هكذا يجلب الإنسان الشقاء لنفسه |
|
يقول الحق سبحانه وتعالى في سورة طه: “وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِن لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، قَالَ رَب لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى، وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَد وَأَبْقَى، أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم منَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِن فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النهَى، وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن ربكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُسَمى” .
والمعنى: إن من اتبع هداي الذي جاء به رسلي فلن يضل ولا يشقى، أما من أعرض عن “ذكري” أي عن هداي الذي جاء به رسلي، واشتملت عليه كتبي “فَإِن لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً” أي: فإن لهذا المُعرض معيشة ضيقة مملوءة بالهم والغم والأحزان وسوء العاقبة، حتى ولو ملك المال الوفير، فإن المعيشة الطيبة لا تكون إلا مع طاعة الله وامتثال أمره، واجتناب نهيه، قال تعالى: “مَنْ عَمِلَ صَالِحاً من ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنهُ حَيَاةً طَيبَةً” .
قال الإمام ابن كثير: قوله تعالى: “فَإِن لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً” أي في الدنيا، فلا طمأنينة له، ولا انشراح لصدره، بل صدره ضيق لضلاله، وإن تنعم ظاهره ولبس ما شاء، وأكل ما شاء، وسكن حيث شاء فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى، فهو في قلق وحيرة وشك، فلا يزال في ريبة وهذا من ضنك المعيشة .
سنة إلهية
يقول د .يوسف إبراهيم يوسف مدير مركز الاقتصاد الإسلامي بجامعة الأزهر: اتباع المنهج السماوي هو التوصية الأساسية لآدم عليه السلام وبنيه من بعده عندما أهبطه الله إلى الأرض ليقوم بدوره كخليفة، وقد جاءت التوصية في شكل سنة إلهية لا تتبدل ولا تتحول وتنطبق لا محالة إذا تحققت مقدماتها، من يتبع الهدى الذي يأتيه من الله على يد أي من رسله، فلن يضل ولن يشقى، ومن يعرض عن هذا الهدى فإن له ضنك المعيشة في الدنيا، وعدم الاهتداء والعمى في الآخرة، يقول سبحانه “ولا تجد لسنتنا تحويلا”، ويقول أيضا “ولن تجد لسنة الله تبديلا” .
على أساس من هذه السنة ستكون معاملة الله تعالى لذرية آدم عليه السلام، في أجيالها المتعاقبة، فمن يسيرون على منهج الله تعالى يفوزون بخيري، الدنيا والآخرة، ويحوزون عاجل الخير وآجله، يقول سبحانه “ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض” ويقول في شأن اليهود والنصارى: “ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم” .
هذه هي سنة الله في جانبها الأول، جانب اتباع المنهج الإلهي، والسير عليه، وتعظيم الله تعالى وتوقيره، واللجوء إليه في السراء والضراء، والعيش في كنفه، والتمسك بهديه .
أما الإعراض عن الهدى عندما يأتي من البشر لمنهج ربهم فإن عواقبه وخيمة، إنها المعيشة الضنك في هذه الدنيا، المعيشة التي يظللها الخوف ويكتنفها الشقاء من كل جانب، المعيشة التي توغل في الضلال على شتى المستويات، المستوى الاقتصادي حيث ينخر الربا في اقتصادها، والمستوى الاجتماعي حيث ينخر التحلل والتفسخ في جذورها وكيانها، والمستوى الثقافي حيث ينخر الكذب والنفاق والرياء والتضليل في مقوماتها، فتتحول الحياة إلى جحيم، والمستوى التشريعي حيث ينخر الهوى والظلم في مؤسساتها، وتغيب العدالة عن شؤونها، فيتظالم الناس، ويأكل بعضهم حقوق بعض، وعلى المستوى السياسي، حيث تغتصب السلطة وتستلب الحقوق، وُيَوسد الأمر إلى غير أهله، فيُقَرب الفاجر ويمكن، وينفي التقي ويُبْعَد . وعلى المستوى الأخلاقي، حيث تنقلب المعايير الخلقية، ويهزأ بالقيم فيؤمن الخائن، ويخون الأمين، وعلى كل المستويات يظهر الفساد، في البر والبحر، في الأنفس والمجتمع، في النظم والتشريعات، ذلك أن الناس ضلوا عن المنهج، وتنكبوا الطريق القويم وتخلوا عن الهدي الذي جاءهم من الله تعالى، فحقت عليهم السنة الإلهية التي قررها الله تعالى في قوله عز وجل: “ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى”، فالإعراض عن هدي الله تعالى في الحكم والاقتصاد والاجتماع والمعاملات وسائر المجالات، هو الذي يقود الأمة إلى التبعية والذل والهوان سياسيا، وإلى الضنك وسوء الأحوال اجتماعياً، وإلى ضعف الإنتاج وارتفاع الأسعار وانخفاض مستوى المعيشة اقتصاديا، وإلى التفسخ والتحلل والتميع والغش والخداع والتطفيف وأكل أموال الغير بالباطل .
عقاب المكذبين
والمراد بالعمى في قوله سبحانه: “وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى”: عمى البصر، بدليل قوله تعالى بعد ذلك “قَالَ رَب لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً”، وقوله سبحانه في آية أخرى: “وَمَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً” .
وقيل المراد بالعمى هنا: أنه لا حجة له يدافع بها عن نفسه، وقيل: المراد به العمى عن كل شيء، سوى جهنم، لكن معظم المفسرين رجحوا الرأي القائل بأن المراد بالعمى في الآية عمى البصر .
وقوله سبحانه: “قَالَ رَب لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً”، استئناف مسوق لبيان ما يقوله ذلك المُعْرِض عن طاعة الله يوم القيامة، أي قال ذلك الجاحد الذي حشره الله تعالى يوم القيامة أعمى: يارب لماذا حشرتني على هذه الحال مع أني كنت في الدنيا بصيراً؟
وهنا يأتي الجواب الذي يخرسه، والذي حكاه الله تعالى: “قَالَ كَذَلِكَ”، أي: قال الله تعالى في الرد عليه: الأمر كذلك، فإنك “أَتَتْكَ آيَاتُنَا” الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا “فَنَسِيتَهَا”، أي: فتركتها وأعرضت عنها، “وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى”، أي: كما تركت آياتنا في الدنيا وأعرضت عنها نتركك اليوم في النار وفي العمى جزاء وفاقاً .
المسرفون في السيئات
ثم ساق سبحانه سنة من سننه التي لا تختلف فقال: “وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَد وَأَبْقَى”، أي: ومثل ذلك الجزاء الأليم الذي أنزلناه بهؤلاء المعرضين عن ذكرنا نجازي كل من أسرف في ارتكاب السيئات والموبقات، وكل من لم يؤمن بآيات ربه، بل كذب بها وأعرض عنها، ولعذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا “وأبقى”، أي: وأطول زماناً من عذاب الدنيا .
ثم وبخ الحق سبحانه أولئك الذين لم ينتفعوا بآياته فقال: “أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم منَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ” .
والمعنى: أَبَلَغَتِ الغفلة والجهالة بهؤلاء المنكرين الجاحدين، أنهم لم يتبين لهم، أننا أهلكنا كثيرا من أهل القرون الماضية، الذين كانوا يمشون آمنين لاهين في مساكنهم، وكان إهلاكنا لهم بسبب إيثارهم الكفر وإصرارهم على الجحود والعصيان، والعمى عن الهدى والحق .
وقوله سبحانه: “إِن فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النهَى” تذييل قصد به تعليل الإنكار، أي: إن في ذلك الذي أخبرناهم به، وأطلعناهم عليه من إهلاك المكذبين السابقين، “لآيات” عظيمة وعبرا كثيرة، ودلائل واضحة لأصحاب العقول السليمة التي تنهى أصحابها عن القبائح والآثام .
ثم بين سبحانه بعض مظاهر فضله على هؤلاء المشركين الذين أرسل إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم لإنقاذهم من الكفر والضلالة فقال تعالى: “وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن ربكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُسمى”، والمراد بالكلمة السابقة ما تفضل الله تعالى به من تأخير عذاب الاستئصال عن هذه الأمة التي بعث فيها الرسول تكريما له كما قال تعالى: “وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ” أو لأن من نسلهم من يؤمن بالله حق الإيمان، أو لحكم أخرى يعلمها سبحانه .
والمعنى: ولولا الوعد السابق منا بتأخير العذاب عن هؤلاء المشركين إلى يوم القيامة، ولولا الأجل المسمي المحدد في علمنا لانتهاء أعمارهم، لما تأخر عذابهم أصلاً، بل لكان العذاب لازماً لهم في الدنيا، ونازلاً بهم كما نزل بالسابقين من أمثالهم في الكفر والضلال .