الغضب وتر الحياة المشدود
ترتبك الأفكار في عقولنا، وكأن خلايا الدماغ في حرب صامتة تنذر بفوران هائل. وتبدو كفوهة بركان خرج عن سكونه. إنها توليفة سمات خاصة ترسمها تنوعات ثورات الغضب والتي تتجسد ملامحها، بألوان شتى، فتتمثل عيوناً محمرة ووجنات شاحبة. فذبول طاغ ورجفة في أطراف الجسد، وشعور ببرد قارس يسري في الحنايا والوجدان.. إنه الغضب، ذاك المتنفس الإنساني الوحيد الذي يحمي الإنسان من نفسه وممن حوله،من أسرة ومجتمع وأوطان
لا يقل غضب الإنسان، في قوته، عن غضب الطبيعة، عندما تثور وكأنها تريد ترتيب العالم مرة أخرى وتخرجه من عشوائيته وجموحه
ربما يعد الغضب الإنساني، في ظاهره سلبيا، ولكن جوهره إيجابي يعكس التمرد على كل ما هو فاشل وسلبي وخطأ.. وأسمى نوبات الغضب هي تلك التي يغضب فيها الإنسان من ذاته.. من نفسه الكامنة في ضعف بين الضلوع.. هنا فقط لابد وأن نلجأ الى بعض الغضب وبعض الجنون، حتى لا نرى ضوء الصباح ناراً في العيون. يعد الغضب جانباً شعورياً مهماً في حياة الإنسان
فهو يتوزع بين نوعين: السلبي والإيجابي. ويكون، حين ينحدر إلى السلبية، نوعاً من عدم السيطرة على الإنسان وكل ما حوله.. وكأن الكابح الطبيعي داخل الإنسان قد تعطل لفترة محددة، ليغدو معه كسيارة مجنونة تسير دونما اتجاه. فتجوب المكان لتحصد الجميع أمامها
شعور انفعالي
يعرف الطب النفسي الحديث، الغضب، بأنه نوع من المشاعر الانفعالية التي تظهر غالباً مع استمرارية وقوع الأخطاء، وقلب الحق إلى باطل. وتجريد الإنسان من إنسانيته، سواء على المستوى الأسري أو الاجتماعي، أو داخل الوطن الواحد
ويوضح دكتور خالد برايم الاستشاري في علم السلوكيات، من جامعة فرانكفورت في ألمانيا، أن الغضب يظل مُسيطراً على الإنسان في حالة الشخصيات العقلانية، التي تلجأ إلى التحليل والبحث عن الرؤية المضادة ومناقشتها. وهنا يكون الغضب أكثر من إيجابي، حيث يخرج من دائرة الانفعال الشخصي إلى الانفعال من أجل الجماعة الكلية التي تشكل المجتمع
وهو البنية الأساسية للأوطان، وهنا تطل الحلول البناءة، ولكن يختلف الأمر تماماً في حالة الإنسان المفرط في الحساسية ورومانسية التكوين. فيرتد الغضب ليتحول إلى مشروع شخصي، يثور فيه الإنسان على كل من حوله وعلى نفسه أحياناً
ولكن هناك تفسيرات أخرى في مجال علم الاجتماع، وفي هذا الصدد، تقول الدكتورة باتريس ليفش، المتخصصة في علم الاجتماع السلوكي في جامعة ميريلاند بالولايات المتحدة، ان تفسيرات الغضب تنحصر في سياق الخلل الكيميائي في الدماغ. وهو ما يحدث عنه ثورة مزاجية هدامة، فيخرج الإنسان عن هدوئه النسبي، إذا كان متوافراً
فيتحول إلى هياج مرضي أحياناً، نجده يتسرب من بين خطوط حمر وضعها الإنسان لنفسه. ويتصرف في ضوئها، وتوضح ليفش ذلك، مبينة أن الخطوط الحمر هذه، تشكل نقاط ضعف لا شعورية في دواخل الإنسان، فإذا مسّها أحد مصادفة، يثور الإنسان.. يغضب
وتتغير ملامحه، وتكون ردود أفعاله مصحوبة بالعنف الجسدي، فيمكن أن ينهال ضرباً على نفسه، وعلى كل من حوله.. وهنا لابد من البحث وراء تلك الخطوط الحمر المتوهجة غضباً.وفي ظل ذلك، يسيطر على الإنسان الجنون.. ويهون كل شيء لديه، فيبدأ بالتصرف العدواني وبالتطاول عبر الصوت والركل بالأقدام
فيخرج الصوت متحشرجاً كما نبرات الموت.. فيرى كل شيء من حوله، سلبياً. فيدق الجدار والأبواب كالوباء، فيخرج عن التصنيف الإنساني. إن العقل يخمد كلما ارتفعت الحناجر. ترجح بعض التحليلات ان الغضب المرضي، ينتج ربما، بفعل عدم التربية على ثقافة تقبل الغير بهدوء، وكذا النفس ذاتها.. فالغضب هنا هو الخارج من تحت عباءة عدم الرضا، والبعيد عن القناعة
ثقافة الغضب
لا يحدث الغضب فجأة، ولكنه يأتي من جراء تراكمات، يتكدس بعضها فوق بعض، وتبدو كأنها صخور نارية في جوف الإنسان. وهنا فقط لابد من سؤال: ما مسببات الغضب؟. أُنجــزت دراسة مهمة متخصصة في مجال ثقافة الغضب، وهي للباحثة البريطانية الدكتورة ليندا بيلوس، مديرة «معهد التماثل والتنوع» في لندن، وجاء في هذه الدراسة، والتي نُشرت في الدوريات العلمية على امتداد العالم
الغضب لا يحدث من أناس كثر في المجتمع، وإنما يحدث بسبب مجموعة قليلة لها نفوذ على سرب كبير يفتقر إلى ثقافة كبح النفس وغياب الحوار، وأيضاً تقبل الآخر، وهنا يكون الغضب كبركان هادر. كما ذكرت الدراسة أن الغضب يبدأ لدى القلة النسبية من الناس الذين تصوروا أنهم أحرار في أفكارهم ويمكنهم التعبير عن ذلك بوضوح، ولكنهم كانوا دائماً الكفّة الأضعف لأسباب نفسية واجتماعية
وكذلك وراثية تلعب الجينات فيها الدور الرئيس، ولكن الغضب الوراثي الهوس، كما يطلق عليه علماء النفس، لا يتعدى الــ30% في الدول النامية، ولكنه يزيد على 40% في الدول المتقدمة التي تحترم الفكر والثقافة الآتية من الآخر، ولكن هناك ضغوط تتسم بها الشخصيات في مثل هذه المجتمعات، منها الشعور الدائم بالخصوصية، والتي إذا ما خدشت أو قل منسوبها. فالغضب عارم وطاغ ومجنون. ومن هنا، ربما أنه سرعان ما يتحول الغضب في تلك المجتمعات، إلى غضب إيجابي يتقدم معه الإنسان والمجتمع معاً
ويزداد الغضب دائماً مع ضياع الحقوق، فتتكون داخل الإنسان مشاعر التدني، فيبدأ الرثاء للذات بدافع الشعور بالظلم وعدم المساواة، وهي المشاعر التي ربما كانت مسيطرة على المرأة بصفة خاصة في المجتمعات الذكورية، في مطلع القرن الماضي، والتي أخذت في الانحسار كلما تقدم الوقت، وظهرت بالتالي ثقافة الندية النسبية
حلول
يؤكد الدكتور يحيى الرخاوي، استشاري الأمراض النفسية والعصبية في جامعة عين شمس بالعاصمة المصرية، إنه إذا كانت مشاعر الغضب وراثية لابد من تعديل المنهج الأسري والمجتمعي في النطاق الضيق الذي يعيش فيه هؤلاء الغاضبون
وأن تثبت لهم مشاعر الاهتمام بهم، ومن ثم يُمنحوا حقوق التعبير عن أنفسهم، ويتاح لهم إخراج شحنة الغضب من داخلهم حتى لا تتكاثر ويصبح الوضع مأساوياً، لأن هؤلاء المرضى الذين تركوا من دون علاج، وظلوا في بيئة قاسية، غالباً ما ينتهون بالانتحار، وهناك العديد من المجتمعات في الدول النامية والغرب أيضاً، تحاول «فلترة» شحنة الغضب من داخل هؤلاء الغاضبين، بجعلهم يشاركون في العمل التطوعي العام، حتى يشعروا بأهميتهم
وهو عمل جماعي يسحب المشاعر السلبية من الإنسان، ذلك أن الشعور الجماعي عادة ما يقلص النظرة الفردية. وأما عن شحنات الغضب غير الناتجة عن ذلك، فيوضح الدكتور الرخاوي، أنه لابد من إيقاظ ثقافة التحكم في الذات، والحرص على أن لاّ نثور لأتفه الأسباب وأصغرها، لأن ذلك يضعف الجهاز العصبي المركزي، ويضع الإنسان عصبي المزاج والجامح الغاضب، على الحافة دائماً
وهذا لا يتأتى إلاّ بالتدريب المستمر على كبح جماح النفس، عن طريق العلاج النفسي الجماعي. ويجب ان نتبنى منهج الانشغال بكل ما هو غير منحصر بالذات، حتى لا تثور، لأن الاهتمام الأوسع، وخاصة إذا كان مؤثراً في المجتمعات أو حتى في نطاق الأسرة، يعتبر في حد ذاته كابحاً تلقائياً للنفس البشرية