الندم يُولد ردود فعل إيجابية لدى الشباب والتعاسة لدى المسنين
الندم والتحسر على قرارات خاطئة أو فرص ضائعة أو مضيعة في فترة الشباب يكون حافزاً قوياً يدفع إلى ممارسة النقد الذاتي وتقويم السلوك، ويقدح في الإنسان شرارة إعادة التفكير في بعض الأمور، ويقوده في نهاية المطاف إلى تسريع وتيرة التعلم والتغيير الإيجابي. أما في الشيخوخة، فيُصبح الندم سوطاً يجلد صاحبه ويعذبه بالإمعان في تذكيره بخيارات خاطئة سابقة، أو بهدر طاقات أو إمكانات في مرحلة ما، أو التقصير مع حبيب أو قريب. ما يُسهم في زيادة إتعاسه بدل إسعاده في فصل خريف عمره الذي يكون المرء فيه أحوج إلى ما يكون إلى سكينة البال وطمأنينة الحال
وقد وجدت دراسة جديدة أن طريقة تعاملنا مع حسرات ومرارات الماضي وفرصه المضيعة تُحدد إلى درجة كبيرة ما إذا كنا سنقضي آخر أيام عمرنا سُعداء، أم أننا سنموت كمداً وحسرةً وكآبةً على ما بدر منا في الأيام الخالية. ويقول باحثون ألمان في مقال نشروه في مجلة “ساينس” إنهم وجدوا أنه عندما يدفع الشباب الأصحاء ثمن قرار خاطئ اتخذوه، فإنهم يُغيرون استراتيجياتهم تباعاً، ويُكيفونها مع الوضع التالي ويُعدلونها حسب الظرف الذي يُقبلون عليه. فلاعبو ألعاب الفرصة المتكررة على سبيل المثال يُصبحون أكثر جسارةً وجرأةً في اللعبة التالية إنْ أفقدهم حذرُهم فرص الفوز. أما إنْ خاطروا كثيراً وخرجوا من اللعبة خاويي الوفاض، فإنهم يُصبحون أكثر حذراً في جولة اللعبة التالية. وهذا يعني أن استجابتهم للندم تُترجَم إلى فعل تصويبي تقويمي يتدارك الزلات أو الهفوات السابقة. كما أن استجابتهم النفسية لهذا الندم كانت إيجابيةً، إذْ زاد معدل ضربات القلب لديهم وأصبحت بشرتهم باردة ورطبةً
ويقول هؤلاء الخبراء إن ما يناسب ابن العشرين والثلاثين لا يُناسب بالضرورة ابن الخمسين، وما يلائم الرجل قد لا يلائم المرأة. ومن بين 40 مسناً الذين شملتهم الدراسة والبالغة أعمارهم 65 سنةً، قال 20 منهم إنهم عانوا من الكآبة بعد تجاوزهم 55 سنةً، وإن استجابتهم للندم كانت مماثلةً للاستجابة التي يمكن أن يُصدرها الأصحاء الأصغر منهم سناً، فخفقان قلوبهم يزداد وأيديهم تبتل، ويُعدلون استراتيجياتهم في الجولات التالية من اللعبة
ولاحظ الباحثون أن الراشدين الأكبر سناً الذين يتمتعون بصحة نفسية جيدة كانوا يتحكمون في استجاباتهم العاطفية بشكل مذهل بصرف النظر عن النتيجة التي حصلوا عليها في اللعبة. فحينما كانوا يخسرون جولة اللعب، لم يكن ذلك يؤثر عليهم البتة في الجولة التالية من اللعب. كما أن أكفهم كانت تبقى جافةً ودقات قلوبهم تظل نفسها
وعندما استخدم الباحثون ماسحات التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي من أجل معرفة أحوال أدمغتهم في أثناء اللعب، وجدوا أنماط استجابة مماثلة، حيث كان المسنون المكتئبون يستجيبون للندم بالطريقة عينها التي يستجيب لها الأصحاء الأصغر سناً. ومن بين الأشخاص الأصغر سناً المتمتعون بصحة جيدة والمسنون المكتئبون، كانت منطقة الدماغ المرتبطة بتقييم التكاليف والمكافآت تنشط في حالتين اثنتين. أولاهما عندما يُقامر الشخص ويخسر كل شيء. وثانيهما عندما يعلم أن الخيار الذي اتخذه أكسبه أقل بقليل من الحد الأقصى الممكن ربحه
ووجد الباحثون أنه عند تضييع الفوز تستجيب هذه المنطقة لدى المسنين المتمتعين بصحة نفسية بنشاط. لكنها لا تنشط على نفس النحو عندما يكتشف المسنون الأكثر سعادةً أنه كان بإمكانهم ربح جولات أكثر. ويبدو أنهم يكونون سُعداء فقط لربحهم ما ربحوه
وصدر من أدمغة المسنين الأكثر سعادةً مُراوغات لم تبدُر من أدمغة الأصغر منهم سناً. وعندما يظهر شعور بالندم، تنبعث قشرة المخ الحزامية المسؤولة عن التواصل ما بين العواطف واتخاذ القرارات العقلانية لدى المسنين الأكثر سعادةً. واستنتج الباحثون أن تنشيط هذه المنطقة يعني أن الراشدين الأكبر سناً تمكنوا من التغلب الإيجابي على مشاعر الندم لديهم بعقلنتها وتبريرها لمصلحتهم. وقد يكون هؤلاء المشاركون برأوا أنفسهم من مشاعر الندم عبر إخبار أنفسهم بأن ما حصل وقع لسبب لا يد لهم فيه، أو لأن المحكمين وجهوا اللعبة في اتجاه معين ولم يتحلوا بالنزاهة الكافية، فتراءت لهم قراراتهم وخسارتهم وكأنها لا تدعو إلى اللوم ولا الندم ولا الحسرة
وختمت الدراسة بالإشارة إلى أن الندم على قول أو فعل أو شيء يستحق الحسرة والأسى يُولد ردود فعل إيجابية في مرحلة الشباب، بينما يُولد الكآبة والتعاسة في مرحلة الشيخوخة