الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
أيها الإخوة الكرام، حديث اليوم رواه ابن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجرحه البخاري ومسلم معاً.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ، وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا ))
[متفق عليه]
الصدق والكذب: أنواعه وأمثلته من الواقع
حقيقة الصدق
أيها الإخوة، قد يتبادر لبعض المسلمين أن الصدق أنك إذا سُئلت عن شيء أن تجيب إجابة صحيحة وقعت، هذا جانب من جوانب الصدق، ولكن الصدق يعد سمة أساسية في شخصية المؤمن، فهو صادق مع نفسه،وصادق مع ربه، وصادق مع خلقه، وصادق مع البهيمة.
حقيقة الكذب
إن كل أنواع الكذب تهدي إلى الفجور، الكذب أن تقول كلاماً لست قانعاً به، الكذب أن تقول كلاماً خلاف الواقع، الكذب أن توهم إنساناً بشيء، وأنت تريد في الحقيقة شيئًا آخر.
(( كَبُرَتْ خِيانَةً أنْ تُحَدِّثَ أخاكَ حَدِيثاً هُوَ لَكَ بِهِ مُصَدِّقٌ، وأنْتَ بِهِ كاذِبٌ ))
[ رواه البخاري وأبو داود عن سفيان بن أسيد أحمد والطبراني عن النواس]
الكذب أيها الإخوة ملايين الأنواع، الإيهام كذب، التدليس كذب، الإيماءة كذب ، أن تعطي وصفاً لبضاعة لا ينطبق عليها كذب، لو ألغي الكذب من حياتنا لكنا مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
صدق النبي
أول صفة وُصِف بها النبي عليه الصلاة والسلام أنه صادق أمين، لا ازدواجية أبداً، ليس عنده شيء مبطن وشيء ظاهر، شيء معلن وشيء غير معلن، شيء يتاجر به للاستهلاك المحلي، وشيء حقيقي، شيء صوري وشيء حقيقي، كل أنواع الازدواجيات نوع من النفاق، ليس هناك كلام يقوله المؤمن إرضاء لزيد ويعني به شيئاً آخر، كل صفات الكذب تؤدي إلى المعصية، والمعصية تنتهي بصاحبها إلى النار، وكل صفات الصدق تؤدي إلى البر، والبر يؤدي إلى الجنة.
تصوروا أيها الإخوة أن أحد علماء الحديث رحل من المدينة المنورة إلى البصرة ليتقلى حديثاً عن واحد من الرجال، وصل إليه من المدينة إلى البصرة في أشهر على الناقة، فلما وصل إليه رآه يوهم فرسه أن في رداء شعيراً، فاقترب منه فلم يجد فيه شيئاً، فكف عن سؤاله، وقال: الذي يكذب على فرسه ليس أهلاً أن ينقل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كان عليه الصلاة والسلام عند بعض أصحابه، وسمع امرأته تقول لابنها الصغير: تعال هاك، يعني تعال خذ، وضمت يدها، فقال عليه الصلاة والسلام: ماذا أردت أن تعطيه ؟ قالت: تمرة، قال: أين هي ؟ رآها في يدها، قال: أما إنك لو لم تفعلِي ذلك لعدت كُذيبة.
اجتناب الكذب أمام الصغار خاصة
لا ينبغي أن تكذب على طفل صغير، وأساساً الطفل يتعلم الكذب من أهله، حين يقال له مثلا: اسكت وفي المساء نطعمك أكلة طيبة، أو اركن الآن، وفي المساء لك نزهة ممتعة، فلا يجد أكلة طيبة نزهة ممتعة، كله كذب في كذب، إذاً هو يكذب على من حوله.
أنا أذكر أحد الإخوة تزوج امرأة من كندا بعد أن أسلمت، وهي تمشي مع ابنها أعطته قطعت سكر، بعد 300 متر سألته: أين الغلاف ؟ قال: رميته في الطريق، فرجعت معه 300 متر، وبحثت عن الغلاف، وقالت: خذه ضعه وضعه في سلة المهملات.
بالمناسبة أيها الإخوة، أكثر العادات السيئة، ألوان الكذب، النفاق، الاحتيال يتعلمها الطفل بين الرابعة والعاشرة، وهذه أخطر سنواته.
عندنا مثلا معلّم مقهور فقير يدخن مثلاً، فإذا رأى الطفل معلمه يدخن قد يأتي إلى البيت ويقول: المعلم تكلم كذا، الأب الجاهل يقول: حمار لم يفهم شيئًا، فيحدث الأب في ابنه حالات انفصام الشخصية، هذا معلم، والمعلّم أحياناً يظلم، حينما يُضرب الطفل فيشكو له المضروب، فيضرب الاثنين معاً.
والله هناك أيها الإخوة جرائم ترتكب بحق الصغار، كطفل لم يستوعب الموضوع، فيسمع كلمة أقسى من جبل، أنت غبي، وتبقى هذه الكلمة عالقة بذهنه حتى يموت.
إخواننا الكرام، إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم، والعلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك، فإذا أعطيته بعضك لم يعطيك شيئاً.
انفصام الشخصية وعلاقته بالصدق
الصدق أن تكون موحداً، وليس مزدوجاً، نحن نتصور إنسانا معه انفصام شخصية، هذه الحالة الحادة مرض نفسي، لكن نحن معظمنا معه انفصام شخصية، لكن حالة مخففة لا أحد يشعر بها، كيف ؟ له موقف أمام الناس، أما في بيته فله موقف ثانٍ، أمام الناس يبتسم، يعتذر، أنيق، في بيته يسب ويشتم، إذا لك سلوك في البيت، وسلوك خارج البيت، سلوك مع من تحب، وآخر مع من لا تحب، هذا نوع من انفصام الشخصية.
بالمناسبة جاء أحدهم إلى طبيب نفسي فقال له: دكتور لك هل أن تحدث في انفصام شخصية ؟ قال له: لماذا ؟ قال له: مللتُ وحدي، أريد شخصية ثانية !!
الصدق يكون متوحدا، سرك كعلانيتك، خلوتك كجلوتك، رؤيتك الداخلية كنطقك، ما هناك توحد فأنت مؤمن.
أيها الإخوة، حينما النجاشي سأل جعفر بن أبي طالب عن رسول الله أجابه فَقَالَ:
(( أَيُّهَا الْمَلِكُ، كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ، وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ، وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ، وَنُسِيءُ الْجِوَارَ، يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ، فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ، وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ … ))
[أحمد عن أم سلمة]
أهم شيء صِدْقه.
المؤمن صادق، المؤمن لا يكذب.
بالمناسبة أيها الإخوة، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْخِلَالِ كُلِّهَا إِلَّا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ ))
[ رواه أحمد]
يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْخِلَالِ كُلِّهَا إِلَّا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ
هناك مؤمن أنيق جدا، ومؤمن أقل أناقة، مؤمن بالتعبير العامي ( صرّيف )، مؤمن دقيق بمصروفه، مؤمن عصبي، مؤمن هادئ، مؤمن انعزالي، مؤمن اجتماعي، مؤمن يحب السفر، مؤمن يحب الإقامة في البيت، هذه طباع لا تقدم ولا تؤخر، ولا تخدش مروءة الإنسان، لذلك قال عليه الصلاة والسلام:
(( يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْخِلَالِ كُلِّهَا إِلَّا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ ))
، فإذا كذب أو خان فليس مؤمناً، لأن المؤمن لا يكذب.
هناك إنسان إيمانه ضعيف، وشاب في ريعان الشباب، وخلا بامرأة، وزلت قدمه، قد يكون هذا، والدليل أن فيه حدّ الجلد، لمن هذا الحد ؟ لمن كان مؤمناً، وإن كان مؤمنًا بالوضع الطبيعي:
﴿ وَلَا يَزْنُونَ﴾
( سورة الفرقان الآية: 68 )
فقد يزني، ولكنه لا يكذب، المؤمن لا يكذب، لأن الكذب لا شهوة فيه ضاغطة، فيه خبث، ومؤامرة، لذلك لا يمكن أن يوصف المؤمن بأنه يكذب، لأن الكذب ينفي عنه الإيمان، لكن هناك معاصٍ أساسها شهوة غالبة، وضعف إيمان المسلم، وضعف مراقبة الله عز وجل فتزلّ قدمه، طبعاً يتوب، وقد يقام عليه الحد، لكن المؤمن لا يكذب، لذلك مجتمع المؤمنين مجتمع الصدق.
(( عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ ))
هذا تسلسل، لو أن صاحب مصلحة وحرفة يعلم أنه لا يمكن أن ينجز العمل إلا بعد شهرين، ويقول: أنجزه في عشرة أيام، فيأتيه ضغط عمل كبير، لكنه أحب أن يكذب عليه، فهناك حرف ـ والعياذ بالله ـ مبنية على الكذب، مبنية على وعود كاذبة، لذلك هلك المسوّفون، إنما أهلك الصنّع قول: غدٍ أو بعد غدٍ، ما الذي يهلك الصانعين أصحاب المصالح والحرف ؟ التأجيل والتسويف، إنما أهلك الصنّع قول غدٍ أو بعد غدٍ.
فلذلك الحد الأدنى أن السمة الأساسية في المؤمن أنه لا يكذب.
(( عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ ))
أنا لا أبالغ إن قلت: قد يكون في ألف نوع من الكذب، أحياناً لحم مرغوب لبياض ناصع فيه، وإضاءة بالبرادات تجعله أبيضاً ناصعاً، الإضاءة الشديدة بلون معين تجعله أبيض ناصع، هذا نوع من الغش هذا، أحياناً توهمه أنه أوربي وهو تايوان، هات لنا المساطر التي أتتنا من بريطانيا، الزبون ما عنده إمكانية أن يعرف بالضبط الجهة الصانعة، فالكذب في البيع والشراء لا يعد ولا يحصى، بالإدلاء بالتصريحات، بالبيانات، لذلك عندما تكون حياة الناس كلها كذب هلكوا عند الله.
أروي لكم قصة صديق مقيم في السعودية، في موسم الحج إذا قتل الإنسان إنسانًا خطأ فالدية 200 ألف ريال، وفي غير الموسم مئة ألف، قال لي: كنت أمشي في طريق عريض فظهر من طريق فرعي شاحنة صغيرة، فلما رأيتها خففت السرعة إلى الأربعين، هي بقيت واقفة، فلما بقيت واقفة غلب على ظني أنها واقفة لم تمشِ، فأسرعت، بعد ما أسرع جاءت أمامه، فقتل الزوجة وولدين، هو زوج، وزوجة، وولدين، ما نفد إلا الزوج، هذا البدوي استحق 600 ألف ريال فوراً، أي عشرة ملايين ليرة، جاءت الشرطة، قال له: والله الحق علي، هو وقف، نظرت إلى هذه الكلمة ؟ خسر عشرة ملايين، هذا المؤمن، كلمة واحدة قالها: الحق علي، لما رآه واقفًا ولم يتحرك رجع وأسرع، بعد ما أسرع خرج بسرعة أمامه، هو جاهل بالقيادة، لكنه احترم الحقيقة، قال له: والله الحق علي، طبعاً خسر الدية كلها بكلمة واحدة، أنا عندي هذا التصريح الصادق بكل حضارة الغرب.
الناس الآن يكذبون علينا كل يوم، كل شيء تسمعونه كذب بكذب بِكذب، أكبر جهة تكذب في العالم الغرب، لكنه كذب بذكاء، نحن نكذب بغير ذكاء.
فيا أيها الإخوة،
(( عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ، وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا ))
والحمد لله رب العالمين
ساحة النقاش