أمام ما يعيشه الأدب عامة من أزمة تتمثل في ابتعاده عن هموم الناس، لا مفر لنا إلا أن نعود إلى الماضي ليس للبكاء على الأطلال، بل للتمحيص وتحليل التجربة لاستشفاف العبر، واستنهاض الهمم للنهوض من الكبوة.

يجيش في حنايا المجتمع، رصدوا همومه وأشجانه، وإن كان بعض الشعراء فضلوا العيش في أبراجهم العاجية، كشعراء بلاط، واقتصروا على غرض المدح، إلا أن الأغلبية من الشعراء، انخرطوا في الحياة المعيشية للناس ورصدوا كل صغيرة وكبيرة، ولعب هؤلاء دوراً "إعلامياً"، بارزاً في نقل صورة ما يعيشه الناس على مختلف طبقاتهم وفئاتهم.

ونحن نقرأ الشعر الجاهلي وشعراء المعلقات لا نملك إلا أن نقف مشدوهين أمام هذه اللوحات الشعرية التي رسمها مبدعو الشعر العربي، وحق لها أن تكتب بالذهب وتسمى المذهبات.

قال الأصمعي: أبرع بيت قالته العرب قول أبي ذُؤَيب:

والنفسُ راغبة إذا رغَّبتَها وإذا تُرَد إلى قليل تَقْنَعُ

وأحسن ما قيل في الكِبَر قولُ حُمَيْد بن ثَوْر الهِلالي:

أرَى بَصرِي قــــــد رَابَني بعد صِحة

وحسبــــــُك داءً أن تَصِح وتَسْلَمــا

وأحسن مَن ابتدأ مرثية أوس بن حَجَر في قوله:

أيتُها النفسُ أجْمِلي جَزَعا إن الـــذي تَكْرَهِين قد وَقَعا

وأغرب مَن ابتدأ قصيدة النابغة في قوله:

كِلينِي لِهَمٍّ يا أميمة ناصِبٍ وليلٍ أقاسِيهِ بَطِيءِ الكواكبِ

وقيل إن أحسن بيت قيل في الجُبْن لنَهْشَل بن حَري:

فلو كان لي نفسان كنتُ مُقاتلاً بإحداهما حتى تَموتَ وأسلما

ومما قيل في قَساوة القلب بيت المُخبَّل:

يُبْكَى علينا ولا نَبْكِي على أحدٍ لنحنُ أغلظُ أكباداً من الإبلَ

ومن أجمل ما قيل في الاستعفاف بيت عَبِيد:

مَنْ يسأل الناسَ يَحْرِمُــــــوه وسَـــــــــائِلُ اللـه لا يَخِيبُ

ومن جميل ما قيل في الاحتفاظ المال بيت مَنْجوف بن مُرّة السلمي:

وأدفعُ عن مالي الحقوقَ وإنَهُ لجٌم فإنّ الدهرَ جَم مصائبُهْ

أما في إكرام النفس فيقول الحُطَيئة في معنى جميل:

وأكرِمُ نفسي اليومَ عن سُـــــوء طعْمَةٍ

ويَقْنَي الحياءَ المرء والرمحُ شاجِـرُه

وفي الإقدام قول كعب بن زهير:

نَصِلُ السيوفَ إذا قَصرْنَ بخَطْوِنَا قُدماً ونُلْحِقُها إذا لم تَلْحَقِ

وأجمل ما قيل في الصبر قول عمرو بن الإطْنابة:

وقَوْلِي كُلَما جَشَأتْ وجاشت مكانَكِ تُحْمَدي أو تَستريحي

ولقَطَري بن الفُجَاءة:

وقَوْلي كلما جَشَأتْ لنفسي من الأبطال وَيْحَكِ لا تُرَاعِي

فإنكِ لو سألته بقاء يـــــــومٍ على الأجَل الذي لكِ لم تُطَاعِي