كارل ماركس.. مبتكر الشيوعية وناصر البروليتاريا



أجوبة ماركس على أسئلة طرحت عليه:
- ماهي خاصيتك المفضلة؟
البساطة.
- ما هي الفضيلة التي يمكن أن يتحلى بها الرجل بالنسبة إليك؟
القوة.
- والمرأة؟
الضعف.
- ماهي العلاقة الأساسية في طبعك؟
العناد.
- ما هو أفضل عمل تشغل به نفسك؟
القراءة
- ماهي العيوب التي تمقتها؟
المذلة
- العيب الذي يمكن أن تتسامح معه؟
السذاجة
- ما هو مفهومك للسعادة؟
الكفاح والنضال
- ماهو مفهومك للشقاء؟
- الرضوخ والمسكنة.
- ماهو شعارك؟
الشك في كل شيء كما قال ديكارت.
- اللون المفضل لديك؟
الأحمر..

نهاية الثمانينات، ومطلع التسعينات من القرن الماضي، عند سقوط جدار برلين وانهيار المعسكر الاشتراكي بقيادة ماكان يسمى بالاتحاد السوفياتي وجد خصوم كارل ماركس، مبتكر الشيوعية الفرصة سانحة للتهجم عليه والتحقير من فلسفته ومن مؤلفاته في الاقتصاد والسياسة بل وحملوه مسؤولية المظالم والمجازر التي ارتكبت باسمه في البلدان التي طبقت اشتراكيته المبنية على الصراع الطبقي وعلى المادية الجدلية. وفي موسكو، وبراغ وبودابست، وبرلين الشرقية، وتيرانا، دمر ضحايا النظم الشيوعية المنهارة تماثيل لينين وستالين وغيرهم من الذين اتخذوا من ماركس معلما ومرشدا لهم في السياسة والاقتصاد وبناء الدولة البروليتارية. وهنا وهناك، ظهرت كتب يدعي فيها أصحابها أن الماركسية نظرية ماتت ودفنت إلى الأبد!

لكن مع بروز الأزمة الاقتصادية الخطيرة التي عصفت بالعالم في خريف عام 2008، عاد كارل ماركس للظهور من جديد، وزيّنت صورته، صورة الثوري العالمي. بلحيته الغزيرة، وعينيه الثاقبتين أغلقة العديد من كبريات الصحف والمجلات من جميع أنحاء العالم.

وفي مقال لها، صدر يوم 13 مارس 2009، كتبت الجريدة الاقتصادية الليبرالية الشهيرة "Financial Times" تقول بأنه يتعين على قرائها قراءة أعمال ماركس خصوصا مؤلفه الشهير "رأس المال". وهي تعتبر أن كارل ماركس له نفس المكانة التي يحتلها أدام سميث في الاقتصاد. وأضافت الجريدة المذكورة تقول: "لقد كان ماركس أول من حلل بدقة وعمق جوانب السوق الضعيفة. والمعرفة بالاقتصاد الماركسي كان بامكانها أن تجنب رجال المال ورجال السياسة الأزمة الحالية للرأسمالية، أو تخفف من تأثيراتها على الأقل". وفي "wall street" شارع المال والأعمال في نيويورك رفع ضحايا الأزمة الحالية شعار: "كان ماركس على حق". وفي المانيا، شهدت طبعات كتاب "رأس المال" اقبالا لا مثيل له. وأعلن وزير المالية الألماني في حوار مع الأسبوعية " DER SPIEGEL" أنه أصبح قارئا نهما لمؤلفات ماركس وفي واجهات مكتبات كبريات العواصم والمدن الأوروبية عرضت مؤلفات المفكرين الماركسيين الذين أهملوا ونسيوا بعد انهيار جدار برلين وسقوط المعسكر الاشتراكي مثل الفرنسي الان باديو، والايطالي انطوني نيغري الذي أمضى سنوات في السجن بسبب تعاطفه مع "الألوية الحمراء" والسلوفيني سلافوي زيزاك وغيرهم. فهل معنى هذا أن أفكار ماركس سوف تكون مؤثرة من جديد في السياسة والاقتصاد العالميين؟ سؤال سوف تجيب عنه السنوات القادمة لكن من هو ماركس؟ وما هي سمات مسيرته الفلسفية والنضالية؟

مثل كل العظماء في التاريخ البشري عاش كارل ماركس حياة تشبه حياة أبطال المغامرات الخيالية ودفاعا عن أفكاره، وتمسكا بمبادئه واجه كل المصاعب الخطيرة وكل القلاقل الفزعجة التي اعترضت طريقه بصبر وثبات وشجاعة كبيرة. وكان مولده في مدينة "TREVES" بمقاطعة "الريناني" الواقعة على الحدود الفاصلة بين المانيا وفرنسا في الخامس من شهر ماي 1818. وهو ينتمي إلى عائلة يهودية كان الكثير من أفرادها أحبارا. لكن قبل مولده بستة أعوام، أصدرت حكومة بروسيا قانوانا يحرم على اليهود العمل في المؤسسات العامة والحكومية. فما كان من والده الذي كان محاميا ليبراليا متنورا إلا أن تخلى عن ديانته، ليصبح مسيحيا بروستانتيا. لذلك سوف ينشأ كارل ماركس كارها منذ البداية للفوارق الناجمة عن الأديان والمعتقدات. وفي الدراسة التي سوف يعدّها عن هيغل عندما يلتحق بجامعة برلين سوف يكتب قائلا: "الدين زفرة الكائن المقموع، وروح عالم بلا قلب". وسوف يضيف قائلا: "إن أبطال الدين كسعادة وهمية هو حتمية السعادة الحقيقية".

وفي المدرسة أظهر الطفل كارل ذكاء متوقدا، وحيوية في العمل والدراسة لفتت إليه انتباه معلميه وأساتذته. وكان يحب اللعب، والسخرية من زملائه، ورواية الطرائف والحكايات خصوصا لاخواته البنات اللائي كنا يقدمن له الهدايا لكي يفعل ذلك.

وعندما انتقل إلى بون لمواصلة دراسته، أخذ الفتى كارل يرتاد الملاهي والمراقص والحانات. وكان يعربد ويشاغب البنات ويكتب رسائل ملتهبة بالحب إلى جيني "JENNY" الجميلة التي أحبها والتي سوف تكون زوجته في ما بعد، وستظل وفية له حتى النهاية رغم المتاعب الكبيرة التي سببها لها. ورغم ذلك تمكن الفتى كارل من نيل شهادة الباكلوريا وهو في السابعة عشرة من عمره. وفي الموضوع الذي طرح عليه في الامتحان، كتب يقول وكأنه كان قد حدس مصير حياته: "التاريخ يعتبر أعظم الرجال أولئك الذين امتلكوا صفات نبيلة بسبب عملهم من أجل اسعاد الآخرين. وقد أظهرت التجارب أن الذين أكثر سعادة هم أولئك الذين أسعدوا الكثيرين".

بعد نيله شهادة الباكلوريا، انتقل كارل ماركس إلى برلين لمواصلة دراسته. وبأمر من والده انتسب إلى كلية القانون غير أن الفلسفة سرعان ما جذبته فانصرف إليها واجدا فيها ما كان يطمح إليه. وكانت أفكار هيغل الذي كان قد توفي قبل خمسة أعوام لا تزال تحظى بانتشار واسع لدى طلبة الفلسفة والآداب. ورغم أن شيلينغ المحافظ، والملتزم بسياسة بروسيا الرجعية كان يحارب بشدة أطروحات صاحب "فينومينولوجيا الروح" فان أتباع هذا الأخير من الطلبة الشبان كانوا كثيرين. ولم يلبث كارل ماركس الذي راح يلتهم المؤلفات الفلسفية بنهم منقطع النظير، أن أصبح واحدا منهم. وكان في الثالثة والعشرين من عمره لما أعد أطروحة دكتوراة عن "الاختلاف في الفلسفة الطبيعية عند ديموقريطس وأبيقور". ورغم أن أساتذته الكبار أشادوا بهذه الأطروحة اللامعة، فإن صاحبها لم يتمكن من العثور على كرسي في الجامعة.
فقد كانت الحكومة البروسية التي يقودها فريدريك – غيوم الرابع تقاوم بشدة كل العناصر التي ترفض الانصياع لقوانينها ولسياستها الرجعية. لذا كان على كارل ماركس أن ينصرف للصحافة المعارضة، تاركا المناصب الرسمية لمن سماهم بـ: "مثقفي العهد والتزلف"؟ ومنذ البداية أثارت مقالاته اعجاب الكثيرين وفتنت الغاضبين مثله على الحكومة البروسية. وفي النوادي والمجالس الفكرية والفلسفية، كان كارل ماركس يأتي بالعجب العجاب ويسيطر على المناقشات سيطرة شبه كاملة، وراسما صورة له في تلك الفترة، كتب موزس هيسه رئيس تحرير جريدة " REINISCHE ZEITUNG" يقول: "باستطاعتك أن تعد نفسك للالتقاء بالرجل الأعظم، وربما بالفيلسوف الوحيد بالنسبة لجيله. وهو يمزج الجد الفلسفي الأكثر عمقا بالفكر الأشد لذاعة. تخيّل روسووفولتير ودولياخ وليسينغ وهاينه وهيغل مجتمعين في شخص واحد. وها أنت تجد نفسك أمام الدكتور كارل ماركس".

وبسبب فصاحته وقوة شخصيته، وعمق تفكيره وعبقريته في توليد الأفكار وفي تدمير أطروحات خصومه، أصبح كارل ماركس مهاب الجانب من قبل الاصدقاء والاعداء على حد السواء. وكانت مقالاته السياسية والاجتماعية والفكرية تثير غضب الرجعيين الذين على رأس السلطة. ولأنه كان ضخم الجثة، يكسو جسده شعر أسود غزير، فان البعض سموه: "العربي".

ومع أن ماركس كان لا ينفك عن السخرية من الاشتراكيين ومما يسمونه بـ"الاخوة الانسانية" فإنه لم يكن قد بلور بعد أفكاره الحقيقية في العديد من القضايا التي كانت تشغله. وكان قد هاجم بجدة أفكار فورييه "Fourier" وكل الأفكار التي كانت من هذا القبيل. ومع ذلك كانت معرفته بالاقتصاد السياسي سطحية. وكان لا يزال جاهلا بعالم العمل والعمال. وقد وجد لدى لودفينغ فويرباخ صاحب كتاب: "جوهر المسيحية" ما لفت انتباهه، وجعله يشرع في بلورة الأفكار والأطروحات التي سوف تشكل في ما بعد منهجه الفكري والفلسفي.

وكان لودفيغ فويرباخ قد أشار في كتاباته الفلسفية أن الله هو في الحقيقة انعكاس للانسان وهو مجرد خرافة لا هدف من ورائها غير طمئنة البشر أمام مصاعب الحياة وتقلباتها. غير أن هذه الخرافة تلهي الانسان عن تحقيق طموحاته وأحلامه على الأرض. وقد اعتمد ماركس على أفكار فويرباخ ليس يستعملها ضد الله، وإنما لكي يدحض أفكار هيغل بخصوص الديالكتيك والدولة التي ستصبح منذ ذلك الحين العدو الرئيسي الذي لابد من تدميره.

وسوف يكون عام 1844 عاما حاسما في مسيرة كارل ماركس. فقد التقى في صيف العام المذكور فريديريك انغلس الذي سوف يصبح صديقه ومناصره ومساعده حتى وفاته. وسوف يظل له وفيا ومخلصا حتى في أحلك الظروف، وأشدها عسرا واضطرابا. وكان فريديريك انجلس رجلا جذابا، يعشق النساء والنبيذ والخيول الأصيلة. وهو ينتمي إلى عائلة مرفهة إذ كان والده يملك معملا في مدينة "مانشستر" البريطانية لذا كان على دراية كبيرة بأوضاع العمال في الامبراطورية التي لم تكن تغرب عنها الشمس. وكان في الثامنة عشرة من عمره لما كتب مقالا هاجم فيه "النفاق البورجوازي"، وأشار إلى أن أصحاب المعامل الكبيرة في أوروبا يعاملون العمال بشكل سيء للغاية. ولأن المقال أثار حفيظة البورجوازية الألمانية، فإن الوالد أرسل ابنه "أي فريديريك انغلس" إلى مانشستر التي كانت آنذاك معقل صناعة النسيج، ومن أهم مراكز الثورة الصناعية في أوروبا. وفي النهار، كان الشاب فريديريك انغلس يقوم بدوره كمسؤول في معمل والده. وفي الليل، يجوب الأحياء العمالية في المدينة الكبيرة لكي يفهم كيف يستغل الرأسماليون الطبقة العاملة. وفي ما بعد، وتحديدا عام 1845 أي بعد مرور عام واحد على لقائه بماركس، سوف يكتب كتابا حمل عنوان: "وضع الطبقة العاملة في بريطانيا". وفي مقدمته كتب يقول: "كان علي أن انسلخ عن الطبقة التي إليها أنتمي، وأن أرفض حضور المآدب الكبيرة الفاخرة، وعن شرب "الشمبانيا" و"البورتو" لكي أخصص ساعات الراحة لدراسة أوضاع العمال".

تم اللقاء بين فريديريك انغلس وكارل ماركس في شارع "vaneau" بباريس.

وعلى مدى عشرة أيام وعشرة ليال ظل المفكران الشابان يتجادلان حول القضايا الفكرية والفلسفية، وحول أوضاع الطبقة العاملة في أوروبا. وفي النهاية... أنهما على نفس الخط. لذا قرّرا أن ينشئا حلفا سوف لن يتقوض أبدا.

ومتحدثا عن لقائه الأول بماركس كتب انغلس عام 1885 يقول: "عندما قمت بزيارة ماركس بباريس في صيف عام 1844، كان اتفاقنا حول مجمل القضايا النظرية تاما. ومنذ ذلك قرر كل واحد منا العمل مع الآخر".

وكان كارل ماركس قد جاء إلى باريس فارا من الجو الخانق الذي كانت تعيشه المانيا في ظل حكومة بروسيا الرجعية. وقبل ذلك كان قد قرأ مجمل أعمال الاشتراكيين الفرنسيين مثل بيار لورو "1797 – 1871" وفيكتور كونسبيديران "1808 -1893" وأيضا "ما هي الملكية" لبرودون "1809 – 1865".

وفي باريس احتك كارل ماركس بالأوساط الثورية، وتردّد على حلقات العمال دارسا أوضاعهم ومطلعا على مشاكلهم. كما تعرف على كبار الثوريين من أمثال لوي بلان "1811- 1882" وبيار لورو الذي كان صديقا للكاتبة جورج صاند "1804 – 1876" ولوي اوغست بلانكي وباكونين "1814-1876" الارستقراطي الروسي الذي تحول إلى ثوري محترف يجوب العالم محرضا على الثورة غير عابئ برجال الشرطة وبالمخبرين السريين الذين كانوا يلاحقونه في أي حين، وفي أي مكان وكان باكونين قد كتب في أحد مؤلفاته الثورية يقول: "إن سعادة التدمير هي في نفس الوقت سعادة الخلق والابتكار".

وفي باريس أيضا، وطّد كارل ماركس علاقته ببرودون صاحب كتاب "ماهي الملكية؟" الذي بين فيه أن الملكية هي في الحقيقة سرقة. ومعه كان يمضي ساعات طويلة في الجدل والنقاش خصوصا حول فلسفة هيغل. غير أن العلاقة بين المفكرين سوف لن تستمر طويلا.

فبعد أن أصدر برودون كتابا بعنوان "نظام التناقضات الاقتصادية وفلسفة البؤس" وذلك عام 1846 هاجمه ماركس بحدة في كتاب ألفه باللغة الفرنسية تحت عنوان: "بؤس الفلسفة متهما إياه بـ"الاصلاحية البورجوازية الصغيرة".

في عام 1884، وبينما كانت العديد من البلدان الأوروبية تغلي بالاضطرابات والانتفاضات، أصدر كارل ماركس وفريديريك انغلس "البيان الشيوعي" الذي ستبلغ شهرته الآفاق، وسوف يصبح "انجيل" الزعماء والقادة الثوريين في كبريات العواصم والمدن الأوروبية. وفي البيان الشيوعي نقرأ ما يلي: "مع تطور البورجوازية، أي تطور الرأسمال تتطور البروليتاريا طبقة العمال الحديثين الذين لا يعيشون إلا بشرط وجود عمل. وهم لا يجدون هذا العمل حالما يصبح عملهم عاجزا عن الزيادة في رأس المال. والعمال المجبرون على بيع أنفسهم يوما بعد يوم، هم في الحقيقة سلعة مثل كل السلع التجارية الأخرى. لذلك هم يتحملون كل التغيرات التي تحدث بسبب المنافسة وتضارب المصالح وتقلبات السوق".

في نفس السنة التي صدر فيها "البيان الشيوعي" هزت العواصم الأوروبية اضطرابات هائلة، وثورات عمالية كبيرة سوف يصفها الثوريون بـ"ربيع الشعوب" وفي فرنسا التي أطرد منها كارل ماركس عام 1845 تمت الاطاحة بالنظام الملكي وأعلن رئيس الحكومة المؤقتة، فارديناند فلوكون "1800 – 1866" أن أبواب فرنسا أصبحت مفتوحة أمام كل الثوريين وأحباء الحرية في العالم بأسره. فما كان من ماركس إلا أن عاد إلى باريس لمواصلة نضاله الثوري. غير أنه لم يمكث هناك طويلا. فقد عمل بالذهاب إلى كولونيا التي تقع في نفس المقاطعة التي ينتمي إليها ليكون في قلب الثورة التي كانت تشهدها المانيا آنذاك. وكان مرفوقا برفيقه فريديريك أنغلس وبفيلهالم فولف الذي كان قد أسس جريدة كان يريدها أن تكون ناطقة باسم "الديمقراطية الأوروبية". وفي هذه الجريدة كتب كارل ماركس العديد من المقالات محللا من خلالها الأوضاع الثورية في المانيا وفي اوروبا عموما، مشيرا إلى "البؤس" الذي تعيشه الطبقة العاملة، ومهاجما البورجوازية التي أصبحت "عاجزة عن القيام بمهامها التاريخية".

ومن كولونيا، انطلق كارل ماركس إلى برلين، ومنها إلى فيينا لمتابعة الأحداث الثورية في العاصمتين، ولتوثيق الصلات بالثوريين هناك. غير أن "ربيع الشعوب" سرعان ما خبا. ومن جديد عادت البورجوازية إلى السلطة ضاربة بشدة على رؤوس الذين اشعلوا الثورات. فما كان من ماركس إلا أن أسرع عائدا إلى باريس ليجد نفسه أمام مصاعب مادية خانقة. وهذا ما تدل عليه مجمل الرسائل التي وجهها إلى أصدقائه في تلك الأيام العصيبة طالبا منهم المساعدة. وعندما انطفأت الثورة العمالية في فرنسا، غادر كارل ماركس باريس باتجاه لندن التي سوف يظل مقيما فيها حتى نهاية حياته. وحال وصوله إلى هناك، عاد إلى النشاط الثوري وإلى الكتابة من جديد. وعلى ضوء نظرياته الثورية الجديدة التي تعتمد على الصراع الطبقي، وعلى المادية التاريخية والجدلية، ألف كتاب: "صراع الطبقات في فرنسا – 1848 – 1850" الذي قدم فيه تحليلا عميقا لأوضاع الطبقة العاملة الفرنسية وللثورات التي عرفتها أوروبا عام 1848 والتي سماها "عربات التاريخ".

وبصحبة عائلته، عاش ماركس في أشد الأحياء فقرا في العاصمة البريطانية. وفي الرسائل التي كان يبعث بها إلى أصدقائه ورفاقه "المقربين، كان دائم التشكي من الأوضاع المادية العسيرة التي كان يعيشها حتى أن البعض من أبنائه الصغار ماتوا بسبب ذلك. وعندما تسقط زوجته مريضة، لم يكن باستطاعته أن يشتري لها الدواء. وكان يقضي أغلب الوقت في "المكتبة الملكية" البريطانية يقرأ الكتب، ويعد أبحاثه ومقالاته. وبين وقت وآخر كان يحب التردد على الحانات، وعلى الملاهي، مدخنا السيجار الكوبي. وقبل أن يؤسس "الجمعية العالمية للعمال" وذلك في خريف عام 1864 كتب ماركس يقول: "ان تحرر الطبقة العاملة لابد أن يكون عمل الطبقة العاملة نفسها". وبعد أن درس جيدا أعمال علماء الاقتصاد الكبار من أمثال آدام سميث شرع كارل ماركس في كتابة مؤلفه الرئيسي: "رأس المال" الذي سيستغرق انجازه أوقات طويلة تخللتها متاعب صحية ومادية كثيرة وشاقة للغاية.

بعد هزيمة فرنسا في حربها مع المانيا والتي اندلعت عام 1870، ثارت الطبقة العاملة الفرنسية من جديد. وقد سمي المؤرخون تلك الثورة: "كومونة باريس". وقد ساند كارل ماركس "الكومونة" بقوة معتبرا إياها "أول جمهورية عمالية" في التاريخ الانساني. غير أن "الكومونة" سحقت بعنف وحشي في بضعة أشهر، وعادت البورجوازية الرجعية تحكم بالحديد والنار من جديد.

وكانت السنوات الأخيرة في حياة كارل ماركس شديدة العسر والشقاء. فقد توفيت زوجته جيني عام 1881. وكان رحيلها شديد القسوة عليه هو الذي أحبها كما لم يحب امرأة أخرى في حياته. ومحاولا التخفيف من آلام فراقها، سافر إلى الجزائر عام 1882 ومن وحي رحلته تلك سوف يكتب نصه الشهير عن "الاستبداد الشرقي". وحتى عندما تعدّدت أمراضه، وتضاعفت آلامه وأوجاعه لم ينقطع كارل ماركس عن الكتابة، والبحث ودراسة أحوال العالم، وأوضاع الطبقة العاملة، "أصل الانسانية". وكان جالسا على كرسي العمل، عندما فاضت روحه. وفي 17 مارس/ آذار 1883، دفن في مقبرة "Highgate" بلندن.

ولم يحضر جنازته غير شخص فقط. وفي توديعه، قال رفيقه في مسيرته الثورية، فريديريك انغلس: "كان ماركس ثوريا قبل كل شيء. وكانت مهمته في الحياة، المساهمة بطريقة أو بأخرى في الاطاحة بالمجتمع الرأسمالي بمؤسسات الدولة التي أنشأتها لتحرير البروليتاريا الحديثة. وكان ماركس أول من حدد ظروف ومواصفات تحررها".

Alarab Online. © All rights reserved.

المصدر: Alarab Online. © All rights reserved.
  • Currently 208/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
71 تصويتات / 1849 مشاهدة
نشرت فى 2 أكتوبر 2009 بواسطة ashrafhakal

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

3,607,527