الدولة المصرية ... ومأزق سد النهضة
بلا حياءٍ أو خجل، تتصاعد هذه الأيام بعض الأصوات الإعلامية المشبوهة التي تقلل من تبعات سد النهضة على مصر، رغم كل التقارير الفنية والتحذيرات التي أطلقتها وزارة الري المصرية خلال السنوات العشر الماضية، ورغم موقف القيادة السياسية المصرية القاطع بأن المساس بحصة مصر من مياه النيل خطٌ أحمر، وأن مصر يمكن أن تذهب لأقصى مدى لحماية حقها التاريخي في مياه النيل؛ وهو ما يتطلب بناء اصطفاف مجتمعي قوي خلف قيادة السياسية، بدلاً من إخفاء الحقائق وتمييع المواقف لأغراض غير مفهومة!
وعليه، وحيث أن الكثيرون قد تحدثوا من قبل عن الآثار الاقتصادية لنقص حصة مصر من مياه النيل، فإننا سنحاول في هذا المقال أن نستشرف التبعات الاجتماعية والسياسية الهائلة، التي ربما يَغفَل، أو يتغافل، عنها البعض، والتي نتوقع حدوثها في حال عدم الوصول لحل يحمي حقوق مصر التاريخية في ماء النيل، لا قدر الله.
التبعات الاجتماعية:
من المعروف أن المواطن في الريف المصري، الذي يتجاوز سكانه أكثر من 60% من سكان مصر، يتميز باستقرار وهدوء نفسي فريد، ورثه عبر آلاف السنين من بيئة طبيعية واقتصادية مستقرة، لم ينقطع استقرارها عبر آلاف السنين. هذا الاستقرار والهدوء النفسي جعل المواطن الريفي غير مهتم كثيراً بمَنْ يحكم أو يدير البلاد ... فالأرض خصبة، والماء وفير، والفلاح خبير، وهي بيئة يملكها هو، ولا تتأثر كثيراً بالنظم السياسية الحاكمة. ومن هنا كان المواطن الريفي أقل البشر ميلاً نحو الثورات والتظاهرات، فبيئته الطبيعية المستقرة تلك، أكسبته قدراً كبيرً من الثقة والاستقرار النفسي.
وعلى الرغم من هذا الاستقرار النفسي المتميز للمواطن الريفي، يجب ألا نُغفل أن حدوث أي انقطاع في هذا الاستقرار الطبيعي والاقتصادي، بتهديد ذلك المواطن في أرضه، مصدر رزقه الأزلي، والتي يعتبرها السَتر والعِرض، سيكون له أثر نفسي هائل عليه؛ وهو ما قد يجعل غضبته هادرة وغير مسبوقة .... فاحذروها.
التبعات السياسية:
من المؤكد أنه سيكون لتلك التبعات الاجتماعية الكبيرة صدىً سياسياً هائلاً في حال لم يتم اتخاذ إجراء سياسي أو عسكري حاسم يحمي مصر من تلك الآثار. ويمكن إجمال أهم هذه التبعات في النقاط التالية:
<!--أن أي نظام سياسي، مهما كان ثقله الحزبي وانتشاره السياسي، لن يستطيع تحمل أن يُذكَر اسمه مقروناً بالتفريط، أو بالعجز عن حماية حق مصر في مياه النيل؛ هذا الحق الذي حماه الأجداد عبر تاريخ مصر الطويل. خاصة وأن هذا الأمر تقع مسئوليته كاملة على الدولة، وأن الشعب ليس له دور فيه إلا بقدر ما قد تطلبه الدولة منه حماية لهذا الحق، وهو ما لم يُطلب منه، وما لم يتأخر عنه.
كما أن أي نظام سياسي يفشل في حماية حق مصر في مياه النيل، لا قدر الله، سوف يفقد هيبته أمام شعبه؛ ولن يقدر مهما كانت قوته وتماسكه، على مواجهة غضبة أكثر من ستين مليوناً من المتضررين من أبناء الريف، والمنتشرين في أكثر من نصف مليون قرية ومئات المدن. وهو ما قد يُدخل البلاد في دوامة من عدم الاستقرار السياسي.
<!--أن الفشل في حماية حق مصر التاريخي في مياه النيل، لا قدر الله، سيضعف من هيبة بعض المكونات السيادية الرئيسية للدولة، بل سيفقدها مبررات وجودها؛ وهو ما سيكون له تأثير سلبي كبير على تماسك الدولة وقدرتها على حفظ النظام داخلياً وعلى مواجهة التهديدات الخارجية.
<!--وفي الإطار الإقليمي، فإن إضرار إسرائيل الواضح والمتعمد بمصالح مصر في مياه النيل في إثيوبيا، سيزيد من الغضب الشعبي ضد إسرائيل، باعتباره عملاً عدائياً مباشراً يتناقض مع اتفاقيات السلام وخطط التعاون الاقتصادي بين الدولتين. كما أن الغضبة الشعبية المتوقعة، نتيجة لتلك الأضرار الاقتصادية المتوقعة، ربما تجبر الحكومات على مراجعة تلك الاتفاقيات والمعاهدات؛ وهو ما قد يُدخل المنطقة برمتها في دوامة الصراعات من جديد.
.................
وبعد، ... فهذه مخاوف ليست أمنيات. مخاوف نحذر منها، ونضعها أمام كل من يهمه الأمر في بلادنا كي ينظر في احتمالية حدوثها وتبعاتها، وكيفية منعها. وكذلك لطرح تلك المخاوف على المجتمع الدولي، والتحذير من تبعاتها على الأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط والعالم.
أعرف أن البعض قد يتهمنا بالسوداوية والتشاؤم؛ ونقول لهم، لا ضير أن يكون أحدنا متشائماً، يطرح نظرة قاتمة، ولكن حسبه أنها مختلفة لم تُطرح من قبل، فلربما تفيد. كما أنه عندما يتعلق الأمر بشريان الحياة الأزلي والأبدي لمصر، هنا يصدُق قول القائل بإن "حُسن الظن ورطة"، بل نراه ضرباً من البلاهة، لا يتناسب وخطورة الحدث.
حفظ الله مصر ونيلها وشعبها وقيادتها .... "تحيا مصر".
د. عنتر عبد العال أبو قرين
أستاذ التخطيط الحضري والتنمية الإقليمية، كلية الهندسة، جامعة المنيا
استشاري بالبنك الدولي و UN-Habitat
............
8 يونية 2021
ساحة النقاش