جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
مقالة نقدية :صالح هشام !
الذائقة الجمالية المزيفة !
مرة استحسن أحد النقاد العرب بيتا لأبي تمام،وأثنى عليه ،وأطرى على شعره وشاعريته وهو يجهل لمن يكون هذا البيت محط إعجابه ،لكنه بمجرد ما اكتشف أنه يعود لأبي تمام ، سحب إعجابه و أرغى وأزبد ، وسلط منظاره اللعين على البيت الشعري بحثا عن نواقصه وتحديد مثالبه ،عساه يقلص من امتداد أبي تمام الشعري !
لعل القاريء الكريم يقول ما الهدف من هذه القصة ، ومالنا نحن وأبي تمام ونقاده ؟ أعتقد أنها ستفيدنا في حديثنا عن الذائقة الأدبية المزورة والتي بدورها أصبحت تزور جماليات النصوص الأدبية !
فالذائقة الأدبية قوة تجعل الإنسان يفرق بين الجميل والقبيح بين الحسن والرديء، تستعذب هذا وتستهجن ذاك ، تستطيب هذا وتستسيغ ذاك ، لكن هذه الذائقة غالبا ما تخضع لبعض المواقف الخاطئة التي تدفع إلى تزييف الحقائق بناء على خلفيات لا يعلمها إلا صاحبها، فناقد أبي تمام لو لم يعرف أن البيت له ، لما نفى عنه الشاعرية وحرمه من الفحولة ،هذا يعني أن الذائقة لا تخضع لمعايير الجودة في الإبداع النصي وإنما تطارد كاتب النص تبعا لنوعية الموقف منه على مستوى السلب والإيجاب ، وقد تنزلق في متاهات تمييز الأشخاص ،و غض الطرف عن النصوص المستهدفة من القراءة والتذوق الأدبي ، فينصب التقويم على شخص الكاتب ويهمل المكتوب والمشكل هو أن القراءة نقد والنقد لغة على لغة النص أي لغة المحمول على لغة الموضوع ،أليست هذه ذائقة تقلب المفاهيم وتزور الحقائق ،هذا يجعلنا نجزم بأن الذائقة القرائية ،حربائية لا تتحرى الموضوعية في تقويم نص أو عمل إبداعي ما ، وأرفع القبعة هنا للناقد العالمي الشهير رولان بارت وسائر البنيويين في ضرب كل المؤثرات الخارجة عن النص كدراسة النص من خلال الإسقاطات الاجتماعية أو النسق التاريخي أو الاهتمام بالمؤلف و ما شابه ذلك وإنما جعل النص خاضعا للتفجير من الداخل بعيدا عن كل هذه العوائق، التي تحد من الحرية النقدية وتدفعنا إجبارا إلى ممارسة نفاق الذائقة الأدبية المزيفة ،التي ترفع المنحط درجات وتحط الراقي من الآثار الأدبية أسفل سافلين ، فيتحول الفاعل موضوعا للقراءة والنقد ويضرب عرض الحائط بالنص ، الذي هو ديدن العملية النقدية بصفة عامة ، فلتسود حرية النقد وتكرس الاهتمام بالنصوص أقصى رولان بارت الكاتب من العملية النقدية والقرائية ليفتح الباب على مصراعيه للقاريء ، الذي سيكون له دور رئيس في تفكيك النصوص وتهديمها وإعادة بنائها من خلال فهم الخلفيات الثقافية التي متح الكاتب منها لبناء نصه ، وبالتالي العمل على خلق القاريء المبدع المتذوق والمتسائل والمستفسر والمفسر والمفكك لشفرات النصوص الأدبية و إبطال مفعول ألغامها ، وهذا النوع من القراءة الذي ينصب فيها الاهتمام على النص سيساهم في مده بالحياة ، لتكون القراءة النقدية للنص منجاة له من موت محقق ،فينتشر وتكثر القراءات وتختلف النقاشات حول جمالياته ، فيستمد حياته من انفتاحه على تعدد القراءات التي تستجلي جماله أو قبحه من داخله لا من خلال التمسك بتلابيب كاتبه طلبا لعطفه ورضاه أو انتقاما منه ولو كان ذلك على حساب وأد نص مفعم بالجمال والروعة !
هذه اذن طبيعة النصوص المكتوبة التي تفرخ لغات ثقافية إبداعية كثيرة جدا تبعا لنباهة القراء وقدرتهم على الإبحار في متاهات هذه المغارات الساحرة التي لا يستجلي مستورها الا عارف بفن الاستغوار ولا يكشف خفي كنوزها إلا مغامر سندبادي ،عكس تلك النصوص المقروءة التي تخجل كلماتها من أن تعلن العصيان على المعاجم والقواميس فلا تنزاح عن المألوف ولا تكسر مبتدلا ولا تخلق لا عجيبا ولا غريبا ، فقط توصل أفكارا يقبل عليها القاريء السلبي المستهلك فيدركها دون طرح السؤال ، فيغيب التفاعل والانفعال والتأثير والتأثر ، الشيء الذي لن يساهم أبدا في إحياء النص الميت من أساسه يقول جان بول سارتر ( النقد يوقظ النص من سباته ) !
توج بارت ذائقة القاريء لأنه يطمح إلى تحقيق هامش معقول من الحرية في قراءة النصوص وتوخى منه المشاركة في إبداع النص ، لأن القراءة ابتداع على إبداع أو قراءة على كتابة أو تعليق على إنشاء ، وكلما استحضرنا الكاتب في قراءاتنا كلما مارس علينا حضوره ضغوطا ق تشوش على حرية ذائقتنا الجمالية ،فنمارس النفاق الأدبي طوعا أو كرها أو مجاملة ، أو طلبا لتحقيق مكاسب ومآرب !
بقلم الاستاذ : صالح هشام
الرباط / الاحد ٤نونبر ٢٠١٦
المصدر: مقالة نقدية :صالح هشام !
الذائقة الجمالية المزيفة !