لقد تعلمت أن الرجل الحقيقي هو الذي يعرف متى يتكلم ومتى يصمت ..ولقد صمت طويلاً ..  وقد حان الأن  وقت الكلام ..
أنا اللواء متقاعد مجدي محمد سليمان ..
حينما كنت ضابطاً صغيراً في الخمسينيات كلفت بالخدمة في قرية كفور الصوالح  إحدى قرى الوجه البحري..وكان هذا النفي بالنسبة إلي نفياً زمانياً أكثر منه نفياً مكانيا... لأن القرى في ذلك الوقت كانت بكراً لم تفض بكارتها  معاول الحضارة بعد..ولا تندهشوا  إن صارحتكم أنني كنت سعيداً بهذا النفي لأسباب غريبة بعض الشئ ستعرفونها لاحقاً لكنني وقتها كنت  أتظاهر بالعكس تماماً ..
 وقتها نظرت  لرئيسي المباشر وأنا أحاول كتمان مشاعري
الحقيقية ..ثم قررت أن أتكلم  :
-        <!--[endif]-->أتمنى أن أكون مفيداً هناك أكثر من طائر أبو قردان ....
شاعت على ثغر الرئيس  شبح ابتسامة مقيته وهو  يقول :
-  لاتغتر بالريف .. من يدري مالذي قد تواجهه هناك ....
-  لصوص الماشية والدجاج .. إن لم تخني الذاكرة ....
-  قد يكون هذا ترف مبالغ فيه ..
ووقع لي على جواب تحويلي ثم رفع عينيه إلى وقال :
-  لا تنس إبلاغ سلامي إلى والدك سيادة اللواء..
كان والدي  لواءً متقاعداً  له تاريخه الحافل في سجل الشرطة ورئيسي كان يوماً من تلامذته ..ومن يدري ربما أرسله والدي الموقر يوماً ما إلى نفس تلك القرية التي سأرحل إليها وهو اليوم يرد الجميل لوالدي ..شكرته على النفي بحرارة ادهشته.. لكن وقت الادعاء قد فات وحصلت على توقيعه وصرت أنتمي إلى هناك ..وقمت لألملم أوراقي وانصرفت دون تحية لأنني لم أكن ارتدي الزي الرسمي ..لكن من الغد سأعود للزي الرسمي ..وليس
أي زي رسمي ..إنه زي الأقاليم الكاكي الذي يذكرني بكاسترو ...
كنت في تلك الفترة التي تلت ثورة يوليو مفعماً بالأفكار الثورية مقبلاً على كتب اليسار .. أظن أن العالم ما هو إلا كوكباً من القرود بحاجة إلى ترويض وأنا ومن هم على شاكلتي  الأدميون على  الحقيقة  والمروضون الفعليون لهذا الكوكب البائس
الناس ما هم إلا ألات .. بل تروس..بعضهم مجرد ترس في ألة عملاقة الكل يعمل من أجل الكل الكل يمكلك ما يملكه الكل ..إنها الشيوعية يا صاحبي في خضم مجدها وإن قلمت أظافرها وإن شئت قل مخالبها ..لتصير إشتراكية ... لأن بلادنا التي مازالت تحتفظ بتراثها القديم لم تكن لتقبل الشيوعية في صورتها الفجة لكنهم شربوا الاشتراكية حتى النخاع حتى صارو يعتقدونها ديناً لكنني لم أكن شاباً جامعياً ولا كاتباً صحفياً ولا حتى أديباً ألمعياً كنت ضابط شرطة عمله ينحصر في ضبط الأمن ومطاردة الجريمة وإن كنت أثق اننا نتبع الأسلوب الخاطئ ..هناك جريمة لأن هناك تفاوت ..هناك جريمة لأنه لا توجد مساواة .. وحينما تطبق الشيوعية البحتة لن تكون هناك جريمة ولن نحتاج لشرطي أصلاً... مازال مجتمعنا تفصله مفاوز وقفار حتى يصل إلى اليوتوبيا الكاملة ..المدينة الفاضلة كما يطلقون عليها من باب التمويه على العوام  المتدينين لكنني أعرف كغيري ممن تتلمذوا على أفكار ماركس حقيقة اليوتوبيا وأحيا من أجلها .. ما أجمل الحياة من أجل هدف ..
حتى وإن كان في نظر البعض  تجديف وإلحاد ..وكثيرا ما كنت اتخيل الرفيق كارل ماركس  اليهودي المرتد وهو يشد على يدي مشجعاً ويقول :
-        <!--[endif]-->أنت ..أنت ..
فأقول له في تواضع :
-        <!--[endif]-->مجتمعنا صعب المراس ..والطريق  شاق وطويل ..
-        <!--[endif]-->قطرات الماء تفتت الصخر ولو بعد حين ..
                               ***
 وحينما حملت حقيبة السفر ووقفت على باب المنزل استعداداً للخروج من عالم المدنية ومستقبلاً ذلك العالم الجديد البكر الغامض الملوث بروث الماشية ورائحة الحقول جاءت أمي لتطبع قبلة على خدي الأيمن ولتلقنني أدعية السفر..
وأغلق والدي المصحف الذي يقرأ منه ونظر إلى نظرة فاحصة.. كم أخشي تلك النظرة البوليسية المتهمة التي لم تفارقه حتى بعد الخروج على المعاش ..يقولون انني ورثت نفس تلك النظرة .. وهذا كان مما  يثير رعبي أكثر ...
والدي من النوع المتدين بالأخص بعد المعاش ووالدتي كانت تبعاً لوالدي وسطوة الأسرة كانت أقوى من محاولتي الأنفصال عنهم ..والزواج على طريقتهم يعني الخروج من قيد إلى قيد ربما يكون أشد ..دعك من كوني لا أجد في الفتيات المرشحات ما يناسبني ..كنت أريد فتاة من نوع خاص وهم يأتونني بالنوع المثقف الذي تقترب أفكاره من أفكاري وهذا هو ما كنت أرفضه ولا أصرح به ...لماذا ؟ ربما تعرفون قريباً ...
- قبل أن ترحل سأعطيك شيئاً ..
أغمضت عيني متوقعاً العطية  التقليدية في مثل تلك المناسبات .. وسرعان ما دس أبي المصحف المزركش في يدي التي مددتها له مصافحاً وعانقني في قوة كعادته كأنما يصارعني وهمس في أذني:
- حاول أن تثبت أنك أبني حقا ..
-  ألم تثبت هذا في شهادة ميلادي ..؟
ابتسم لدعابتي وهو يداعب وجنتي بأنامله الخشنة وقال وهو يحاول أن يداري مشاعره :
-  أنت تذكرني بنفسي حينما خدمت لأول مرة في الصعيد ..كانت أيام ..لكنك  أفضل حظاً من والدك ..أكتفو بنقلك لقرية من قرى الوجه البحري ..
-  الحقيقة لا اجد فارقاً ..ربما الفارق الوحيد في المسافة ..لكن كل القرى تتشابه  .
هنا تذكرت والدتي موضوعها الأثير الذي لا تجيد الحديث في غيره وذكرتني بواحدة من أولئك الفتيات المنتقيات بعناية لتتناسب مع شخص مثقف مثلي ..ربما كان اسمها سوزان أو سوسن لم أعد أذكر جيداً من كثرة الأسماء .. المهم انني وعدتها حينما أخذ أول أجازة ان اذهب معها للقاء ثريا هذة ....هنا صاحت مستنكرة :
- أسمها كاميليا ..
قلت لها في دهشة مصطنعة :
- كاميليا ..!! ولماذا لم تحدثيني عنها من قبل ؟
اتسعت عيناها في دهشة وقد صدقت كلامي كالعادة لابد انها الان تلوم نفسها ألف مرة ..
قلت لها :
- على العموم إن شاء الله حينما أعود مع اول أجازة سنذهب سوياً إلى فانيليا..
- كاميليا ...
- سأردد الأسم طوال الطريق حتى لا انساه ..
هنا تدخل والدي قائلاً في جدية :
-  دعيه حتى لا يتأخر على ميعاد القطار ..
هنا وكأن والدي قد ضغط على زراً خفياً في نفسها بدأ صوت أمي يتهدج منذرا  بهطول الأمطار الساخنة ..وكان على ان انصرف لأن هذة العائلة تذكرني بأنني مازلت أملك قلباً يرق وعين تزرف العبرات .. الكل ترس في ألة الكل يعمل من أجل الكل ..لا أسر لا روابط ..هكذا كانت تدوي في أذني التعاليم التي تلقنتها من كتب اليسار...
ونظرت للمصحف الذي حصلت عليه اليوم قبل أن أغلق حقيبة السفرعليهما وأسترخي في مقعدي بالقطار ..كان يمكنني التخلص منه بشتى الطرق لكن شيئاً ما وقف حاجزاً بيني وبينه  .. ولم احاول كثيراً ان أفسر ذلك الحاجز ..وقلت هو ربما ذلك الرهاب الذي زرعوه فينا منذ الصغر ..ربما ..وهدرت محركات القطار وعلا الضجيج .. بشر ..بشر .. تروس عديدة تمر بجوار نافذة القطار ..تروس تتكلم ..تروس تشتكي تروس تتشاجر وتتبادل السباب .. وأغمضت عيني ورحت في نوم عميق ..تخللته احلام عن عالم ملئ بالحقول والمحاريث والروث وأبراج الحمام ..
                 ***                       




 

 

 

 

 

 

amrmuostafa

عمرو مصطفى

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 144 مشاهدة
نشرت فى 27 أغسطس 2013 بواسطة amrmuostafa

ساحة النقاش

عمرو مصطفى

amrmuostafa
قصص وروايات ومقالات »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

56,918