محمد عبده
5 ساعة ·اللطيف !!
يقول الشيخ علي الطنطاوي:
"وقد وقع لي مرة (وذكرت هذا في بعض أحاديثي من قبل) أن دعانا كبير أسرتنا، الدكتور طاهر الطنطاوي الذي توفي من زمن بعيد رحمة الله عليه، إلى جمع في بيته يضم أفراد الأسرة جميعاً، وأعدَّ لهم مائدة وضع لهم فيها كل ما يلذ ويطيب، وهيَّأ لهم كل ما يسرُّهم ويُرضيهم. وذهبت إلى الاجتماع وكنت منشرح الصدر، فما لبثت فيه إلا نصف ساعة حتى ضاق صدري، وأحسست كأن دافعاً يدفعني إلى الخروج وأنني إن بقيت اختنقت.
واستأذنت بالانصراف فعجبوا مني، وكنت أنا أعجب من نفسي! ولا أعرف سبباً لهذا الذي حلَّ بي.
وفسد الاجتماع وضاع ما كانوا يتوقعونه من المسرَّة والانبساط، وألقوا اللوم عليَّ، وأنا أعذرهم ولا أدري لما فعلت سبباً !
وكانت داره في سفح جبل قاسيون في منطقة اسمها حي العفيف، وخرجت، ومرَّ بي الترام وكان فارغا، وهممت بأن أصعد إليه، ثم أحسست كأن يداً قوية تصدُّني عنه وتمنعني من ركوبه، فمشيت على رجلي ولا أعرف إلى أين أنا ذاهب.
وثقوا أني أصف لكم ما وقع كأنه وقع بالأمس، وقد مرَّ عليه الآن أكثر من ثلاثين سنة!!
ما مشيت إلا قليلاً، وكان الطريق مقفرا والليل ساكناً، فوجدت امرأة تحمل ولدا وتسحب بيدها ولدا، وهي تنشج وتبكي وتدعو دعاء خافتا لم أتبينه، فاقتربت منها وسألتها:
ما لك يا أختي؟
فنفرت مني وحسبتني أبتغي السوء بها، ونظرَت إليَّ، فلما رأت أنني كهل وأنه لا يبدو عليَّ ما تخشاه نفضَت لي صدرها وشرحت لي أمرها، وإذا قصتها أنها من حلب وأن زوجها يعمل موظفاً في دمشق، وأنه طردها من بيته وهي لا تعرف أين تذهب، وما لها إلا خال لا تستطيع الوصول إلى مكانه.
فقلت لها: أنا أوصلك إلى بيت خالك، واذهبي من الغد إلى المحكمة فارفعي شكواك إلى القاضي، فازداد بكاؤها وقالت: وكيف لي بالوصول إلى القاضي وأنا امرأة مسكينة، والقاضي لا يستقبل مثلي ولا يستمع إليه؟!
وكنت أنا يومئذ قاضي دمشق، فقلت لها:
لقد استجاب الله دعاءك يا امرأة لأنك مظلومة، ودعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب، وأنا القاضي، وقد استخرجني الله من بين أهلي وجاء بي إليك لأقضي إن شاء الله حاجتك، وهذه بطاقتي تذهبين بها غداً إلى المحكمة فتلقينني!".
ساحة النقاش