أ.د/جابر قميحة
محتويات |
مقدمة
أولا: المشكلة
أهمية اللغة العربية الفصحى ، ومصدر هذه الأهمية :
د.جابر قميحةتعتبر اللغة العربية الفصحى بالنسبة للأمة العربية أهم من أية لغة أخرى بالنسبة للأمة التي تتكلم بها ، ويرجع ذلك لتفرد اللغة العربية بعدد من السمات والملامح لاتتوافر للغات الأخرى :
1-فهي لغة القرآن : والقرآن هو الكتاب المنزل الوحيد المدون باللغة التي نزل بها ، بينما نزلت التوراة والإنجيل باللغة الآرامية أو السريانية ( لا اللغة العبرية كما هو معروف خطأ ).
2-وهي لغة قومية : جمعت العرب من قديم في وحدة لغوية متماسكة – على الرغم من تعدد اللهجات المحلية ، وعلى الرغم من المحاولات المتعددة لهدمها والقضاء عليها .
3-هي لغة تراثية : بمعنى أنها كانت – ومازالت – الوعاء الذي حفظ التراث العربي والإسلامي ، وصانه من الضياع ، يستوي في ذلك العلوم الإنسانية والعلوم التجريبية , إنها حفظت من الضياع كثيرا من شرائح التراث اليوناني الذى ترجم إلى اللغة العربية ، وضاعت أصوله اليونانية ، فترجمه علماء اليونان بعد ذلك من العربية إلى اليونانية .
4-وفى اللغة العربية من الملامح والخصائص الذاتية ما لايتوافر في كثير من اللغات الأخرى (وعلى سبيل التمثيل : حروف العطف ، اختلاف صور الفعل باختلاف المسند إليه ، وخصوصا فعل الأمر ، قضية الترادف ، وزيادة الوصف .... الخ ).
محاولات هدم العربية الفصحى :
وهي محاولات ارتبطت أغلبها في وجودها بحركات التنصير والإستشراق ، وتولي كبرها كثير من العلمانيين الذين ساروا على درب المنصرين والمستشرقين بالوعي أو باللاوعي ، ومن هذه المحاولات التي نجح بعضها ، وباء بعضها الآخر بالإخفاق :
1- زرع اللغات الأجنبية – والإنجليزية بخاصة – ومزاحمتها للغة العربية الأم ، حتى انفردت دون العربية بالتدريس ، كما نرى في كليات الطب ، والهندسة بجمهورية مصر العربية .
2- الانتصار للعاميات بإنشاء معاهد وأقسام مستقلة لما يسمي بالأدب الشعبي
3- محاولة الهدم بدعوى تسهيل اللغة العربية ، وقد أخذت هذه الدعوى أو هذا الادعاء صورتين .
الأولى : المناداة بإلغاء الإعراب ، وتسكين أواخر الكلمات .
الثانية : اختصار حروف الأبجدية ( بمعنى أن يكون للحرف صورة واحدة في الكلمة سواء أكان موقعه في أولها أو وسطها أو نهايتها ).
4- تغليب العاميات في وسائل الإعلام ، وأسلوب الأداء في التدريس .
مظاهر المشكلة وأسبابها
وتتعدد مظاهر أزمة اللغة العربية وأسبابها ، وتتداخل المظاهر والأسباب حتى يصعب الفصل بين ماهو مظهر وما هو سبب ، وأنا أكتفي بأوضحها ، وأغلبه يعتمد على الملاحظة الميدانية بعيدا عن التبريرات والتعليلات النظرية .
وأهم هذه المظاهر والأسباب
فى مجال الصحافة والإعلام
1-انكماش الصفحات المخصصة للأدب في الصحف اليومية ، والمجلات الأسبوعية والشهرية ، وهي لاتتسع غالبا إلا للون من الأدب الحداثي الذى لايتفق مع قيمنا الأدبية ، واللغوية .
2-ضعف الأسلوب الصحفى وغزارة الأخطاء فى صياغة المقالات ، والأخبار ، والشعر والإعلانات .
3-ضعف الإعلاميين لغويا، وخصوصا مقدمي البرامج، ونشرات الأخبار ، ويلجأ كثير منهم إلى تسكين أواخر الكلمات هربا من مسئولية الخطأ ، مع أن التسكين – في غير موضع الوقفات - يعد خطأ لا يقل عن الخطأ في ضبط الكلمات .
فى مجال التربية والتعليم
1-اضمحلال الكتاتيب فى القرى ، وقد كانت محاضن طيبة لتحفيظ القرآن الكريم ومبادئ القراءة والكتابة .
2-هبوط مستوى الطلاب فى اللغة العربية ، وخصوصا النحو ، ولعل من العوامل التي ساعدت على ذلك ضآلة الدرجة المرصودة للنحو في المدارس المصرية ، وهى (8) درجات لشعبة العلوم (10) درجات للشعبة الأدبية ، في السنة النهائية من المرحلة الثانوية ، وكذلك ضآلة الدرجة المرصودة للغة العربية بكل فروعها وهى (50) درجة للعلمي و(60) درجة للأدبي ، وهي قرابة ثلث الدرجة الممنوحة لمادة الرياضيات .,
3-ضعف المستوى اللغوي والأدبي والثقافي لمدرس اللغة العربية ، ويرجع ذلك لاسباب متعددة أهمها :
أ)هبوط المستوى الثقافي العام في الوطن العربي وخصوصا مستوى الثقافة الأدبية واللغوية .
ب)اعتماد نظام ترقيات المدرسين – في جوهره – على الأقدمية المطلقة بصرف النظر عن المستوى العلمي ، والقدرة على العطاء ومدى تطورها . فلا غرابة أن يعتبر أغلب المدرسين تخرجه وتعيينه مدرسا بداية حاسمة لقطع صلته بما يسمي( التثقيف الذاتي) الذي يعتمد على الإطلاع الواسع ، ومحاولة اكتساب الخبرة الميدانية في مجال عمله .
ج)قلة إقبال الطلاب الحاصلين على الثانوية العامة ، والثانوية الأزهرية على الالتحاق بالكليات التي يتخرج فيها مدرسو اللغة العربية ومنها على سبيل التمثيل :
1-إلغاء كلية دار العلوم بمصر للمسابقة التي كانت تعقدها لاختيار الطلاب اللائقين للالتحاق بها ، وكان امتحان الاختيار ، أو التصفية بها في فقه العبادات والمعاملات ، وتاريخ النبي ، والخلفاء الراشدين ، وأدب العصر الحديث ، والتعبير ، والبلاغة تحريرا ، وشفويا زيادة على حفظ عشرة أجزاء من القرآن الكريم .
وما يقال عن دار العلوم يقال عن الكليات الأزهرية التي كانت تشترط – بصفة أساسية – حفظ القرآن الكريم على من يريد الالتحاق بها .
2- فتح الأبواب لمن لفظته الكليات الأخرى اعتمادا على " نظام التنسيق " الذي لا اعتبار فيه إلا لمجموع الدرجات الكلية بصرف النظر عن درجة المادة التخصصية المناسبة للكلية المرشح لها الطالب ، ومن ثم يرشح لدار العلوم مثلا أكثر المجموعات هبوطا حتى لو كان الطالب حاصلا على النهاية الصغرى لمادة اللغة العربية (25/50 في شعبة العلوم ،30/60 في الشعبية الأدبية ) .
معالم على طريق الحل
وأزمة اللغة العربية أعمق ، وأبعد آمادا من أن تتناول – تشخيصا وعلاجا – في مثل هذه الوريقات ، ولكن ذلك لايمنع من أن أقدم بعض التوصيات التي أزعم أنه يمكن اتخاذها معالم وصُوي على طريق الحل . وهي تتناول المشكلة من أربع زوايا هي:
-اللغة العربية لغة دينية قومية .
-اللغة العربية مادة تعليمية .
-مدرس اللغة العربية .
-التوجيه الفني للغة العربية .
اللغة العربية لغة دينية قومية
1-إنشاء ما يمكن أن نسميه ( المجلس الأعلى للنهوض باللغة العربية) على مستوى الوطن العربي كله ، وتكون مهمته وضع خطة طويلة المدى ذات مراحل مدروسة للنهوض باللغة العربية ، وتخليصها من عوامل الضعف ، والركة والغثاثة .
وينبثق من هذا المجلس الأعلى مجالس ، أو لجان فرعية للتخلص من مشكلات اللغة العربية المحلية على مستوى البلد الواحد ( لجنة مصر- لجنة السعودية ..) على أن يكون هناك متابعة جادة للإنجازات .
2-إعداد الإعلاميين إعدادا سليما راقيا رشيدا حتى يكون العطاء سديدا .
3-أن تكون العربية الفصحى هي أداة التعبير الوحيدة في وسائل الإعلام وخصوصا التلفاز والإذاعة .
4-الإكثار من الأمسيات الثقافية والبرامج اللغوية والتعليمية في وسائل الإعلام وخصوصا التلفاز .
5-أن تكون المادة الترفيهية المقدمة (الأفلام والمسرحيات والتمثيليات ) باللغة العربية السهلة البعيدة عن التقعر ، وقد تأخذ الناس الغرابة أول مرة ، ولكن التدرج في التطبيق سيجعل من ذلك أمرا طبيعيا لاغرابة فيه . وقد يعترض على هذه الدعوى بما يأتي :
أ-من العقبات التي تعترض ذلك أن الأعمال الجاهزة حاليا من الأفلام والمسرحيات ، أغلبها الغالب بالعاميات .
ب-صعوبة استساغة هذه الأعمال الجديدة بالعربية الفصحى ، وخصوصا بالنسبة للأطفال ويمكن تفنيد هذين الاعتراضيين بما يأتي :
أ-التدرج الكمى فى تقديم هذه المادة العربية الفصحي كفيل بخلق التعود والاستساغة.
ب-أن هذه الأعمال- كما ذكرت آنفا – ستكون بالفصيحة السهلة الميسرة مما يسهل فهمها واستساغتها .
ج -ثبت أن الأطفال – بخاصة – لايرفضون مثل هذه الأعمال ما توفر فيها عناصر التشويق ، وجمال العرض ، ورقي المضمون ، وقد رأيت أبنائي الصغار يقبلون بحرص شديد على بعض أفلام " الكارتون " الناطقة بالعربية الفصحى ، أكثر من إقبالهم على نظيرات لها بالعربية، لأن الأولى فيها من مظاهر الجمال الفني ما لا يتوافر فى الثانية .
اللغة العربية مادة تعليمية :
1 جعل اللغة العربية مادة أساسية فى الجامعات العربية بكل كلياتها ، بما في ذلك الكليات التجريبية .
2)تعريب المواد العلمية ، والهندسية وأن تكون اللغة العربية هي لغة تدريس هذه المواد.
3)إنشاء شعبة اللغة العربية التخصصية في السنة النهائية من المرحلة الثانوية ، تمهيدا لالتحاق طلابها بكلية دار العلوم والكليات الأزهرية ، وأقسام اللغة العربية بكليات الآداب والتربية .
4)رفع درجات اللغة العربية بفروعها المختلفة – فى السنة النهائية من المرحلة الثانوية إلى (150 درجة ) بدلا من (50أو60 درجة ) كما هومعمول به فى المدارس المصرية .
5)تشقيق فروع العربية – ابتداء من الصف الأول بالمرحلة الثانوية – إلى " وحدات " بحيث يكون لكل وحدة كيانها المستقل تدريسا وتقييما ( نجاحا ورسوبا ) على النحو التالي:
أ- التعبير والقراءة 50 درجة
ب- النحو 50 درجة
ج –النصوص والأدب والبلاغة 50 درجة
6)اختصاص المدرس بتدريس " وحدة واحدة " من الوحدات الثلاث السابقة ولايقوم بتدريس أكثر من وحدة إلا لضرورة ملحة ، ولا شك أن هذا (التخصيص) سيمكن المدرس من التوفر على مادته ، وتعمقها والتمكن منها .
7)إضافة مادة جديدة في السنة النهائية من المرحلة الثانوية هي مادة ( جماليات القرآن الكريم ) يرصد لها (50) درجة تبرز ما في القرآن من السحر البيانى ، والقيم التعبيرية والتصويرية بوصفه إعجازا بيانيا .
وواضح أن هذا النوع من الدراسة يختلف عن التفسير الذى يعطي اهتمامه الأكبر للشرح اللغوي وإبراز القيم الدينية ، والاجتماعية والإنسانية .
مدرس اللغة العربية :
والمدرس هو قطب الرحى فى هذا المجال . ومما يؤسف له أن مدرسي اللغة العربية حاليا هابطو المستوى وخصوصا الذين تخرجوا حديثا ، للأسباب التي ذكرتها آنفا .
وحتى يستعيد مدرس اللغة العربية مستواه الطيب كي يتمكن من العطاء السليم السديد اوصي بما يلي:
1)نشر مراكز تحفيظ القرآني في القرى والمدن وتشجيعها ، ومنح القائمين عليها ، والملتحقين بها حوافز مادية قيمة .
2)إعادة المسابقة ( امتحان القبول) لدار العلوم ، واشتراط حفظ القرآن أو نصفه على الأقل بالنسبة للملتحقين بالكليات الأزهرية .
3)منح الطلاب حوافز مادية شهرية مشجعة ( وكان هذا النظام معمولا به من قبل في دار العلوم والأزهر ).
4)إلغاء نظام الترقية بالأقدمية المطلقة ، بحيث لايرقى المدرس ترقية مادية أو أدبية ( من الإعدادي إلى الثانوي ، ومن مدرس عادي لمدرس أول ، ثم إلى وكيل ، أو ناظر أو موجه .... الخ ) إلا بعد أدائه امتحانا جادا في عدد من الكتب الأدبية ، والنقدية ، والتربوية ، وبعد مقابلة جادة عادلة مع لجان تشكل من رجال مشهود لهم بالكفاية في مجال العلم والتعليم والترية .
5)إدخال مادة التربية ، ومادة طرق التدريس فى السنتين الأخيرتين فى مرحلة الليسانس فى الكليات التي يتخرج فيها المدرسون ، على أن يرصد النصف الأخير من السنة الأخيرة للتربية العملية .
التوجيه الفني للغة العربية
وظيفة الموجه من الخطورة بمكان، لأن توجيهاته تؤدي إلى ما يمكن تسميته " بالنتائج المركبة أو المزدوجة "، فهو يوجه مدرسيه ويرشدهم ، وهذه التوجيهات تنعكس على التلاميذ إذا أخذ المدرس نفسه بها . ومن هنا تأتي خطورة مهمته . لذا أوصى في هذا المجال بما يأتى :
1-ألا يختار لهذه الوظيفة إلا من كان على مستوي رفيع جدا – لا من العلم والثقافة فحسب – ولكن من القدرة التربوية على التوجيه والإرشاد كذلك .
2-تخفيف العبء عن الموجه ، بحيث لا يزيد نصابه علي:
35 مدرسا في المرحلة الابتدائية .
25 مدرسا في المرحلة الإعدادية ( المتوسطة ) .
20 مدرسا في المرحلة الثانوية .
3-تكون مهمة الموجه ذات شقين : شق عملي ، وشق تقييمي تقديري
أ- الشق العملي التعليمي : ويتحقق بقيامه بالتدريس الفعلي في فصول المدارس التي يشرف عليها تدريسا نموذجيا بمحضر من المدرسين لحصتين أو ثلاث في الأسبوع ، بحيث يغطي كل فروع المادة كل شهر .
ب- الشق التقييمي التقديري : ويعني ما يسجله الموجه فى تقريره السنوي أو نصف السنوي عن كل مدرس من مدرسيه .
وواضح أن الشق الأول- الذي لا وجود له حاليا – هوالأهم وهو الأعمر بالفائدة ، لأن الموجه عمليا يكون مثلا ونموذجا يحتذي للمعلمين في تدريس اللغة العربية مادة وطريقة .
وعودا على بدء أقول أن ما قدمته في هذه الوريقات أقل ، وأضعف من أن يحيط بالمشكلة تشخيصا وحلا ، وكل ما قدمته لايزيد على كونه " ملاحظات ميدانية " ,ورؤية شخصية لما أزعم انه " معالم على طريق الحل " فإذا أصبت فلي أجران ، وإن جانبت الصواب أو جانبني الصواب فلي أجر واحد ، وأجر واحد ليس بالحظ اليسير في زمننا هذا . والحمد الله في الأول والآخر.
المصدر:رابطة أدباء الشام
ساحة النقاش