365... وكان أمر الله قدرا مقدورا...... الأحزاب38
بقلم: د. زغلول النجار
هذا النص القرآني الكريم جاء في مطلع النصف الثاني من سورة الأحزاب, وهي سورة مدنية, وآياتها ثلاث وسبعون(73) بعد البسملة,
وقد سميت بهذا الأسم لورود الإشارة فيها إلي غزوة الأحزاب, والأحزاب تكونت من كفار قريش الذين جاءوا من جنوب بلاد الحجاز, وممن تجمع معهم من القبائل من مثل قبيلتي غطفان وأشجع الذين جاءوا من شمال بلاد الحجاز, وتحزبوا لمحاربة المسلمين, وقاموا بمحصارة المدينة المنورة في السنة الرابعة للهجرة, فأمررسول الله- صلي الله عليه وسلم- بحفر خندق حول المدينة دفاعا عنها ضد حصار الكفار والمشركين الذين دام نحو الشهر ثم أرسل الله- تعالي- علي أحزاب الكفار المحاصرين للمدينة ريحا عاصفة وجنودا من الملائكة فاضطروا إلي فك الحصار وإلي الفرار بعيدا عن المدينة طالبين النجاة فرجعوا إلي ديارهم بخيبة الأمل.
ويدور المحور الرئيسي لسورة الأحزاب حول الوصف التفصيلي للغزوة التي سميت باسمها وما كان فيها من خوف واضطراب وما تم في نهايتها للمسلمين من نصر تحقق به وعد الله.
وبالإضافة لذلك أوردت السورة عددا من التشريعات والآداب الإسلامية وتحدثت عن الآخرة وأهوالها ونصحت بضرورة الالتزام بتقوي الله وختمت بالحديث عن الأمانة التي حملها الإنسان ولم يطق حملها أي من السماوات والأرض والجبال.
هذا وقد سبق لنا استعراض سورة الأحزاب وما جاء فيها من التشريعات وركائز كل من العقيدة والعبادات والأخلاق ونورد هنا الحديث عن ومضة الإعجاز التشريعي في الدعوة إلي الأيمان بقدر الله.
من أوجه الإعجاز التشريعي في النص الكريم
يقول ربنا- تبارك وتعالي- في محكم كتابه:( ما كان علي النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا)(الأحزاب:38).
نزلت هذه الأية الكريمة في التأكيد علي أنه ما كان علي النبي- صلي الله عليه وسلم من حرج فيما فرض الله تعالي له أي: فيما أحل الله سبحانه وتعالي له وأمره به من الزواج بالسيدة/ زينب بنت جحش رضي الله عنها بعد أن كان زيد بن حارثة قد طلقها من أجل أن يشرع الله جل جلاله تحريم التبني ويؤكد جواز التزوج بمطلقات الأبناء المتبنين تأكيدا علي عدم شرعية عملية التبني التي كانت سائدة في زمن الجاهلية ولا يزال الكثيرون من الجهلة بالدين يمارسونها إلي يومنا هذا.
وفي هذا السياق يروي ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله- صلي الله عليه وسلم- خطب زينب بنت جحش لزيد بن حارثة رضي الله عنهما فاستنكفت منه وقالت: أنا خير منه حسبا فأنزل الله تعالي-:( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضي الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا).( الأحزاب:36).
وإن كانت الآية أمرا عاما بطاعة أوامر الله تعالي وأوامر رسوله صلوات الله وسلامه عليه في كل أمر من الأمور فإذا حكم الله ورسوله بشئ فليس لأحد من الخلق مخالفته ولا اختيار لأحد ههناولا رأي ولا قول.
وتستمر الآيات بعد ذلك بخطاب من الله تعالي موجه إلي خاتم أنبيائه ورسله صلي الله عليه وسلم يقول له فيه:( وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشي الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضي زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون علي المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا* ما كان علي النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا).( الأحزاب:37ـ38).
وتشير هاتان الآيتان الكريمتان إلي أن رسول الله صلي الله عليه وسلم كان قد زوج زيد ابن حارثة بابنة عمته زينب بنت جحش الأسدية بأمر من الله تعالي بعد أن أنعم الله عليه بالإسلام وبمتابعة الرسول الخاتم صلي الله عليه وسلم ثم أنعم عليه رسول الله بعتقه من الرق وهو من أسرة عريقة ولكنه كان قد أسر صبيا صغيرا وبيع رقيقا في أسواق مكة فاشترته السيدة خديجة عليها رضوان الله- ووهبته لرسول الله صلي الله عليه وسلم- فأعتقه. وبعد زواج دام قرابة السنة وقع بين الزوجين خلاف فجاء زيد يشكوها إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم فجعل رسول الله يوصيه بأن يمسك عليه زوجه وأن يتقي الله فيها ولكن الله تعالي كان قد أعلم نبيه بأن ابنة عمته زينب بنت جحش ستكون من أزواجه من قبل أن يتزوجها وكان الله تعالي- قد أمره أن يزوجها من زيد بن حارثة ثم أنها سوف تطلق منه ليتزوجها رسول الله صلي الله عليه وسلم حتي يبطل ظاهرة التبني ويبيح للآباء الزواج من مطلقات الأدعياء وأن يعوض السيدة زينب بنت جحش عن الزواج من عبد طليق وهي من سادات قريش وأن يعوض ذلك العبد الطليق الذي كان قد أسر في طفولته وبيع رقيقا في أسواق مكة وهو من أشراف قومه. ولذلك عندما جاءه زيد شاكيا من زوجته أوصاه بالمحافظة علي بيته وهو يعلم أن ذلك لن يكون ومن هنا قال له الله تعالي( وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشي الناس والله أحق أن تخشاه). وكان ذلك كله بتقدير من الله تعالي حتي يؤمن كل مسلم ومسلمة بقضاء الله وقدره كركن من أركان الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره ولذلك قال تعالي-:( ما كان علي النبي من حرج فيما فرض الله له).( الأحزاب:38).
ومن معاني هذا النص الكريم أنه: ما كان علي رسول الله صلي الله عليه وسلم من حرج فيما أحل الله تعالي له وأمره به من الزواج بابنة عمته زينب بنت جحش بعد أن طلقها دعيه زيد بن حارثة من أجل التشريع أولا بتحريم التبني وثانيا بجواز زواج الآباء من مطلقات أدعيائهم وهو محرم في حالة مطلقات أبنائهم الشرعيين.
وقوله- تعالي( سنة الله في الذين خلوا من قبل). يؤكد أن هكذا كان حكم الله- تعالي في جميع الأنبياء الذي بعثوا قبل خاتمهم أجمعين فما كان الله سبحانه وتعالي يأمرهم بأمر فيجدوا حرجا في صدورهم من تنفيذ أمر الله وذلك لأن أمر الله تعالي- كائن لامحالة لا تستطيع قوة في الكون رفضه. وهذا هو صلب الإيمان بقضاء الله وقدره, والإيمان بالقضاء والقدر هو الركن السادس من أركان الإيمان.
والقضاء والقدر هما أمران متداخلان يكمل أحدهما الآخر فالقضاء هو الحكم بالكليات علي سبيل الإجمال في الأزل أما القدر فهو الحكم في وقوع الجزئيات للكليات التي قدرت في الأزل وقد يكون الأمر بالعكس بمعني أن القدر من التقدير أي: ما قدره الله تعالي- في الأزل أن يكون في خلقه وعلي ذلك يكون التقدير سابقا علي القضاء. وعلي أية حال فالقضاء والقدر أمران لاينفك أحدهما عن الآخر ويكمل أحدهما الآخر حتي إذا أطلق أحدهما منفردا فإنه يشمل الآخر ولعلهما أمر واحد يصف القرار الإلهي الذي لايحده أي من حدود المكان والزمان ولا تقوي أية إرادة للخلق المكلفين من اعتراضه ومن هنا كانت ضرورة التسليم به والرض عنه مهما كان ظاهره في غير صالح الإنسان لأن قضاء الله تعالي هو الحق كله والعدل كله والرحمة كلها وهو قضاء مقضي وحكم مبتوت لاراد له ولامبدل ولامغير ومن هنا وجب الرضا به والقناعة بعدله فمن صفات الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد: العلم المحيط بكل شئ والقدرة المطلقة علي كل شئ والإرادة الحاكمة لكل شئ فلا يخرج شئ عن علمه ولا يقف عائق أمام طلاقة قدرته ولا تستطيع إرادة خلقه المكلف الوقوف أمام إرادته فما شاء الله كان وما لم يشأ لن يكون. وهذا من ركائز التوحيد الذي علمه ربنا تبارك وتعالي لعبده آدم عليه السلام لحظة خلقه وعاشت به البشرية عشرة قرون كاملة وذلك لقول رسول الله صلي الله عليه وسلم-:( كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم علي شريعة الحق)( أخرجه الحاكم في المستدرك).
وفي ذلك يروي ابن عباس رضي الله عنهما أن رجالا صالحين من قوم نوح هلكوا فوسوس الشيطان إلي قومهم أن انصبوا إلي مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتي إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت( أخرجه البخاري في صحيحه).
وكانت هذه هي أول وثنية في تاريخ البشرية.
وبعث الله سبحانه وتعالي- مائة وأربعة وعشرين ألف نبي واصطفي من هذا العدد الكبير من الأنبياء ثلاثمائة وبضعة عشر رسولا كلهم دعوا إلي الإسلام القائم علي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره وعلي التوحيد الخالص لله الخالق سبحانه وتعالي-( بغير شريك ولا شبيه ولا منازع ولا صاحبة ولا ولد).
والإيمان بالقضاء والقدر جزء لا يتجزأ عن الإيمان بالله تعالي- وحده. وتنزيهه عن جميع صفات خلقه وعن كل وصف لا يليق بجلاله والتسليم بإحاطة علمه تعالي-: بكل شئ ونفاذ إرادته في كل أمر وتحكم قدرته في جميع خلقه.
ومن الإعجاز التشريعي في قوله تعالي-:(... وكان أمر الله قدرا مقدورا). أن الإيمان بالقضاء والقدر تسليم لحكم الله وإرادته إنطلاقا من الإيمان الراسخ بأنه لا سلطان في هذا الوجود كله لغير الله ـ تعالي شأنه- فكل شئ يجري بتقديره وحسب مشيئته وإرادته وتدبيره فالله ـ تعالي- لاراد لقضائه ولامعقب لحكمه ولاغالب لأمره وإذا آمن العبد منا بذلك عاش سعيدا علي هذه الأرض وإن كان أفقر الناس وأضعف الخلق وأحوج المخلوقين وإذا لم يؤمن بذلك كان أتعس الناس وإن كان أكثرهم مالا وولدا وأعزهم سلطانا وأقواهم بنية. ومن هنا تأتي ومضة الإعجاز التشريعي في الأمر بالرضا بقضاء الله وقدره. وهذا لايتعارض أبدا مع حقيقة أن الإنسان مخلوق مكرم أكرمه الله تعالي- بالعقل الذي يميز به بين الخير والشر وبالإرادة الحرة التي يستطيع أن يسلك بها أيا من الطريقين ولذلك فهو محاسب علي اختياره الذي يتخذه بإرادته الحرة علما بأن الإرادة الإنسانية داخلة في دائرة علم الله وقضائه وقدره وهذا لاينتقص من أجر الصالحين ولايبرر فساد المفسدين لأن لكل مخلوق مكلف أن يختار الصلاح أو الفساد بإرادته الحرة ومن هنا وجب الاستحقاق بالثواب أو بالعقاب لأن الحياة الدنيا هي دار تكليف واختبار وابتلاء ولا يتم ذلك إلا إذا كان المكلف مطلق الحرية في الاختيار بين الحق والباطل وبين الإصلاح في الأرض أو الإفساد فيها.
والإنسان كأحد الخلق المكلفين يتحرك في حياته الدنيا داخل دائرتين متمركزتين عليه: أولاهما هي دائرة إرادته الحرة التي هو مخير فيها بين الاستقامة علي منهج الله أو الخروج عليه وعلي ذلك فهو مكافأ أو معاقب علي أساس من اختياره. وثانيتهما هي دائرة قضاء الله وقدره والتي لا سلطان له عليها ولارأي له فيها, ومن ثم فلا يحاسب علي ما يحدث له فيها ولكن عليه إذا كان مؤمنا بالله إيمانا صادقا أن يرضي بقضاء الله وقدره رضا كاملا وأن يسلم بأن فيه الخير كل الخير حتي لو ظهر له أنه في غير الصالح بالمقاييس البشرية المحدودة لأن في ذلك تسليم لله الخالق بالألوهية والربوبية والوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه وإيمان بشمول علمه وكمال عدله ونفاذ إرادته وطلاقة قدرته.
والإيمان بالقضاء والقدر لايتنافي أبدا مع الأخذ بالأسباب التي أمرنا بالأخذ بها مع التوكل علي الله تعالي- حق التوكل والإيمان بأن بيده- سبحانه وتعالي- وحده ملكوت كل شئ.
والإنسان الذي يؤمن بقضاء الله وقدره يتحرر من العبودية لغير الله سبحانه وتعالي- لأنه يؤمن بأنه لاسلطان في هذا الوجود لغير الله الخالق البارئ المصور مقدر الأقدار ومصرف الأمور وإنسان هذا إيمانه لا تبطره النعمة ولا تهده المصيبة ولذلك قال فيه المصطفي صلي الله عليه وسلم-: عجبا لأمر المؤمن!! إن أمره كله خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن إصابته ضراء صبر فكان خيرا له( أخرجه مسلم في صحيحه).
فالرضا بقضاء الله وقدره يهدئ النفس ويطمئن القلب ويدفع بالطاقات الإنسانية من أجل حسن القيام بواجبات الاستخلاف في الأرض برضا وسكينة وراحة وطمأنينة بأن قضاء الله تعالي نافذ لا محالة وهو لا يأتي إلا بخير. وهنا تتضح ومضة الإعجاز التشريعي في قول ربنا ـ تبارك وتعالي-:(... وكان أمر الله قدرا مقدورا) حتي يرضي كل مؤمن بقضاء الله وقدره في تسليم وسلام تامين كاملين فيسعد ويسعد من حوله.
فالحمد لله علي نعمة الإسلام والحمد لله علي نعمة القرآن والحمد لله علي بعثة خير الأنام صلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين- وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين.
المزيد من مقالات د. زغلول النجار<!-- AddThis Button BEGIN <a class="addthis_button" href="http://www.addthis.com/bookmark.php?v=250&pub=xa-4af2888604cdb915"> <img src="images/sharethis999.gif" width="125" height="16" alt="Bookmark and Share" style="border: 0" /></a> <script type="text/javascript" src="http://s7.addthis.com/js/250/addthis_widget.js#pub=xa-4af2888604cdb915"></script> AddThis Button END -->
ساحة النقاش