذي يقطر إيمانًا ويقينًا، بكوا جميعًا حتى أخضلوا لحاهم، وما كان للأمراء جميعًا إزاء تلك القيادة الربانية إلا أن يخلعوا رداء العجز والوهن ومحبة الدنيا، وأن يقفوا متحدين في مواجهة هذا الخطر المحدق الرهيب.
وأصر ذلك القائد المسلم الفذ أن يبدأ المعركة مع جحافل التتار بعد صلاة الجمعة، التماسًا لبركة دعاء الخطباء على المنابر، وتأمين المصلين، هكذا بدأت المعركة الفاصلة في عين جالوت، ثم اشتد القتال، فكانت الكرة على المسلمين، فاخترق التتار الصفوف المسلمة حتى وصلوا إلى خيمة السلطان، وأصابوا زوجته.
فما كان من سيف الدين قطز إلا أن رمى عن رأسه الخوذة، وحمل على أعداء الله حاسر الرأس، وهو يصيح بتلك الكلمة الربانية الرائعة (واإسلاماه، واإسلاماه!!) حتى عقر جواده رحمه الله وهو في قلب صفوف العدو، فلامه بعض الأمراء قائلين: (لم لا ركبت فرس فلان؟! فلو كان رآك بعض الأمراء لقتلك، وهلك الإسلام بسببك).
فقال ذلك القائد الرباني في ثبات ويقين: (أما أنا، فكنت أروح إلى الجنة، وأما الإسلام فله رب لا يضيعه، قد قتل فلان وفلان وفلان وعد خلقًا من الملوك، فلم يضع الله الإسلام).
وما هي إلا سويعات حتى نصر الله تعالى دينه، وأعز جنده، فهزم التتار هزيمة ساحقة في معركة عين جالوت، سنة 658 من الهجرة، وهكذا نهضت الأمة في عامين فقط من بعد سقوط عاصمة الخلافة في بغداد، لتُعلِّم الدنيا كلها أن أمة الإسلام قد تضعف، وقد يصيبها الوهن والمرض، ولكنها أبدًا لن تموت، فسرعان ما تعود من جديد إلى مكانتها العالية التي أرادها الله تبارك وتعالى لها حين جعلها خير أمة أخرجت للناس، وكلفها بمهمة القيادة لهذه البشـرية بنور الهداية الربانية.
النظرة إلى الفشل:
أيها القارئ الكريم، هل بهرتك هذه القصص؟ هل أذهلك أولئك العظماء؟! هل لاحظت أن كثيرًا منهم كانوا يفتقدون إلى نصف قدراتك الطبيعية؟ هل تأملت أن ظروف أكثرهم كانت أصعب وأقسى بكثير من ظروفك؟! هل تأملت كيف تقوم الأمم من سقطتها؟ بل كيف قامت أمة الإسلام من تلك الهزيمة المدمرة التي لم تُبتلَ بمثلها حتى في أيامنا هذه؟
إن من أكبر العوائق التي تحول بين الإنسان وبين الخروج من نفق الإخفاقات المظلم، هو طريقة نظرته إلى الفشل وإلى الظروف المحيطة به؛ فمعظم الناس يتعلمون درسًا خاطئًا من الفشل، وهو أنهم فاشلون ولا يستطيعون تحقيق النجاح، مما يرسخ في أذهانهم قناعة العجز ويصيبهم باليأس والإحباط.
فليس هناك ما يسمى بالفشل، إنما يوجد فقط خبرات وتجارب فاشلة، أي إن إخفاق المرء في تحقيق هدف ما من خلال طريقة معينة لا يسمى فشلاً، وإنما هي تغذية بمعلومات جديدة وخبرات مكتسبة ارتدت إلى الشخص من خلال هذه التجربة.
إنك لا تعلم حجم التغيير الذي يمكن أن يحدث في حياتك إذا غيَّرت اعتقادك أو وجهة نظرك إلى تجارب الفشل، ولقد قررنا لك سابقًا أن النجاح الدائم الباهر لا يولد إلا من رحم الفشل؛ لأن الفشل المتكرر هو الذي يُكسِب المرء ما يلزم للنجاح من صفات نفسية؛ كالصبر والإرادة ومن خبرات عملية كذلك، فالفرق الأساسي بين الناجح والفاشل ليس في حجم الإخفاقات، ولكن في الوجهة التي ينظر كل منهما إليها.
فبينما ينظر الناجح إلى الفشل على أنه فرصة للتعلم والبدء من جديد على ضوء خبرات مكتسبة، يرى الفاشل إخفاقه على أنه قدر مكتوب عليه لا يمكن تغييره، ويلقي باللوم على الظروف الصعبة، ويعلق تقاعسه على شماعة الواقع المر.
أهم المراجع:
1. الكامل في التاريخ، ابن الأثير.
2. حتى لا تفشل، أحمد سالم بادويلان.
3. تاريخ الخلفاء، السيوطي.
4. قصة نجاحك، محمد العطار.
5. البداية والنهاية، ابن كثير.