الحمد لله، له أسلمت، وبه آمنت، وعليه توكلت، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وأصحابه أجمعين وبعد..

يعيش المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، في ظلال أيام مباركة من شهر ذي الحجة، حيث يجتمع ضيوف الرحمن من الحجاج في أطهر البقاع، في مهبط الوحي الذي عم البلاد، لتأدية شعيرة من شعائر الإسلام وركن من أركان الدين، تلبية لنداء أبينا إبراهيم عليه الصلاة والسلام بالحج إلى بيت الله الحرام (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ)، “سورة الحج، الآية 27”.

والحج ركن من أركان الإسلام، وهو عبارة عن مدرسة إيمانية تربوية، يجتمع فيها شرف الزمان وشرف المكان وشرف العمل. فالزمان: أيام عشر ذي الحجة، التي أقسم الله سبحانه وتعالى بها فقال: (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ)، “سورة الفجر، الآيتان 1 - 2”، فهي أيام وأوقات مباركة .

 

والمكان: بيت الله الحرام، والمشاعر العظام: منى، وعرفة، ومزدلفة، قال تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) “سورة آل عمران، الآيتان 96 - 97”، فهذه أمكنة مقدسة ومباركة.

 

العمل الصالح

العمل: أحب العمل إلى الله، قال - صلى الله عليه وسلم -: “ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام - يعنى العشر - قالوا: يا رسول الله ! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه، وماله، فلم يرجع من ذلك بشيء”، (أخرجه البخاري)، فالعمل الصالح في هذه الأيام عظيم الأجر كثير الثواب. ومن تلك الأيام العشر المباركة في هذا الشهر الكريم، يوم عرفة الذي هو اليوم التاسع من شهر ذي الحجة، والذي يوافق الخميس المقبل إن شاء الله، وهو أعظم أيام العام في الإسلام، حيث يجتمع الحجاج في موقف عرفة، ويلتقون فيه على صعيد واحد، وفي مشهد عظيم جليل مؤثر، يستشعرون جميعهم العبودية الخالصة لله سبحانه وتعالى.

ويوم عرفة من أيام المسلمين المشهورة التي يجتمع فيها حجاج بيت الله الحرام الذين جاءوا من كل مكان، لباسهم واحد، وهمهم وآلامهم وآمالهم واحدة، لا فرق فيهم بين الكبير والصغير، ولا الغني والفقير، ولا القوي والضعيف.

أكثر الأيام خيراً

قد جاء في فضل يوم عرفة، أنه خير يوم طلعت فيه الشمس، وأكثر الأيام خيراً وبركة، إنه اليوم الذي يباهي الله به ملائكته المقربين، كما جاء في الحديث: “إذا كان يوم عرفة، فإن الله تبارك وتعالى يباهي بهم الملائكة فيقول: انظروا إلى عبادي جاءوني شعثاً غبراً ضاحين، جاءوا من كل فج عميق، يرجون رحمتي ولم يروا عذابي، أشهد كم أني قد غفرت لهم، فلم يُرَ يومٌ أكثر عتيقاً من النار من يوم عرفة”، (أخرجه ابن خزيمة).

كما وورد في فضل يوم عرفة أنه يكفر الذنوب العظام، وتلك نعمة من أجلّ نعمة الله على عباده، قال صلى الله عليه وسلم: “صوم يوم عرفة يكفر السنة الماضية والباقية”، (أخرجه مسلم).

وورد أيضاً أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: “ما رُئي الشيطان يوماً هو فيه أصغر، ولا أحقر، ولا أدحر، ولا أغيظ منه في يوم عرفة، وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام، إلا ما رأى يوم بدر “ قيل: وما رأى يوم بدر يا رسول الله ؟ قال: “ أما إنه رأى جبريل يَزَع الملائكة “، (أخرجه مالك).

اكتمال الإيمان

في يوم عرفة أتم الله نعمته على الإنسانية كما في قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) وهو الإسلام، حيث أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أنه قد أكمل لهم الإيمان، فلا يحتاجون إلى زيادة أبداً، وقد أتمه الله فلا ينقصه أبداً، وقد رضيه الله فلا يسخطه أبداً، كما وروي عن طارق بن شهاب قال: جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين، إنكم تقرؤون آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت، لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، قال: وأي آية؟ قال قوله: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي)، فقال عمر: والله إني لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والساعة التي نزلت فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم: عشية عرفة في يوم جمعة)، “تفسير القرآن العظيم لابن كثير ج 2 ص 19 - 20”.

حجة الوداع

قد حج الرسول صلى الله عليه وسلم في السنة العاشرة من الهجرة راكباً ناقته القصواء، وبهذه المناسبة نود الإشارة إلى أن هذه الحجة تسمى حجة الوداع لأن الرسول عليه الصلاة والسلام ودع الناس فيها قائلاً: “لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا”، ولم يحج بعدها، وفي حجة الوداع خطب - عليه الصلاة و السلام- خطبته المشهورة في يوم عرفة في موقف خالد، ومشهد رائع وسط آلاف المؤمنين المحبين لنبيهم ودينهم، ألقى عليهم دستور الحياة، ووصيته الجامعة التي تكفل لهم السعادة في الدنيا والآخرة،كما وضح - عليه الصلاة والسلام - أمور الإسلام، وبين حقوق الإنسان، وتحدث عن حقوق المرأة، وما عليها من واجبات، وفصل القواعد العامة لكل مناحي الحياة الاجتماعية، والكل منتبه ومشدود إلى حيث الرحمة المهداة - صلى الله عليه وسلم-.

هذا الخطاب الجامع الذي اشتمل على حرمة الدماء والأموال والأعراض، وحرمة الربا والأخذ بالثأر، وعلى أداء الأمانة، وعلى مخالفة الشيطان، واشتمل أيضاً على حقوق النساء، وعلى الاعتصام بالكتاب والسنة هذه الخطبة تحتاج إلى مجلدات عند شرحها، وهي عبارة عن ميثاق عظيم على البشرية أن تعمل به وأن تستفيد منه.

تلبية النداء

لدى مراجعتي لموضوع حجة الوداع في السيرة النبوية لفت نظري أمران أحب أن أذكرهما:

الأمر الأول: هذا الجمهور الضخم من المؤمنين الذين لبوا النداء وجاءوا من كل حدب وصوب مصدقين برسالته، مطيعين لأمره، وقد كانوا قبل ثلاث وعشرين سنة على الوثنية والشرك بل كان كثير منهم قد ناصبوه العداء، وجالدوه بالسيوف والرماح، ما الذي أحدث هذا الانقلاب العجيب في عقيدتهم وسلوكهم، إنه الإيمان بالله، إنه تأييد السماء لرسوله عليه الصلاة والسلام لأنه على الحق.

والأمر الثاني: هذا الخطاب القوي المحكم الذي خاطب به الرسول الكريم الناس أجمعين، فيه الخير كل الخير للإنسانية كلها، والأمن والاستقرار للمجتمعات كلها، والصلاح والفلاح للبشرية على مدى الدهر.

الدكتور يوسف جمعة سلامة

خطيـب المسـجد الأقصـى المبـارك

المصدر: الاتحاد

ساحة النقاش

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

1,276,844