<!-- / icon and title --><!-- message -->

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

.. ولا أعرف دمعا يختلط فيه الحزن بالفرح كدمع الأمهات عند زفاف بناتهن ، فهي دموع حزن الفراق والبُعد والإنفصال ، وهي كذلك دموع فرحة التوفيق والنجاح في إتمام واجب الأمومة، وإنطلاق البُنيّة الغالية لبناء أسرة جديدة خاصة بها على سنّة الله ورسوله .

ولعلّي بالأم في لحظة من لحظات العُرس ، وقد وقفت برهة تتأمل المناسبة ، تمرّ بها صور الماضي سريعة مشرقة ، إذ هاهي التجاعيد المباركة تلوح في وجه "القابله" وهي تبشّرها بسلامتها وسلامة إبنتها ، وهاهي بسمة الطفلة الملائكية تطلّ عليها وهي ترفعها عالياً "لتربّجها" على أحلى الأبيات ، وهاهي البُنيّة تحضنها بيديها الصغيرتين فرحة بأول "خميسه" تُهدى لها في "الميلود" ، ثم هاهي تنطّ بخفّة الصبيّات على الحبل أو تجرّ "الشقّيفه" بقدمها الصغيرة بإقتدار على مربّعات "النقّيزه"، وهاهو صوتها يتناهى من بين أصوات صويحباتها وهن يغنين من بعد خروجهن من "العريفه"… وفجأة ، تصحو الأم من سرحانها ، لتجد الجارات وقد أمسكن بيدها يدفعنها إلى وسط حلقة العُرس وهنّ يطالبن بـ "رقيصه"..

وفي المقابل ، أحسبُ أن مشاعر الأم عند زفاف إبنها فرحاً خالصاً ، ربما مشوباً ببعض الفخر والاعتزاز ، ولكن قطعاً لا يخالطه حزن الفراق ، فالصبيّ له حياته خارج البيت مع الأقران والأصحاب والخلاّن ، وليس لصيقا بوالدته كما هو حال البنيّة التي تتقاسم مع أمّها الأيام والأشهر والسنوات ، ساعة بساعة وموقفا بموقف وإحساسا بإحساس .

على أية حال ، العرس بهجة وسرور ، وعالم تراثي يعجّ بالصور والأصوات والحركات والتفاصيل الفرحة والمرحة التي تجرى وفق طقوس وعادات خاصة ، يتوارثها الآباء والأمهات عن الأجداد والجدّات ، ليورّثوها من بعد ذلك للأبناء والأحفاد بكثير من المحبة والحرص والعناية و( الله لا يقطعلنا ، لا سبر ، ولا عادة ) .

وفي العرس لا تسل عن التكاليف! ، فهو سويعات وأيام تستقطعها الأسرة خارج إطار المألوف والمعروف .. والمصروف !! والأمر حقا كما قيل قديما ( أعطي بنتك وزيد عصيده !) و( اللي ما يجي مع العروس ما يجي مع خالتها ) و( ما يشكر العرس إلاّ اللي شبع فيه !) . على أية حال ، المناسبة تستحق ، فهي فرحة العمر ، و( اللي ما تجوّز وما بني ما يعرف ماله وين مشي ). أمّا من أكرمه الله بقلّة ذات اليد فلا يمكن لأحد أن يلومه على ردّه العفوي لإبنه ( قالّه يا بوي خودلي إمراء ، قالّه كان دام الحال علي هالحال حتّى أمّك نطلّقوها !!).

ومن نصائح الأفراح للمارّين بالعرس ( كان خلاّك مولى العرس كول بلا غسل إيدين) ، ولأم العروس ( أعطي لبنتك الزين والبهي والزقاطه يعلموهالها النسي ) ، ولراغب الزواج ( عليك ببنات لوصول راهو الزمان يطول ) . أما للعروس ، فلعل الدعاء أوجب هنا من النصيحة ( إجعلك نوّاره في عيون النغّاره ) . ويمكن تلخيص أهمّ أحداث العرس ـ وهذا يتوقّف بالطبع على فلسفة الملخِّص ـ في ثلاث أمثال : (العريس يتعرّس والمشوم يتهرّس) ،و( شكّارة العروس أمها وخالتها وعشره من قبيلتها ) ، أمّا أكثر التلخيصات مدعاة للأسى فتلك المتعلقة بسييء الحظّ وهو الذي ( رافع القصعه وما يعرفش حوش العرس وين !! ) .

هذه التوطئة ـ والتي يبدو اننا سنعتادها ـ تساعد كثيرا في بثّ وإشاعة أجواء الموضوع في بضع كلمات وتعابير وجمل وفقرات ، ليمكننا والقاريء الكريم من بعد ذلك ، الحديث بأحاسيس مقاربة للواقع عن "غناء البوطويل" كاحدى التفاصيل التراثية للعُرس .



و"البوطويل" هو كلمات تتأرجح بين الشعر والسجع والنثر ، تتالف من ثلاث مقاطع تغنّى بالمدّ وتطويل الصوت بما يضمن قوته من جهة ، وإصلاح أي زحف في المقاطع من جهة أخرى ، وعادة ما تشارك الحاضرات جميعهن في المغنى بعد أن ينقسمن إلى فريقين يتناوبن الغناء بيتا ببيت ـ ليتمكن كل فريق من إسترجاع النفس كل مرة ـ . ويزخرف هذا المغنى ، ربما للحفاظ على الوزن وموسيقى الكلمة ، بآهات واصوات إضافية قد تجعل من البيت المغنّى غير واضح تماما للسامعين من غير العارفين بهذا الفنّ . ومواضيع "البوطويل" عادة تنصبّ في الإستبشار والتفاءل بالفرح ، ومدح العريس والتشبّب بعروسه والفخر والإعتزاز بالأسرة وشيمها ، كما تتناول مغاني "البوطويل" الحبّ والزواج والأمومة والأبوة والبنوّة وغير ذلك من المواضيع الإنسانية العاطفية الرقيقة .

* ـ قالت أمّك يا بنيّتي ، ومسرع ما مشيتي ، وفي الحوش منهو خلّيتي ؟ .
* ـ وعلاش تبكي يأمّ السوار ، والدمع قطّار ، وإنتِ نزلتي خيار الدار .

ومن مغاني " البوطويل " التي تردد بإستمرار عند مباشرة الفرح تذكير الحاضرين بالصلاة على النبي المختار صلى الله عليه وسلّم ، وأستحضاره في القلب ـ وكذلك الإمام عليّ كرّم الله وجهه ـ لجعل العُرس مباركا ، وليتممه الله سبحانه وتعالى بالخير . وهذه المغاني مصاغة على لسان الأم ـ صاحبة الفرح ـ التي تقول أنها كانت تنتظر هذا اليوم السعيد منذ زمن بكل الشوق واللهفة .

1 ـ باللّه صلّوا يا حضّار ، كبار وصغار ، عالنبي الهادي المختار .
2 ـ حضّرت محمّد وعليّ ، وبديت نكسيّ ، كمّل عليّا يا ربّي .
3 ـ وهذا النهار اللّي نبّيه ، والقلب شاهيه ، وإجعل محمّد حاضر فيه .
4 ـ على أوّل ما نبدأ البادي ، هيه يا أسيادي ، بالصلاة عالنبي الهادي .

ولا تنس الأم التبرّك بذكر الصالحين من أمثال سيدي عبد السلام الأسمر وسيدي محمد بن عيسى وسيدي الشويرف ، وكذلك ببركة يوم الجمعة ، وهي تدعو بأن يحفظ الله إبنها العريس ويجعله ـ وعروسه ـ عمار بيت الأسرة .

5 ـ ناديت يا شويرف ناديت ، يا قصير الحيط ، ونبّي الغالي عمار البيت .
6 ـ سيدي محمد بن عيسى ، شيخ الحضاري ، ونجّيك لأمك يا غالي .
7 ـ ويا بركة الجمعه الجديده ، ولسمر وسيده ، نجّيك لأمك يا حميده .

ومن بعد ذكر إسم الله ، والصلاة على رسول الله ، والتبرّك بصحابته واولياء الله الصالحين ، تدعو الأم الحظّ "السعد" بأن يشارك هو الآخر في هذا العُرس الميمون ، كنوع من الإستبشار والفأل الحسن .

8 ـ يا سعد يا مسعود تعال ، من روس لجبال ، نبّوك تحضر هالموّال .

ولمّا لم تكتفِ هذه الأم الفرِحة بكل هذا الدعاء لجعل العُرس طيبا مباركا ميمونا ، ولإهمية أن يكون الطقس مناسبا ، فإنها لا تتردد في أن ترسل للتيّار البحري الشمالي رجاءاً بأن يهبّ بالهواء اللطيف البارد طوال أيام الفرح ، وذلك حتى يمكن أن "تعول" وتعمل هي وأحبابها في العرس دونما ضيق من حرٍّ أو قيظ . ويستجيب "البحري" على الفور إرضاءا لهذه الأم الطيّبة ولإبنها العريس الباسم الوجه الضحوك .

9 ـ دزّيت للبحري يجينا ، يبرّد علينا ، نبو نعولوا إفّرح غوالينا .
10 ـ هاداي فرحك يا هشهاش ، بحري ورشراش ، حتى اللي يعول ما يعياش .

وبعد إطمئنان هذه الأم الصالحة على كل ماسبق ، "تستاذن" الضيوف ، فالوقت بات مواتيا لإشهار العُرس ، ولإعلان فرحها الغامر للجيران وهي تدعوهم لمشاركتها هذه المناسبة السعيدة ، وتؤكد بأنها ستغني جذلى في عرس إبنها بالصوت العالي وعلى روؤس الأشهاد .

11 ـ غير أفرحولي يا جيران ، والساس في الساس ، اللي فرحت ودرت لعراس .
12 ـ ونبّي نغنّي ونلالي ، في راس العلالي ، نجّيك لأمك يا غالي .

وعلى الفور ، يستجيب الأقارب والأحباب والجيران لهذه الدعوة العارمة للفرح ، فيأتوا زرافات ووحدانا مهنئين مباركين ، ومتعهدين بأن يساهموا في العمـل وتقديم الخدمات ـ بكل المحبة والودّ ـ في هذا العرس حتى يكون يوما من أسعد وأبرك الأيام .



13 ـ جيناك يا غالي جيناك ، علي عيون باباك ، بنعولوا إفّرحك معاك .
14 ـ مبروك يا غالي مبروك ، على أمّك وبوك ، وعالجماعه اللي يحبّوك .
15 ـ وجيناك يا لغالي جيناك ، ناسك وقرباك ، نبوا نحضروا هالفرح معاك .

وفي أيام الفرح ، لا تفوّت الأمّ وبناتها وقريباتها ـ فرصة الإفتخار بالأصل والعائلة والبيت : بالشرف والكرم ، وبالمال والعدد ، وبالجمال والذوق والنظافة .. ولكي نكون منصفين ، فإن هذه الأبيات ، ولمّا كانت تغنّى من قبل جميع حاضرات الفرح ، وكل يغنّي في حقيقة الأمر عن أهله وأسرته وبيته ، فإن الفخر إذن ، للجميع !!

16 ـ أحني حوشنا أفمّه البير ، وناسه مكابير ، والمال في الصندوق كتير .
17 ـ أحني حوشنا حوش العاده ، كثّر أولاده ، وإعمي عيون حسّاده .
18 ـ أحني حوشنا باهي ونظيف،ومشهور للضيف،وحتى شباباته علي الكيف
19 ـ أحني حوشنا حوش الحوته ، منقرش حيوطه ، وفيه الغزاله مربوطه .
20 ـ ويا ريتهم ميّه وطناش ، بيوت وحياش ، وبيهم نكاير وما ناواش .

ولمن يريد أن يجادل في هذه الخصال ، أو يعتقد أن في إمكانه أن يبثّ الكسل والإحباط في العُرس لأي سبب كان ، فالردّ والتهديد هناك ..

21 ـ أحني ريقنا فلفل وبزار ، وكلامنا حار ، نحموا الفرح بلا زكّار .

ومن بعد إفتخار أهل العُرس بشمائلهم وأخلاقهم ، وأصلهم وفصلهم ، تبدأ الأم من جهتها وعلى وجه الخصوص ، في الإفتخار بإبنها نور عينها ، وهي تمثّله بتمر فزّان تارة ، وبالغزال تارة أخرى ، وبالتفاح المتدلّي من غصنه مرّة ، وبمرود الزان الأنيق الرشيق مرة أخرى ، كل ذلك وهي تتغزّل في شجاعته وعيونه السوداء وقدّه الممشوق . ولا تنس أن تحثّه ـ بحزم ـ بأن لا يقبل مذلّة البخل وأن يجلب للعروس الهدايا بكامل ثمن جمل !!.

22 ـ هيه يا حميده يا حميدان ، يا تمر فزّان ، يا نور عيني وقت تبان .
23 ـ يا وليدي يا دامي ، سود الميامي ، عمّار حوشي قدّامي .
24 ـ هيه يا حميده يا حميدان ، يا مرود الزان ، تفّاح يدّرجح مع لغصان .
25 ـ يا وليدي يا غزيّل ، ما تحمل الذلّ ، جيب العلاقه بحقّ جملّ .

وفي المقابل ، في بيت العروس ، تنطلق مغاني "البوطويل" بالدعاء للعروس الحلوة بالحظّ السعيد والأيام الجميلة المزدهرة ، مع مدح والدها الذي رفض تزويجها إلا بما تستحق من مهر ، بل وزاد في شروطه قرابة الألفين ! .

26 ـ هيه يا أمّاه قوّي سعدك ، وزيّن إيامك ، خضراء وراك وقدّامك .
27 ـ هيه يا أمّاه سلّم بوها ، خشّ المدينه ، وزاد في شرط الزينه .
28 ـ هيه يا أماه سلّم بوها ، خشّ الدكاكين ، وزاد في شرطك ألفين .

ولا تقتصر مغاني "البوطويل" على الأم فحسب ، فالأخوات أيضا يتغنين بأخيهن في يوم زفافه الميمون ، ويفتخرن بحسن مناقبه وجميل صفاته وكرمه ، وباسلوب لباسه ، وبفرسه البيضاء ، متمنين له تمام الحسن والعقل ، والمكرمات يقوم بها حتى يتناهى خبرها إلى أقاصي الأرض .

29 ـ حاديه يا خال حاديه ، كركار حوليه ، عنده الوخيّه تحلف بيه .
30 ـ حجّب علي خوتي شقّاي ، أولاد باباي ، بخنوق راسي فوق غطاي .
31 ـ هيه يا وخيّي يا بابا ، مدرجح نقابه ، وجرده حرير الشرابه .
32 ـ نجّيك يا خوي نجّيك ، يا وليد باباي ، باش نكاير بيك عدواي .
33 ـ جيبيه يا بيضاء جيبيه ، معورج جريديه ، خوي اللي عيني تراجي فيه .
34 ـ تمنّيت لخويا تنتين ، العقل والزين ، والشايده ترقى لا وين .

أمّا في بيت العروس ، فمغاني الدعاء والتغزّل في عقلها وجمالها وحسنها لا تتوقّف .

35 ـ الله يجعلك شجره خضراء ، وفيك القماري ، يربح البايع والشاري .
36 ـ الله يجعلك مفتاح حديد ، مالّيد للّيد ، ونهار صبحتك درناها عيد .
37 ـ مدّي دراعك عالطوله ، ما فيه لوله ، وأمّة محمد يرعوله .
38 ـ وقدّها قدّ النخله ، أمّ العراجين ، وشرطها ألفين وميتين .

ولا تخلو مغاني البوطويل من البوح العاطفي العفيف ..

41 ـ وأني حليلي كيف ندير ، من كامل الزين ، وين شبحني واطى العين .
42 ـ وأني حليلي يا ربّي ، من وحش قلبي ، سلّوا الغدارى من جنبي .
43 ـ وحسّيت قلبي طاح درز ، خلّى مكانه ، ويصعب عليّا ردّانه .
44 ـ يا زين قدّه وقدوده ، ورقعة خدوده ، رمّان طايب في عوده .
45 ـ قولوا إلبّاس البيدي ، وحولي جريدي ، منّه سبايب تنكيدي .
46 ـ قولوا إلبّاس السروال ، ينشدش مازال ، والاّ ترك ما عادش يسال .
47 ـ هيه يا خال راني مذبوله ، ذلة سبوله ، علي شان زولك مقتوله .
48 ـ هيه يا خال مغير نميد ، من طفل صنديد ، اللي محبّته في القلب تزيد .

كما انها لا تخلو أحيانا من نبرات حازمة مصممة ، ترفض فيها الفتاة أن تُزوّج لغير من تحبّ وترغب وتريد ، تماما كما أرادها الله طرفا أصيلا حرّا في إختيار شريك حياتها ..

49 ـ يا بوي تربح خلّيني ، تختار عيني ، وللشين رانك تعطيني .
50 ـ ويابوي راني طمّاحه ، نكره صباحه ، ردّوا الغديد إلمطراحه .
51 ـ ولو تضربوني بالثيغان ، والدمّ غدران ، ما نسيّبه مجلي النيبان .
52 ـ ولو تضربوني بخيط التلّ ، لا نخاف لا نذلّ ، ما نسيّبه عرجون الفلّ .
53 ـ ولو تضربوني بالشاقور ، والراس مضفور ، نلحق الغالي ولو فزنزور .

غنيّ عن القول ، إن هذه التقسيمات المنهجية لمواضيع المغاني ، إنما هي من عندنا ، فـ "البوطويل" يغنّى ـ وبالمناسبة فإنه يغنى في مقام البياتي وبدون مصاحبة الإيقاع ـ دونما منهج أو فرز أو تصنيف . ولكن الغريب والجميل في الأمر أنه وما أن ترفع سيدة بصوت الحرف الأول فحسب من الأغنية ، حتى يتبعنها البقية بذات البيت !! كيف عرفنه ؟ ، هل هو تواصل خفيّ بينهن ؟ … ولكن مهلاً ، أيمكن أن يكون منهجا وترتيبا تم حفظه مع مرور الأعراس والأفراح ؟ .. يجوز !
وختاما..عالبال !!.




المصدر: مدونة الإعلامي الليبي الأستاذ الهادي محمد حقيق
  • Currently 208/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
68 تصويتات / 1258 مشاهدة
نشرت فى 20 ديسمبر 2009 بواسطة amtala

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

19,845