في مواجهة دعوي تاريخية القرآن
بقلم: د.محمد عبدالفضيل القوصى
حين كان بعض المستشرقين يتوجهون بسهام النقد إلي الإسلام عقيدة وشريعة وتاريخا وحضارة‏:‏ كانوا يفعلون ذلك من‏'‏خارج‏'‏ دائرة الإسلام‏,‏ إما بدافع العداء للدين بوجه عام‏,‏ أو بدافع العداء الصريح للإسلام وحده بوجه خاص‏:‏ في علانية‏,‏ لا مواربة فيها ولا مماراة‏.‏

 

لكن فريقا من سدنة التنوير‏_‏ في مشرق العالم الإسلامي ومغربه‏:‏ لا يسلكون في تفكيرهم هذا المسلك‏,‏ بل يعمدون إلي كيان الإسلام كله‏_‏ كما وعته الأمة بسلفها وخلفها‏,‏ وعلمائها ومحققيها علي مدي القرون فيزعمون أن تلك الأمة‏_‏ التي ضمن الرسول الكريم‏-‏ صلي الله عليه وسلم‏-‏ ألا تجتمع علي ضلالة‏_‏ قد غفلت عن الفهم الصحيح لهذا الكيان الشامخ‏,‏ ومن ثم فقد أضحي لزاما أن ينهض أولئك السدنة‏_‏ فيما يزعمون‏_‏ لتجديد هذا الفهم وتصحيح مساره‏,‏ وذلك بابتداع‏'‏ قراءات حداثية‏'‏ للإسلام تنطلق من منطلقات مناقضة لتلك التي استقرت في وعي الأمة‏,‏ بحيث تأتي عليها من القواعد‏,‏ حتي لقد اجترأ بعض أولئك السدنة علي تسمية تلك القراءات المستحدثة‏:'‏ الوجه الثاني‏'‏ للإسلام‏,‏ أو‏'‏ الرسالة الثانية‏'‏ للإسلام‏!!.‏
في هذا المناخ الخادع برزت قضايا التنويريين الزائفة في بشرية القرآن‏,‏ و‏'‏تأنسن القرآن‏',‏ و‏'‏القراءات الجديدة‏'‏ للنص المقدس‏,‏ وغيرها من الأضاليل المفتراة التي يرتبط بعضها ببعض‏,‏ والتي تهدف في مجموعها إلي إخضاع النصوص الثابتة من الكتاب والسنة للأفهام البشرية الذاتية المتغيرة‏,‏ ووضعها تحت رحمة السياقات الاجتماعية السائدة‏,‏ لتكون تلك النصوص محكومة بأفهام البشر‏,‏ خاضعة للظرف الاجتماعي السائد‏,‏ مما يؤدي في النهاية إلي محو كل ما لتلك النصوص المقدسة من دلالات أصيلة راسخة‏,‏ وتشريعات إلهية ثابتة‏,‏ وهاهو أحد أولئك السدنة يقول بالنص الحرفي‏'‏ إن الخطاب القرآني خطاب تاريخي لا يتحقق إلا من خلال التأويل الإنساني‏,‏ وهو خطاب لا يتضمن إطلاقية المطلق‏,‏ ولا قداسة الإله‏'!‏
ثم تأتي دعوي تاريخية القرآن لكي تكون لبنة في هذا البناء المتصدع‏,‏ فالقرآن الكريم ـ طبقا لهذه الدعوي ـ مرتبط أوثق ارتباط بأسباب نزول آياته‏,‏ وتاريخ نزولها‏,‏ مما يعني في هذا الفهم الكليل‏:‏ أن جميع آيات القرآن الكريم موجهة ومحددة بأناس معينين‏,‏ وبتاريخ معين في زمن معين بحيث لا تجاوز مدلولات تلك الآيات الكريمة هذه الحدود قيد أنملة‏,‏ وحينئذ يصبح من حق من هو خارج هذه الحدود أن يفهم من تلك الآيات ذاتها فهما آخر‏,‏ وفقا لظروفه ومواضعاته السائدة‏!!‏
إن خطاب القرآن الكريم إلي‏'‏ الناس‏'‏ ـ كما يدعي أحد سدنة التنوير بالنص الحرفي ـ لا يصح أن يتوجه إلي البشرية جميعا في كل زمان ومكان‏,‏ بل المقصود بالناس ـ كما يتابع ـ الجماعة الأولي التي كانت تحيط بالنبي‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ والتي سمعت القرآن من فمه لأول مرة‏,‏ وحينئذ ينبغي أن يترك مفهوم الإسلام وتراثه مفتوحين وغير محددين بشكل نهائي مغلق‏,‏ لأنهام خاضعان للتغير المستمر الذي يفرضه التاريخ‏)!!.‏
هذه الدعوي المضللة تثير قضايا عدة‏,‏ يفضي بعضها إلي بعض‏:‏
أولاها‏:‏ إنه بمقتضي دعوي تاريخية النص القرآني‏,‏ يصح لكل فرد‏,‏ في كل زمان أن يفهم التشريع الإلهي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه‏:‏ فهما مناقضا لأفهام سلف الأمة وخلفها‏,‏ فيكون للنص القرآني أفهام متعددة بعدد قارئيه‏,‏ وقراءات شتي بحسب ظروفهم الاجتماعية والتاريخية ومواضعاتهم الثقافية واتجاهاتهم الفكرية‏,‏ بل يصبح لكل فرد بذاته‏:‏ قراءات بعدد تقلب مزاجه‏,‏ وتموج ميوله‏,‏ وهذا أحد سدنة التنوير يقول بالنص الحرفي‏(‏ إن قراءة النص الديني التي أحلم بها هي قراءة حرة إلي درجة التسكع‏!!,‏ إنها قراءة تجد فيها كل ذات بشرية نفسها‏),‏ بل لقد وصلت الجرأة بأحدهم إلي الدعوة إلي ترك الحرية للمسلم يتعبد بالصيغة التي يراها‏,‏ وبالطريقة التي تختلف عن طريقة التعبد عند الآخرين‏!!.‏
وإذا كان الأمر علي هذا النحو من الذاتية والنسبية والزئبقية‏..‏فما الحاجة إذن إلي وجود النص المقدس ذاته‏,‏ وقد قضت تلك الدعوي المضللة علي موضوعيته وثباته وعموميته القضاء المبرم‏,‏ ولماذا لا يترك الناس منذ البدء بلا هدي ولا كتاب منير‏,‏ يضعون لأنفسهم ما شاءت لهم أنفسهم من العبادات والتشريعات علي النحو الذي يشتهون؟
ثانيتها‏:‏ إنه بمقتضي تلك الذاتية والفردية التي ينظر التنويريون بمنظارها إلي النص القرآني‏:‏ يصبح هذا النص القرآني ـ وحاشاه ـ فارغا من كل مضمون‏,‏ وقابلا لأية تصورات تقحم عليه مهما كان شذوذها وضلالها‏,‏ بل ينتهي به هذا العبث المرفوض إلي مجرد‏'‏ نصائح عامة وإرشادات فضفاضة‏'‏ يفهمها كل امرئ علي ما يريد ويشتهي‏!!‏
فأين إذن تلك المهمة الرسالية للوحي المنزل؟ تلك المهمة التي تقتضي منه أن يكون حاكما علي تصرفات البشر وموجها لأنماط سلوكهم‏,‏ كما تقتضي منه أن يكون ضابطا لأهوائهم؟ ثم أين تلك‏'‏ العمومية‏'‏ التي أناطها القرآن الكريم بالإسلام بحكم خاتميته للرسالات طرا‏,‏ والتي صدع بها الرسول الأكرم في قوله تعالي‏(‏ قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا‏)‏ ؟
ثالثتها‏:‏ إن تذرع سدنة التنوير‏'‏ بعلم أسباب النزول‏'‏ يثير العجب من جرأتهم علي تشويه مسلمات هذا العلم وقواعده الراسخة‏,‏ فلقد انتهي ذلك العلم ـ بعد الاستقراء التام للخطاب القرآني ـ إلي أن أسباب النزول إنما هي‏'‏ مناسبات‏'‏ لتنزل الآيات‏,‏ لكن تلك الآيات حين تتنزل فإنها تعم البشر أجمعين‏,‏ في سائر الأزمنة والأمكنة‏,‏ دون أن تقتصر علي أشخاص من نزلت بشأنهم‏,‏ وإلا فأين الآيات القرآنية الكريمة التي تخاطب‏(‏ الناس‏)‏ و‏(‏ بني آدم‏)‏ و‏(‏ العالمين‏)‏ ؟؟
لقد نزل‏_‏ مثلا‏-‏ قوله تعالي‏(‏ وسيجنبها الأتقي‏)‏ في أبي بكر رضي الله عنه ليبشره بالنجاة من النار‏,‏ جزاء وفاقا علي بذله المال الوفير لوجه الله تعالي‏,‏ أفيمكن أن يستسيغ الفهم المستقيم أن هذه البشري قاصرة علي أبي بكر فحسب‏,‏ وخاصة به وحده‏,‏ أم أن هذا الفهم المستقيم يتجه إلي أن هذا حكم عام ينطبق علي كل من صنع مثلما صنع الصديق‏,‏ وبذل مثلما بذل‏,‏ وأن الحكمة من ذكر هذا الأمر‏'‏ الخاص‏':‏ إنما هي حث الناس‏'‏ عامة‏'‏ علي أن يقتدوا به ويحتذوا حذوه؟
من هذا المثال وغيره استنبط العلم الإسلامي الرصين‏,‏ تلك القاعدة الثمينة‏,‏ وهي أن‏(‏ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب‏)‏ مثلما استنبط النحاة من أقوال العرب الخلص‏:‏ أن الفاعل مرفوع‏!‏
بيد أن تلك القاعدة الثمينة ـ التي ما انفك التنويريون يثيرون حولها اللغط ـ مصدر فخار للإسلام وتشريعاته المنزلة‏,‏ لأنها تجسد شمولية نظرة الإسلام التشريعية والخلقية الهادية للبشرية بأسرها‏,‏ دون أن يتوقف سريانها وانسيابها عند جنس بعينه أو جماعة بذاتها‏,‏ أو زمن لا تتعداه إلي غيره‏.‏
ثم ألا يدرك التنويريون أن انحصار الأحكام الشرعية المنزلة في أشخاص من نزلت بشأنهم دون سواهم كما يدعون‏:‏ إنما يعني أن شريعة الإسلام تفرق بين المتماثلين‏,‏ وتحابي بعضهم دون بعض‏,‏ ثم ألا يعني ذلك الانحصار تقطيعا لأوصال القيم الخلقية التي تقوم علي المطلقية والعمومية؟؟
بل إنني أقول‏:‏ إن تلك القاعدة الثمينة تنهض دليلا ساطعا علي‏'‏ وحدة التشريع‏'‏ التي تدل بدورها علي‏'‏ وحدانية منزل التشريع‏'‏ الذي يستوي عنده البشر جميعا‏:‏ أمرا ونهيا‏,‏ ورحمة وعدلا‏,‏ وصدق الحق سبحانه إذ يقول‏(‏ ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن‏).‏
 

 

المزيد من مقالات د.محمد عبدالفضيل القوصى<!-- AddThis Button BEGIN <a class="addthis_button" href="http://www.addthis.com/bookmark.php?v=250&pub=xa-4af2888604cdb915"> <img src="images/sharethis999.gif" width="125" height="16" alt="Bookmark and Share" style="border: 0" /></a> <script type="text/javascript" src="http://s7.addthis.com/js/250/addthis_widget.js#pub=xa-4af2888604cdb915"></script> AddThis Button END -->
azazystudy

مع أطيب الأمنيات بالتوفيق الدكتورة/سلوى عزازي

  • Currently 30/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
10 تصويتات / 79 مشاهدة
نشرت فى 16 أكتوبر 2010 بواسطة azazystudy

ساحة النقاش

الدكتورة/سلوى محمد أحمد عزازي

azazystudy
دكتوراة مناهج وطرق تدريس لغة عربية محاضر بالأكاديمية المهنية للمعلمين، وعضوالجمعية المصرية للمعلمين حملة الماجستير والدكتوراة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

4,792,246