alyarmouksociety

الأسرة المتماسكة تواجه تحديات الحاضر والمستقبل

 

"   الأمس بعين اليوم":

الذكاء الاصطناعي: هل يكون الطعنة الأخيرة في كبرياء الإنسان ونرجسيته؟ *د. غسان شحرور

 

      طالما اعتقد الانسان على مر العصور، أنه بصفاته وقدراته يسيطر على كل شيء على هذه الأرض، وأنه بذلك سيدها دون منازع، وقد أخذت أناته بالتضخم عندما اعتقد العلماء والفلاسفة قبل ذلك، أن هذه الأرض هي الكون كل الكون، وأنه أي الإنسان خلق ليتحكم في هذا الكون الشاسع، وظل هذا الاعتقاد مسيطرًا لقرون طويلة، حتى جاء العالم البولندي "كوبرنيكوس" عام 1542 بنظريته التي وجد فيها  أن الشمس هي مركز الكون وأن الأرض الشاسعة الواسعة، ما هي الا ذلك الجزء الصغير جدًا من هذا الكون الكبير جدًا جدًا، فشكل ذلك صدمة كبيرة طعنت كبريائه. 

 

     لم يقف الأمر عند هذا الحد، حتى جاء الإنجليزي "تشارلز داروين" بنظريته المثيرة للجدل "أصل الأنواع" في  عام 1859 ، ومفادها أن الإنسان نوع من المخلوقات تطور من نوع آخر أدنى منه، لا أكثر ولا أقل، وشأنه في ذلك شأن باقي الأنواع الموجودة على وجه الأرض.

 

      لم يقف الأمر عند ذلك أيضا بل استمرت الطعنات في كبرياء وعجرفة الإنسان، ووصلت إلى ذروتها في ما كتبه الأديب الكبير الساخر الأمريكي "مارك توين" عام 1905،  تحت عنوان “الجنس البشري الملعون” ، ومن طرائف المقالة المقارنة التي وضعها "توين" بين الإنسان والحيوان، ويصر "مارك توين" على أن التجارب والحروب والنزاعات على وجه الأرض أقنعته أن الإنسان هو الوحيد الذي يحمل في صدره الضغن والأذى والحقد، وينتظر حتى تتاح له الفرصة ليأخذ بثأره ويقوم بالقتل الجائر والتخريب والنهب والاغتصاب واستعباد الآخرين بسبب وبغير سبب، بينما الحيوانات العليا لاتعرف الانتقام وكثيراَ من أفعال الإنسان، وهكذا، نجد "مارك توين" يعلن أن الدناءة والهمجية صفات خاصة بالإنسان وهو الذي ابتدعها. 

 

        ثم جاء  "سيجموند فرويد" عام 1916، الذي وجد أن سلوك الإنسان وتصرفاته تعود إلى اللا وعي وليس الوعي، وما أفعالنا وسلوكنا وابداعنا، والتي نظنها إرادية محضة، إلا تعبير عن دوافع عميقة توجد وتقبع في اللا شعور، ولا فضل لنا فيها، وهي بدورها تتحكم في حياتنا وأفعالنا تحت مسميات مختلفة. 

 

       في السنوات الاخيرة، طورت غوغل و"أوبن إيه آي"Open AI، وغيرها من الشركات، أنظمة وبرمجيات قادرة على معالجة كميات كبيرة جدا جدا من البيانات، في نفس اللحظة، فأصبحت هذه الأنظمة، في بعض جوانبها، أكثر قدرة من الدماغ البشري، وبالتالي فهي خطيرة للغاية في قدرتها الهائلة خاصة إذا لم يحسن استخدامها وتنظيمها ، وتزداد هذه المخاوف من ارتفاع أعداد مستخدميها التي تبلغ الملايين كل أسبوع وهي أرقام لم يسبق لها مثيل.

 

      نعم، هناك مخاوف جدية من إمكانية استخدام الذكاء الاصطناعي لتوليد معلومات وصور أو مقاطع فيديو أو نصوص مزيفة أو التلاعب بالمحتوى الرقمي باستخدام أدوات التعلم الآلي المتقدمة، مما يؤدي إلى انتشار المعلومات المضللة على نطاقات ضخمة عبر الشابكة (الإنترنت)، وهذا يمكن أن يقوض سلامة المعلومات ويقوض الثقة في مصادرها وفي نزاهة المؤسسات المختلفة والأفراد، بالإضافة الى تقويض نظام وقواعد الملكية الفكرية.

 

      وقد تتيح  برمجيات الذكاء الاصطناعي المطورة بإمكانياتها الهائلة فرصة اختراق البيانات البنكية والبرامج المالية، واستغلالها، وفرصة الوصول إلى نظم التحكم بأسلحة الدمار الشامل الأمر الذي يمكن الجهات التي تصل إليها من التسبب في كوارث إنسانية بيئية يصعب تصورها، ومن المتوقع أن تقود تطبيقات الذكاء الاصطناعي أيضا إلى الاستغناء عن ملايين الوظائف التعليمية والإدارية والطبية والمالية والاجتماعية والعسكرية وغيرها، وفي نفس الوقت يتطلب الأمر تغييرًا كبيرًا في طبيعة عمل الوظائف الأخرى، هذا بالإضافة إلى وجود فرص للشركات المصنعة ودولها لاستغلال المجتمعات المستهلكة، وإساءة ذلك بكل الأشكال الممكنة، مما يخلق نزاعات وصراعات كبيرة، مالم يتم حماية المستهلكين من جشع هذه الشركات، وهيمنة واحتكار الذي يملك وينتج هذه التطبيقات، واستغلال المجتمعات المستهلكة التي لاتملك. 

 

     هذا، ومن المتوقع أن يزداد اعتماد الإنسان في تسيير شؤون حياته على تطبيقات الذكاء الاصطناعي لاسيما الروبوتات البشرية،  فيؤثر ذلك على مهاراته وقدراته ومعارفه ودوره الاجتماعي والإنساني بأشكال ودرجات مختلفة إلى حد يصعب معها التنبؤ بتداعياتها على حياته، بالإضافة إلى تأثيرها أيضا وبأشكال مختلفة على الصحة العقلية والصحة الجسدية للإنسان، امتدادا إلى أمنه الاجتماعي والإنساني، وغير ذلك مما لا يتسنى ذكره في هذه العجالة، فالصحة كما نعلم وفق تعريف منظمة الصحة العالمية، هي حالة من اكتمال السلامة بدنياً وعقلياً  واجتماعياً، لا مجرد انعدام المرض أو العجز. 

 

      وأمام التسارع المنقطع النظير في انتشار تطبيقات الذكاء الاصطناعي وتطورها في كل المجالات، دون تنظيم وسيطرة، ذهب ذلك بالبعض إلى القول أنها ثورة تفوق في تأثيرها استخدام الإنسان القديم للنار، وتأثير الثورة الصناعية، واستخدام الشابكة أو ما يعرف بالإنترنت، وهو أمر يصعب التنبؤ الدقيق بتداعياته السلبية والإيجابية، والتي قد تقود إن لم نحسن تنظيمها والسيطرة عليها وتسخيرها لصالح الإنسان في كل مكان، إلى التمهيد للقضاء على هذا الإنسان الذي عرفناه في الماضي والحاضر، وهذا ما دفع المفوضية الأوروبية إلى اقتراح مشروع قانون تاريخي للتنظيم والسيطرة على تطبيقات الذكاء الاصطناعي بهدف حماية المواطنين الأوروبيين من مخاطر هذه التكنولوجيا.

 

       وأخيرا، يمكننا القول ان الاستخدام المتسارع الواسع للذكاء الاصطناعي دون سيطرة وترشيد وتدريب وتوعية، هو سلاح خطير قد يقود إلى تداعيات كارثية وطعنة قاتلة، قد تطيح بالإنسان الذي خبرناه في الماضي والحاضر، مالم يتخذ المجتمع الإنساني على صعد الفرد والأسرة والمنظمات وطنيا وإقليميًا وعالميا الاجراءات الاستباقية تشريعيًا وجزائيا وتوعويا.

 

"   الأمس بعين اليوم": زاوية ثقافية يكتبها د. غسان شحرور

من رواد المعلوماتية الطبية في العالم وفق موسوعة (ليكسيكون) الدولية 2015،

Dr. Ghassan Shahrour, Biographical Lexicon of Medical Informatics, The National Library of Medicine    http://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC4584086 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 351 مشاهدة
نشرت فى 1 يوليو 2023 بواسطة alyarmouksociety

ساحة النقاش

جمعية اليرموك السورية

alyarmouksociety
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

105,632