موت النظام التعليمى التقليدى بقلم د. خليل فاضل ٤/ ١١/ ٢٠١٠ |
إن (موت النظام التعليمى) فى مصر الآن هو محصلة حتمية لحال المجتمع، وما حدث ما هو إلاّ تأصيل وتقنين للفردية، السعى إلى إصابة الهدف بقليل من المجهود، واختزال العلم فى إجابات عن الأسئلة بعيداً عن الروح النقدية. أعتمد هنا على دراسة (لعادل حدجامى) تخص التعليم فى فرنسا ومطالعات (لريجس دوبريه). قبيل عامين كتبت فى (المصرى اليوم) عن القضية ذاتها وفى ظل التطورات التى يشهدها النظام التعليمى المصرى، مع كل تحفظاتنا عليه من باب أن فيه روح القسوة لا الإدارة والتنظيم، روح الخوف لا الرغبة فى التغيير، تقنية القَصّ واللّصْق، بمعنى عدم وضوح خطة محددة، لا مجرد تصورات تطبق حسبما اتفق، وحتى أعفى التعليم المصرى من حزنه أو إحساسه بالذنب، فإن التعليم بشكله التقليدى فى العالم كله تقريباً فى محنة ويحتاج إلى إعادة صياغة، إلى ثورة تحتية، تفككه لتبنى صرحاً جديداً يعتمد على الإنسان. المدرسة الحكومية الآن فى محنة شملت دولاً عُظمى كفرنسا وأمريكا، وطالت دولاً أخرى كتشيلى، نعم هناك أزمة مُستفحلة للمدرسة، ففى ٢٩ يوليو ٢٠١٠ أعلن باراك أوباما خططه للإصلاح التعليمى مؤكداً أن النمو الاقتصادى للبلاد لن يتحقق إلا بمدارس البلد، ورصد لذلك٤.٣٥ مليار لتحقيق أفضل البرامج التعليمية محدداً المدارس الضعيفة والإدارات المريضة والمناطق الموبوءة بضعف التعليم والمُتعلم والمُعلم، وقال أوباما إن هدفه ليس طرد المعلمين أو إذلالهم أو الحَطّ من شأنهم، لكن هدفه هو الالتزام والاهتمام، المرجعية لمنهج علمى مدروس للتطوير، بدون أهواء أو مزاجيات أو حتى انفعالات، وأنه لن يقبل بأى سياسة للأمر الواقع، مؤكداً على أن الولايات المتحدة أصبحت متأخرة عن دول أخرى كثيرة فى التعليم، وقال (إذا كنا نريد النجاح لبلدنا فلن نقبل بالفشل فى مدارسنا). هل عرفنا قدر أنفسنا؟ إننا فى مصر فى أزمة خطيرة، ولا نملك إمكانيات الدول المتفوقة علمياً وتكنولوجياً، والأمر لدينا أصعب وأشدّ قسوة، هذا لا يعنى أنه يستعصى على الحل، لكنه يعنى أن المسألة أعمق وأشدّ، وأن القتال من أجل استعادة البناء التعليمى لجموع الناس سيكون أشدّ ضراوة. إذن لا داعى للإنحاء باللائمة على جذور الأمر فحسب منذ نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات عندما كنا نتفوق على كوريا الجنوبية تعليمياً، الآن هى تتفوق على أمريكا فى مجالات علمية تعليمية عالية التقنية مثل مادة الرياضيات Math عصب العلم الحديث ونواة التفوق، فى تلك الفترة أهدرنا الطاقة والمال على الحروب والعنتريات وعبادة الفرد والغرق فى الشعارات الجوفاء، كما أنه لا يجب أن نلوم هذه الأجيال، لاحقتها والقادمة عليها لأنهم أبناؤنا نحن الذين ربيّناهم وعلّمناهم، ولأن أولادنا ليسوا مجرد قطيع من العَجزة الحافظين «صَمّ»، وليسوا فاسدين قيمياً ومعرفياً وإنسانياً، فهم لهم حياتهم وعمرهم وعالمهم وكونهم، ولهم فرصهم وحياتهم ووجودهم، ولابد من الاستثمار فيهم. أما عن المدرس الضلع الثانى للتلميذ فى مثلث (التلميذ، المدرس، وليّ الأمر)، فلا يجوز أن نجلده جلداً، أو نُعنِّفه، ولا أن نلين معه؛ فهو غير مسؤول- بالطبع- عن تخلف نظام بأكمله، لأنه مجرد ترس فى آلة ضخمة مترهلة، ومُنفِّذ لسياسات وهو ليس رسولاً، إنه إنسان له مشاكله وهمومه، وهو فى النهاية كما يقول حدجامى تلميذ سابق ومنتوج لمجتمعه. النظام التعليمى الحكومى فى مصر تحديداً جزء من نظام الدولة ومؤسسة من مؤسساتها، وتخلُفه بل وتردّيه الشديد، مرتبط بتدنى الذوق الفنى، وحوادث الطرق البشعة، بهبوط المستوى الأخلاقى وعدم القدرة على الإتقان، الخلل الشديد الذى أصاب الأمة والناس، ونخر هيكلة الدولة فى مبانيها وكراسيها وفصولها وعلاقات الناس ببعضهم البعض، زحف برأس المال الطُفيلى، وظهور الفئات الفظّة والفجّة وشراء الذمم وشراء الشهادات، تفشّى الواسطة والمحسوبية والغش والتدليس وسرقة المال العام، ووضع اليد على الأرض والعرض بطول وعرض مصر! المدرسة، مدرسة، لها ما لَها وعليها ما عليها، تنقل وتُرسخ وتُربى وتُعلم وتستمد وجودها من تراكم خبرات الأجيال، والمُدرس هنا مُبِّلغ له وسائله، أهمها اللغة وعناصره الكتاب والكراسة والسبورة، زمن كالسلحفاة، عقيمٌ مُملّ لا يحمل ابتكاراً. (ترى حين أفقأ عينيك.. أثبت جوهرتين مكانهما، هل ترى.. هى أشياء لا تُشترى).. تُرى حين يسجل ابنك «غياب» لأن تحية العلم فاتته فهل يعنى ذلك تنمية الانتماء للوطن؟ تُرى حين أقضى على الدروس الخصوصية والكتب الخارجية قدر الإمكان؟ تُرى سأُعطى النظام التعليمى العمومى قُبلة الحياة؟ لا أعتقد. المدرس وولى الأمر، البيت والمدرسة هما المسؤولان عن تشكيل الطفل وتحويله إلى مواطن درجة أولى أو عاشرة، مريض أو آلة أو لص أو عبيط أو حَلنْجى أو فهلوى أو إرهابى أو بلطجى أو مُتحكم فى غرائزه مُستخدم لطاقاته، مؤهل للانخراط فى مجتمعه ومتفهم لاحتياجاته وله رؤية فى مستقبله ومستقبل البلد. هذا هو دور المدرسة تخريج مواطنين نافعين، هذا الأمر الآن محل ريبة وشك، مُهتز، لأن السينما والتليفزيون والفضائيات والكوفى شوب والنادى سرقوا الدور المنوط، وطُردت المدرسة والمدرس والتعليم وصار الأمر كلُّه ملكاً للإعلام. ثورات العالم فى القرن الفائت تكنولوجية وإلكترونية ورقمية، مما حوّل وعى الانسان المُعاصر وبدّل من سلوكه، ووسائله وإمكانياته، نُضج فى قيمه وتصوراته. تواصل الناس وتبادلوا المعرفة والمعلومات، الأخبار والأحداث، طرق العلاج ومكونات الأشياء، مما حدَّد المسافات والوقت وعلاقات الفرد بالآخر داخل بيته وعبر الأثير وفى كل الكون. أتاحت ثورة الديجيتال انتشار الفضائيات واستخدمت السماوات المفتوحة كُليةً. لقد تعودنا نحن المصريين على (الخُلاصة) (الزُبَد)، (البهاريز) بأقل مجهود أو بدون مجهود لقد تعود المصرى على الاختصار والاختزال وتسطيح الوعى، نظام (حلَّق حوش)، تعوّد عشق النهايات السعيدة (فى الكورة والامتحانات والعلاقات الانسانية)، لا تهمّه عملية صُنع النجاح، وهذا اتجاه خطير للغاية لأنه يصنف الأعمال والناس والدنيا والدين إلى ضِدّين، يا إما الناجح يرفع إيده أو الساقط فى صفيحة الزبالة، كليات القمة أو القاع، يا إما عملاق أو قزم عاطفى متفوق دراسياً يعانى من أمية ثقافية اجتماعية حادة. لا بد من السعى لتماسك اللُحمة الاجتماعية، روح الفريق، التربية على المواطنة. إعلان تامر وشوقية عن منتج كورى يُصَنَّع فى مصر، يُطمئن الزبون بأن فريق الصيانة الكورى موجود فى مصر، جارح للغاية.. فلنستثمر فى أنفسنا وأولادنا.. قبل قراراتنا وأجهزتنا ومبانينا وأغانينا الفرحانة جداً وبرامجنا الساذجة للغاية. |
ساحة النقاش