الحمد لله الكريمِ المنَّانِ، جليلِ النعم جزيلِ الإحسان، ذي الفضلِ العظيم، والخيرِ العميم، أحمدُه تعالى بما هو له أهلٌ منَ الحمدِ وأُثني عليه، وأستغفرُه منْ جميع الذنوبِ وأتوبُ إليه،
وأومنُ به وأتوكَّلُ عليه، مَنْ يهده اللهُ فلا مضلَّ له، ومَنْ يضللْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أنْ لا إله إلاَّ اللهُ وحدَه لا شريك له، القائلُ في كتابه الكريم: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبدُ الله ورسولُه، وصفيُّه من خلقِه ومصطفاه وحبيبُه، كان الكرمُ مِنْ سجاياه الحميدة، وبسطُ اليدَين بالسخاءِ من صفاته الملازمة العظيمة، - صلى الله عليه وسلم - وبارك عليه، على آلِه وصحبِه، وعلى كلِّ مَنِ اهتدى بهديِه، واستنَّ بسُنَّتِه إلى يوم الدين.
أما بعد؛ فيا أَيُّهَا الْمُسْلِموْنَ :
الكرمُ والجودُ منْ مكارمِ الأخلاق، ومنْ أفضلِ الصفاتِ على الإطلاق، أوصى اللهُ بها نبيَهُ العظيم، وحثنا عليها في كتابهِ الكريم، وجعلها من دلائلِ الإيمان، وشرَّفها بالذكرِ في القرآن، قال اللهُ تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ، والكرمُ مِنَ الأخلاقِ العريقة، والقِيَمِ النبيلة، عرفَها منذُ الأزلِ أصحابُ النفوسِ العظيمة في تعاملاتِهم، وجعلوها دليلَ الرفعةِ والفخار، لما فيها مِنَ الإيثار، وعُلُوِّ الهممِ والأقدار، سُئِلَ أحَدُهُم عنِ الكرمِ فقال: "هو التبرُّعُ بالمعروفِ قبلَ السؤال، والرأفةُ بالسائلِ مع البذل"، وحينما جاءَ الإسلامُ أضفى على الكرمِ معاييرَ جديدة، ووجَّههُ نحوَ مقاصدَ ساميةٍ رشيدة، فاتجهَ بهِ إلى القيمِ الروحية، والمعاني الدينية، فلم يعدِ الباذلُ يرجو الفخرَ والثناء من الورى، وإنما غايتهُ الثوابُ والجزاءُ في العقبى، يقولُ النبيُ - صلى الله عليه وسلم - : ((إنَّ اللهَ تعالى جوادٌ يُحبُ الجود، ويُحِبُّ معالي الأخلاقِ ويكرهُ سفسافها)).
أَيُّهَا الْمُسْلِموْنَ :
للكرمِ في ظلِّ الإسلامِ آدابٌ وسلوكيات، يجبُ على المنفقِ أنْ يتحلى بها، ويتمسكَ بها كُلُّ باذلٍ جواد، وهذهِ الآدابُ هي التي تحددُ نظرةَ الإسلامِ للكرم، فيسودُ الحبُ والوئام، ويعمُ الخيرُ وينتشرُ السلام، وتختفي مظاهرُ الأثرةِ والأنانية، وتزولُ منَ النفوسِ الأحقادُ والكراهية، ويتلاشى الحسدُ والشقاق، ويَحِلُ مَحِلََّه الودُّ والوفاق، ومنَ الآدابِ التي حثَ الإسلامُ عليها، وأمرَ المسلمينَ أنْ يتصفوا بها؛ الإنفاقُ منْ طيبِ المال، يقولُ سبحانه: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) ، وروي عن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْه- قال: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:((منْ تصدقَ بعدلِ تمرةٍ منْ كسبٍ طيبٍ ولا يقبلُ اللهُ إلا الطيب، وإنَّ اللهَ يتقبلها بيمينهِ ثم يُرَبِّيها لصاحبهِ كما يُرْبي أحدُكُم فَلُوَّه-وهوَ ابنُ الناقةِ الصغير- حتى تكونَ مثلَ الجبل))، فالباذلُ أو المعطي إنَّما يعمد إلى طيبِ مالهِ وأجوده، يمنحُ إخوانَهُ المعسرين، فيعطي الفقراءَ والمحتاجين، ويمنحُ المعوزينَ المساكين، من فضلِ اللهِ ربِّ العالمين.
أَيُّهَا الْمُسْلِموْنَ :
لقد حثَّ الإسلامُ على المبادرةِ بالعطاء، وتعجيلِ الإنفاق، وأوجبَ على المعطي أن يبادرَ السائلَ بالبذل، فقدْ روي عن جابر-رَضِيَ اللهُ عَنْه- قال: ((ما سُئِلَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عنْ شيءٍ فقالَ: لا)). فالتؤدةُ محمودةٌ في كلِ شيءٍ إلا في اصطناعِ المعروف، فإنَّ التؤدةَ فيهِ تنقيصٌ له، قالَ عمرُ بن الخطاب رضي اللهُ عنه: ((لكلِ شيءٍ شرف، وشرفُ المعروفِ تعجيله))، فطلاقةُ الوجه وطيبُ اللقاءِ يملأُ نفسَ المعطي رحمة، ويملأُ نفسَ المتلقي بِشراً وأمنا، فالموسرون لا يسعون الناس بأموالهم، ولكنْ يسعهم منهم بسطُ الوجهِ وحُسنُ الخُلُقِ وقد جاءَ في الحديث: ((تبسُمُكَ في وجهِ أخيكَ صدقة))، وقد حرصَ الإسلامُ على مكارمِ الأخلاق، وسعى إلى تأكيدِ القيمِ والمُثُلِ العُليَا في المجتمع، فدعا المنفقَ إلى الزُهدِ فيما بينَ يديه، وحثهُ على الإنفاقِ بما لديه، لأنه يفنى وينفد، والرغبةُ فيما عندَ اللهِ أبقى وأخلد، ولأنه سبحانه باقٍ خالدٌ لا يُضِيعَ أجرَ منْ أحسنَ عملا، فلا يجدُ المنفقُ حرجاً فيما يبذله، ولا يشعرُ بضيقٍ فيما ينفقه، قال تعالى: (مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) ، فإذا فَطِنَ المسلمُ إلى هذهِ الحقيقةِ فإنه ينصرفُ عنِ الطمعِ في الدنيا، ويزهدُ فيما فيها، ويتعلقُ بالآخرةِ ويطلبُ ثوابها وخيرها، فيتضاءلُ عندهُ الكثير، فلا يأسى على ما بذل، ولا يفرحُ بما حصلَ وكسب، فينفقُ بسخاوةِ نفس، وطيبِ سريرة، وطلاقةِ وجه.
أَيُّهَا الْمُسْلِموْنَ :
إنَّ نقاءَ الجوهرِ وعُلو الهمةِ يرفعُ منزلةَ صاحبهِ ويُعلي شأنه، إذا ما أدركَ القيمةَ الحقيقيةَ منْ وراءِ ذلك، بأنْ يوجهَ همتَهُ وإمكاناتهُ إلى الغايةِ النبيلة، والمقاصدِ الشريفةِ التي تهدُفُ إلى خيرِ الإنسانِ وسعادةِ البشرية، وهي تلكَ الأهدافُ التي عنى الإسلامُ بتحقيقها، وصرفَ الهمةَ إليها، يقولُ النبيُ - صلى الله عليه وسلم - : ((تجدونَ الناسَ معادن، فخيارهم في الجاهليةِ خيارُهم في الإسلامِ إذا فقهوا))، وكلُ منْ تعلقَ بشيءٍ منْ هذهِ الخِلال، وتخلقَ بطرفٍ منْ تلكَ الخصال، وصفَ بقدرِ ما بلغَ ونال، وقدْ وصفَ اللهُ سبحانه أنبيائهُ بالكرمِ، فقال:(وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ) ، وقال تعالى: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) ، والكرمُ اسمٌ من أسماءِ اللهِ تعالى، وصفةٌ منْ صفاتهِ عزَّ وجل، لأنهُ هوَ الذي انفردَ بالملكِ والغنى، ((فهوَ سبحانه إذا عُصي غفر، وإذا اطَّلعَ أمهلَ وسَتر، وإذا وعدَ وفى، لا يضيع منْ لجأ إليه، ولا يسلم من توكلَ عليه، يداهُ مبسوطتانِ بالخيرات، ولهُ خزائنُ الأرضِ والسماوات، لا يُنازعُ في قسمةِ رزقه، ولا يُراجعُ في تدبيرِ خلقه، فهو الكريمُ بالإطلاق)). ومن ضروبِ الكرمِ الإيثار، وهوَ صفةُ المتقينَ الأخيار، والمؤمنينَ الأطهار، وهوَ أعلى مراتبَ الكرم، يقولُ الله سبحانه: (وَالَّذِينَ تبوءوا الدَّارَ وَالأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
أَيُّهَا الْمُسْلِموْنَ :
لقد عَظَّمَ الإسلامُ الكرمَ والجود، وأبغضَ كُلَّ بخيلٍ شحيحٍ كنود، وغرسَ حُبَّ البذلِ في نفوسِ أتباعه، لما فيهِ منْ خيرٍ وفضل، فهوَ يصونُ وجهَ المحتاجِ عن المسالة، ويحفظُ من مذلةِ الحاجة، وينأى بهِ أنْ يُرِيقَ ماءَ وجههِ في طلبِ المسألة، ومنَ الناسِ أعطَوهُ أو مَنَعُوه، تجملاً معه أو سخروا به، رقوا لحالهِ أو جفوهُ واستغلظوا له، فقدرَ المسلمونَ قيمةَ العطاء، طمعاً في الثوابِ منْ ربِ الأرضِ والسماء، فحرَصُوا على التنافسِ فيه، والتسابقِ إليه، وبهذهِ الروحُ تَفَهَّمَ المُسلِمُونَ القيمةَ الحقيقيةَ للثروةِ والمال، قيل: ((ما جَمعتَ من المالِ فوقَ قُوتِكَ فإنما أنت فيهِ خازنٌ لغيرك))، ويروى أنَّ عبد الله بن أبي بكر -رَضِيَ اللهُ عَنْه- كان ينفقُ على أربعينَ داراً من جيرانهِ عن يمينهِ، وأربعينَ عن يساره، وأربعينَ أمامه، وأربعينَ خلفه، ويبعثُ إليهم بالأضاحي والكسوةِ في الأعياد)).
أَيُّهَا الْمُسْلِموْنَ :
حثَ الإسلامُ على حسنِ الضيافة، وإكرامِ الضيف، لما فيهِ من بذلٍ للمودة، وإظهارٍ الحب، وتقويةٍ للروابطِ بين المسلمين، وتدعيمٍ لأواصرِ المحبةِ في القلوب، فجعلَ إكرامَ الضيفِ من دلائلِ الإيمان، رويَ أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من كان يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ فليكرم ضيفه، جائزته يومٌ وليلة، والضيافةُ ثلاثةُ أيام، فما زادَ بعد ذلكَ فهوَ صدقة)). ومن أدبِ الضيافةِ الصدقُ في البذل، وعدمُ الرياء، ومجانبةُ المنِ والأذى، والإخلاصُ لله، قال تعالى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) ، ولقد عنيَ الإسلامُ بالجارِ أشدُ عناية، واهتمَّ برعايته، ودعا إلى تفقده، وتلمُسِ حاجته، والمحافظةُ عليه وحمايته، وتحقيقُ الأمنِ والسعادةِ له، روي عن أبي شريح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن)) قيلَ: من يا رسولَ الله؟ قال: ((الذي لا يأمنُ جارُه بوائقَه))، فالاهتمامُ بالجارِ يبدأ من الجانبِ الإنساني والوجداني، وهو الذي يُزكي النفوس، ويثيرُ نوازعَ الرحمةِ والخيرِ فيها، بأن يُعينَ الجارُ جارَه إذا احتاجَ معونته، فلا يؤذيهِ بمظاهرِ الثراءِ والنعيمِ حتى لا يزيدَ من آلامهِ ومعاناته، يقولُ النبيُ - صلى الله عليه وسلم - : ((ليسَ المؤمنَ الذي يشبعُ وجارُه جائعٌ إلى جنبه))، وكذلكَ أكدَ الإسلامُ رعايتهُ للأرحام، ودعا إلى توثيقِ صلة الرحم، والاهتمامِ بذوي القرباتِ والإحسانِ إليهم، فالمسلمُ يثابُ بالإنفاقِ على أهلهِ وذوي قرابته، يقولُ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - : ((إذا أنفقَ المسلمُ نفقةً على أهلهِ وهو يحتسبها كانت له صدقة)). وقد حثَ القرآنُ الكريمُ على الإحسانِ إلى ذوي القربى، قال تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) ، وأوصى ذوي الفضلِ من المؤمنينَ بتفقدهم ورعايتهم ، قال تعالى: (وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ،
فاتقوا الله -عباد الله-، واعلموا أنَّ سعادةَ المجتمعِ وأمنَه رهينٌ بمبدأِ التكافل، فاسعَوا إلى الإنفاقِ والبذلِ والعطاء، وتلمسوا حاجةَ إخوانكم فاقضوها حتى تسودَ روابطُ المحبةِ والإخاء، يقول تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).
أقُولُ قَوْلي هَذَا وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لي وَلَكُمْ، فَاسْتغْفِرُوهُ يَغْفِرْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ.
*** *** ***
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى
الظَّالِمِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.
أَمَّا بَعْدُ : فَيَا عِبَادَ اللهِ :
إن للكرمِ دواعٍ تدعوا إليهِ، وأسباباً تحثُ عليهِ، وتدفعُ المرءَ إلى الجدِ في طلبهِ، والحرصِ على تحصيلهِ، ولذا فقد قررَ القرآنُ الكريم، أن المالَ مالُ اللهِ وأن الناسَ مستخلفين فيه، يُنفِقُونَ منهُ، ويتمتعونَ بهِ، يقولُ اللهُ سبحانه: (وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) ، ومن هُنا يختلف مفهومُ الكرمِ في الإسلامِ عنه في الجاهليةِ، فالمسلمُ حينما يبذلُ مالهُ لا ينظرُ إلى ثناءِ الناسِ، ولا يبغي الشهرةَ وذيوعِ الصيتِ، وإنما يصرفُ نيته إلى الله، فيجعلُ غايتهُ رضاهُ، وهدفَهُ الفوزَ بثوابه، وطاعتهِ لربه، وحبهِ لإخوانهِ وقد قالَ النبيُ - صلى الله عليه وسلم - : ((إنما الأعمالُ بالنيات وإنما لكلِ امرئٍ ما نوى)) ودعا الإسلامُ المسلمينَ جميعاً إلى بذلِ المعروف، والحرصِ على الجود، قال تعالى: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) ، ومن أسبابهِ وفرةُ المال، واتساعُ الحال، فالمعطي يبذلُ المالَ عن قدرةٍ ويسر، دونَ أن يجدَ في بذلهِ مشقةٌ أو عناء، موقناً أنَّ هذا عينُ الوفاء، فهوَ يقدمُ بعضَ مالهِ لمن أعسرَ واحتاجَ من إخوانه، يُفَرِّجُ بهِ كُربَتَهُم، ويُسعِفُ بهِ أزمتَهُم، ويُعالِجُ بهِ حاجتَهُم، فيحظى بخيرِ الدارين، ويجمعُ بينَ المحبتين، محبةُ الله ومحبةُ إخوانه، ويفوزُ بالثوابِ العظيمِ يومَ القيامة، وهو ما عناهُ النبيُ - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ((المسلمُ أخو المسلم لا يظلمُهُ ولا يسلمُهُ، ومن كانَ في حاجةِ أخيهِ كانَ اللهُ في حاجته، ومن فرجَ عن مسلمٍ كربةً فرجَ اللهُ عنهُ كربةً من كرباتِ يومِ القيامة، ومن سترَ مسلماً سترهُ اللهُ يومَ القيامة)).
أَيُّهَا الْمُسْلِموْنَ :
ومن دواعيَ الكرمِ الرغبةُ في الحمدِ والشكر، ومحبةُ الثناءِ وطيبُ الذكرِ فتنفردُ إرادتهُ بحبِ عرضِ الدنيا، فيتكرمُ ويسمحُ ليُحمدَ ويُمدح، وهذا الكرمُ مذمومٌ بعيدٌ عن الدين، لما يشوبهُ من الرياء، ويُذهبُ بمرؤةِ العطاء، وقيمةِ البذلِ والسخاء، وقد حذرَ الإسلامُ المسلمينَ من الانزلاقِ إلى مهاوي الرياء، لأنها تمحقُ ثوابَ الصدقة، قال تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ(، وقد يكونُ الداعيَ إلى الكرمِ استجلابُ منفعة، أو دفعُ مضرة، فيضطرُ إلى اصطناعِ المعروف، رجاءَ بلوغِ بغيته، والوصولِ إلى أمنيته، وهذا ليس خالصاً للهِ تعالى، يقولُ سبحانه : )قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ( .
فاتقوا الله -عباد الله -، وتأدبوا بأدبِ الكرمِ تَسعدُوا في الدنيا، وتفوزوا في الآخرة .
هَذَا وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى إِمَامِ الْمُرْسَلِيْنَ، وَقَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِيْنَ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ عَزَّ قَائِلاً عَلِيْماً: ( إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا صَلُّوْا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوْا تَسْلِيْمًا ).
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، فِي العَالَمِيْنَ إِنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ، وَعَنْ المُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ.
اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعاً مَرْحُوْماً، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقاً مَعْصُوْماً، وَلا تَدَعْ فِيْنَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُوْماً.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ كُلاًّ مِنَّا لِسَاناً صَادِقاً ذَاكِراً، وَقَلْباً خَاشِعاً مُنِيْباً، وَعَمَلاً صَالِحاً زَاكِياً، وَعِلْماً نَافِعاً رَافِعاً، وَإِيْمَاناً رَاسِخاً ثَابِتاً، وَيَقِيْناً صَادِقاً خَالِصاً، وَرِزْقاً حَلاَلاً طَيِّباً وَاسِعاً، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوْفَهُمْ، وَأَجمع كلمتهم عَلَى الحق، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظالمين، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعَبادك أجمعين.
اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا وَأَعِزَّ سُلْطَانَنَا وَأَيِّدْهُ بِالْحَقِّ وَأَيِّدْ بِهِ الْحَقَّ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ.
اللَّهُمَّ رَبَّنَا اسْقِنَا مِنْ فَيْضِكَ الْمِدْرَارِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الذَّاكِرِيْنَ لَكَ في اللَيْلِ وَالنَّهَارِ، الْمُسْتَغْفِرِيْنَ لَكَ بِالْعَشِيِّ وَالأَسْحَارِ.
اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاء وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وَبَارِكْ لَنَا في ثِمَارِنَا وَزُرُوْعِنَا يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ.
عِبَادَ اللهِ :
( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ
ساحة النقاش