الأسرة في غربة
د. عبداللطيف العز
درسنا في أيام الجامعة أن الأسرة هي نواة المجتمع، وعرفنا الفرق بين الأسرة الممتدة والأسرة النووية، فالأسرة الممتدة تحتوي على أب وأم وجد، وجدة، وأبناء، وأحفاد يعيشون جميعاً في بيت واحد، تتسم الحياة فيه بمراقبة سلوك الأفراد والحث على الالتزام بالقيم والعادات والتقاليد الاجتماعية، فيشعر أفراد هذه الأسرة بالأمن نتيجة قوة الترابط والتماسك فيما بينهم. وحين صرنا في عصر التقدم الصناعي ظهرت معه حاجة التوسع، وإلى الأيدي العاملة، فأصبح الكثير من الأبناء مستقلين عن أسرهم، بسبب التحاقهم بوظائف في مختلف الأماكن، وبالتالي زواجهم، ما استدعى مع هذا استقلاليتهم في بيوت خاصة بهم غالباً من تكون بنفس مكان عملهم أي بعيداً عن بيتهم الأول مع آبائهم وأمهاتهم وإخوانهم، وهذا ما أدى مع الأسف إلى تقلص الأسرة الممتدة. ومع زيادة مشاغل الحياة أصبح الآباء لا يرون أبناءهم ولا إخوانهم وأخواتهم إلا في إجازات نهاية الأسبوع، والأعياد، أو المناسبات السعيدة والمؤلمة على السواء
وأخذ الأمر يزداد سوءاً في مسألة الترابط الأسري والعلاقة بين أفراد الأسرة النووية، فمشاغل الحياة أخذت الأب بعيداً عن زوجته وأبنائه، لدرجة أن بعضهم يخرجون من بيوتهم قبل استيقاظ الأبناء لمدارسهم، ولا يعودون إلا بعد نومهم
وكثير منهم لا يدرك ذلك، وإن أدركه وضع لنفسه الأعذار قائلاً: «أنا أعمل لأجلهم، ولأجل أن أحقق لهم الحياة الرغيدة، وأبني لهم مستقبلهم، وما هي إلا سنوات قلائل وأعود إليهم كما كنت»، وتمضي السنون كلمح البصر، فلا يشعر إلا وهو على مشارف العمر، وقد اشتعل الرأس شيباً، وأبناؤه قد وصلوا لمرحلة الاستقلالية، فيجد نفسه وحيداً، يعاتب أبناءه لعدم جلوسهم للحديث معه. كم هي لحظة مؤلمة، فهي نتيجة ما زرعه من إهمال وقلة اهتمام وقلة حب وعدم احتواء واحتضان لأبنائه
ولعل وسائل التواصل وثورة الاتصالات زادت الطين بلة، حيث شغلت أفراد الأسرة عن التواصل النظري والجسدي والشعوري والفكري والكلامي، فأصبحنا نجد الأب منشغلاً في الحاسب الآلي والأم متسمرة أمام شاشة التلفاز، والأبناء كلٌ مبحرٌ في عالم المحادثات الكتابية عبر وسائل التواصل الاجتماعية في الهواتف المتحركة الحديثة، فقتل الحوار وقتل الاندماج والتفاعل وضعف الترابط الأسري
يحدثني أحدهم عن رجل كبير في العمر حدثه فقال: كنت عندما أتحدث يستمع لي كل من في مجلسي من أبنائي وأقاربي وضيوفي، والآن أجلس بينهم ولا أجد من يستمع لي إن تحدثت، فالكل يلهو في هاتفه المتحرك
عزيزي القارئ إن المشهد الذي ذكره الرجل عن حالته يتكرر في كثير من البيوت والمجالس، إنه لأمر محزن أن تجد نفسك بين أهلك وأبنائك غريباً لا تجد من يُقبلُ عليك إذا دخلت، ولا من يسأل عن أحوالك، ولا تجد من يلبي لك متطلباتك، ولا من يستمع لحديثك