توسع دولة الإسلام شرقاً وغرباً تطلب أن يتطور الوقف ويتعدد ليفي بحاجات الأمة، وكان ذلك عملاً لا قولاً، فقد وثق لنا التاريخ بل وشاهدنا بأعيننا أوقاف مازالت قائمة، وشاهدة على المكانة التي وصلت إليها الأمة في عصور العزة. لذا أنشأت الأوقاف لتحفظ ضروريات الإسلام الخمس: الدين والنفس والنسل كنفها من المسلمين ومن أهل الذمة كذلك .
فمن الأوقاف ما خصص لإقامة المساجد وعمارتها، وتعليم المسلمين أمور دينهم، ومنها ما خُصص ريعها لفك الأسرى، وتجهيز الجنود، وتصنيع السلاح والدروع، وتدريب خيول الجهاد، والأفراد على الفروسية، حتى بلغ الأمر في الوقف أن خصصت أرضاً في الشام، لرعاية خيول الجهاد التي هرمت، لتعيش حياة كريمة في حال هرمها، تقديراً للخدمات الجليلة التي قدمتها للأمة جمعاء في نشر الإسلام والفتوحات، وإقامة الدين، والعدل بين الناس .
وبلغت المدارس الوقفية مبلغاً عظيما فكانت في القدس وما حولها ما يقارب السبعون مدرسة وقفية، وكانت في الشام ما تزيد عن الأربعمائة مدرسة وقفية، ولكل مدرسة أوقاف خصصت لها؛ فكانت كل مدرسة تُعد كجامعة في عصرنا الحالي بل وتفوق، ففيها العلماء والطلبة المتميزون المبدعون، الذين أخرجوا لنا من الكنوز العلمية، ما تعجز عنه جامعاتنا الحالية !، فقد هيئت تلك المدارس لتكون بيئية علمية إبداعية، وفرت فيها قاعات، ومقاعد دراسية، ووسائل تعليمية ، ومكتبات، ومختبرات، وأماكن آمنة مريحة لسكن طلبة العلم، والعاملين في تلك المؤسسة الوقفية المتكاملة، بل والحمامات الصحية، والمرافق الأخرى التي توفر الحياة الكريمة لكل ما يضمه الوقف من أنفس بشرية (1).
وكانت تكية خاصكي سلطان في القدس ( 959هـ-1551م ) التي خصصت لإطعام الفقراء والأسر المتعففة (2) في القدس، مثالاً لواجب إطعام الطعام لأهل الحاجة. وقد بلغ عدد القرى المزارع الموقوفة على التكية 34 قرية ومزرعة (3) وما زالت إلى يومنا هذا تقدم الطعام للأسر المعوزة .
ثم أصاب الوقف في العهود المتأخرة- التي تسلط فيها المستعمر على بلداننا، واليهود على أرضنا ومقدساتنا- الترهل الإداري والفساد المالي، وعاش مرحلة الرتابة والتكرار والتقليد، الذي لا إبداع فيه تجديد، لذا فإن تطوير ومعالجة دور الوقف أضحى مطلباً ضرورياً في عصرنا الحالي، وذلك لتغير ظروف العصر ومتطلباته، وتعدد حاجات الأمة، وذلك لن يكون إلا إذا فقهنا مقاصد الوقف وأحكامه وضوابطه الشرعية، وأسس إدارته، وفنون نمائه، والحاجات الفعلية لمجتمعاتنا، القائمة على الدراسات والاستبانات، والشراكة الحقيقية بين قطاعات الدولة الثلاث : الحكومي والتجاري والوقفي .
إن استشراف المستقبل والتطلع الحضاري لأمتنا لن يكون إلا إذا أولينا العمل الخيري والوقفي والتطوعي غاية اهتمامنا، وعملنا بكل جهدنا لإحياء سنة الوقف، وإقامة المؤسسات الوقفية التي تُسهم في حفظ كرامة الإنسان، وتوفير الحياة الكريمة للأسرة المسلمة، وتوفير التعليم المميز الذي يحقق الإبداعات العلمية، والمؤسسات الصحية والثقافية التي تقدم الجديد كما كانت في عهود العزة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش :
1 - من تلك المدارس التي تُعد أنموذجاً، المدرسة المستنصرية في بغداد، والتنكيزية في القدس.
2- هذه الوقفية التاريخية مازالت وإلى الآن وعلى مدى 473 عاماً تقدم الطعام لأهل الحاجة.
3- كارين أرمسترونج: القدس مدينة واحدة عقائد ثلاث ، ترجمة فاطمة نصر ومحمد غاني ( بيروت :1998م)
المصدر : مركز بيت المقدس للدراسات التوثيقية .
ساحة النقاش