المصباح....كتاب الأدب

للمحتوى الثقافي والأدبي العربي

رفع رأسه إلى السماء المظلمة وهو يقاوم شتيمة كفر صغيرة أوشكت أن تنزلق عن لسانه، واستطاع أن يحس الغيوم السوداء تتزاحم كقطع البازلت، وتندمج ثم تتمزق.
إن هذا المطر لن ينتهي الليلة، هذا يعني انه لن ينام، بل سيظل منكبا على رفشه، يحفر طريقا تجر المياه الموحلة بعيدا عن أوتاد الخيمة، لقد أوشك ظهره أن يعتاد ضرب المطر البارد.. بل إن هذا البرد يعطيه شعورا لذيذا بالخدر.
انه يشم رائحة الدخان، لقد أشعلت زوجه النار لتخبز الطحين، كم يود لو انه ينتهي من هذا الخندق، فيدخل الخيمة، ويدس كفيه الباردتين في النار حتى الاحتراق، لا شك انه يستطيع ان يقبض على الشعلة بأصابعه، وان ينقلها من يد إلى أخرى حتى يذهب هذا الجليد عنهما.. ولكنه يخاف ان يدخل هذه الخيمة، ان في محاجر زوجه سؤالا رهيبا ما زال يقرع فيهما منذ زمن بعيد، لا، ان البرد اقل قسوة من السؤال الرهيب.ستقول له اذا ما دخل وهي تغرس كفيها في العجين، وتغرس عينيها في عيونه:هل وجدت عملا؟ماذا سنأكل اذن؟ كيف استطاع(ابو فلان) ان يشتغل هنا وكيف استطاع(ابو علنتان) ان يشتغل هناك؟ثم ستشير الى عبد الرحمن المكور في زاوية الخيمة كالقط الكبول، و ستهز رأسها بصمت ابلغ من الف الف عتاب.. ماذا عنده الليلة ليقول لها سوى ما يقوله في كل ليلة..
-هل تريدينني ان اسرق لا حل مشاكل عبد الرحمن؟
ونصب قامته بهدوء لاهث، ثم ما لبث ان عاد، فاتكأ على الرفش المكسور، وانشأ يحدق بالخيمة الداكنة مستشعرا قلقا عظيماوهو يسأل نفسه:
- وماذا لو سرقت؟
ان مخازن وكالة الغوث الدولية تقع على مقربة من الخيام، ان قرر ان يبدأ فهو يستطيع بالتأكيد ان ينزلق الى حيث يتكدس الطحين والرز، من ثقب ما سيجده هنا او هناك، ثم ان المال ليس حلال احد، لقد اتى من هناك، من عند ناس قال عنهم استاذ المدرسة لعبد الرحمن انهم " يقتلون القتيل ويمشون في جنازته" فماذا يضر الناس لو انه سرق كيس طحين.. كيسين.. عشرة؟وماذا لو باع شيئا من هذا الطحين الى واحد من اولئك الذين يتمتعون بقدرة عظيمة على استنشاق روائح مسروقات، وبقدرة اعظم في المساومة على ثمنها؟
ولذت له الفكرة، فدأب بعزم اشد على اتمام حفر الخندق فيما حول الخيمة و اخذ يسأل نفسه من جديد ان لماذا لا يبدأ مغامرته منذ الآن؟ان المطر شديد والحارس مشغول بأمر البرد اكثر من انشغاله بمصلحة وكالة الغوث الدولية، فلماذا لا يبدأ الآن؟ لماذا؟
- ماذا تعمل يا أبا العبد؟
ورفع رأسه الى جهة الصوت، وميز شبح ابي سمير قادما من بين صفي الخيام المغروسة الى ما لا نهاية الظلمة..
-انني احفر طحينا..
- تحفر ماذا؟
- احفر.. احفر.. خندقا..
وسمع ضحكة ابي سمير الرفيعة التي سرعان ما تلاشت في ثرثرته:
- يبدو انك تفكر بالطحين، ان التوزيع سيتأخر الى ما بعد العشرة الايام الاولى من الشهر القادم، اي بعد خمسة عشر يوما تقريبا، فلا تفكر منذ الآن الا اذا كنت تنوي ان تستعير كيسا او كيسين من المخزن..
ورأى ذراع ابي سمير تشير باتجاه المخازن، ولمح على شفتيه السميكتين ظلا لابتسامة خبيثة، وشعر بصعوبة الموقف، فعاد يضرب الارض برفشه المكسور.
- خد هذه السيكارة.. ولكن لا، انك لن تستفيد منها فالمطر مزعج.. لقد نسيت ان السماء تمطر، عقل من الطحين.. مثل الحجر..
واحس بضيق يأخذ بخناقه، انه يكره ابا سمير منذ زمن بعيد، هذا الثرثار الخبيث:
- ما الذي اخرجك في هذا المطر؟
- خرجت.. خرجت لاسألك ان كنت تريد المساعدة.
- لا.. شكرا..
-هل ستحفر طويلا؟
- معظم الليل..
- لم اقل لك ان تحفر خندقك في النهار؟انك دائما تذهب الى حيث لا ادري وتترك الخيمة.. هل تذهب للبحث عن خاتم سليمان؟
- لا.. عن شغل..
ورفع رأسه عن الرفش وهو يلهث..
- لماذا لا تذهب لتنام وتتركني وحدي؟
واقترب منه ابو سمير بهدوء جم ووضع كفّه يهزها ببطء وهو يقول بصوت مخنوق:
- اسمع يا ابا العبد، ان رأيت الآن كيس طحين يمشي من امامك فلا تذع الخبر لاحد!
- كيف؟
قالها ابو العبد وصدره ينبض بعنف، وشم رائحة التبغ من فم ابي سمير وهو يهمس وقد فتح عيونه على سعها:
- هناك اكياس طحين تمشي في الليل وتذهب الى هناك..
- الى اين؟
- الى هناك..
حاول ابو العبد ان يرى الى اين يشير ابو سمير ولكنه وجد ذراعيه مسدلتين على جنبيه، بينما سمع صوته يهمس ببحة عميقة:
- ستأخذ نصيبك.
- هل هناك ثقب تدخلون منه؟
ورفع ابو سمير رأسه نافيا ومفرقعا لسانه بمرح، ثم همس بصوت نصف مبحوح:
- ان اكياس الطحين تخرج لوحدها.. انها تمشي!
-انك مجنون ..
- لا، بل انت مسكين.. اسمع، ولندخل في الموضوع مباشرة، ان ما علينا هو ان نخرج اكياس الطحين من المخزن ونذهب بها هناك، ان الحارس سيمهد لنا كل شيء كما يفعل دائما، ان الذي سيتولى البيع ليس انا، ولا انت، انه الموظف الامريكي الاشقر في الوكالة.. لا، لا تعجب، كل شيء يصبح جائزا ومعقولا بعد الاتفاق.الأمريكي يبيع، وأنا اقبض، والحارس يقبض.. وأنت تقبض، وكله بالاتفاق، فما رأيك؟
وشعر ابو العبد ان القضية اشد تعقيدا من سرقة كيس اوكيسين، اوعشرة، ورواده شعور لزج بالقرف من المعاملة مع هذا الانسان.. ثقيل الدم كما تعارفوا عليه في المخيم كله.. ولكنه في الوقت ذاته راقه ان يعود يوما الى خيمته وفي يده قميص جديد لعبد الرحمن، واغراض صغيرة لام العبد بعد هذا الحرمان الطويل، كم ستكون ابتسامتاهما جميلتين، ان ابتسامة عبد الرحمن، لوحدها، تستحق المغامرة لا شك، ولكنه لو فشل.. اي مصير اسود ينتظر ام العبد وولدها.. يومها سيحمل عبدالرحمن صندوق مسح الاحذية ليتكور في الشارع هازا رأسه الصغير فوق الاحذية الانيقة، يا للمصير الاسود، ولكنه لو نجح فسيبدو عبد الرحمن انسانا جديدا، وسيقتلع من عيون زوجه ذلك السؤال المخيف. لو نجح، فستنتهي مأساة الخندق في كل ليلة ممطرة، وسيعيش حيث لا يستطيع ان يتصور الآن..
- لماذا لا تترك هذا الخندق الملعون، لبدأ قبل ان تشرق الشمس؟
نعم لماذا لا يترك الخندق.. ان عبد الرحمن يلهث من البرد في طرف الخيمة، ويكاد يحس انفاسه تلفح جبينه البارد.. كم يود لو انه ينتشل عبد الرحمن من هزاله وخوفه، لقد اوشك المطر ان ينقطع، وبدأ القمر في السماء يمزق طريقا وعرا..
وابوسمير، ما زال واقفا امامه كالشبح الاسود، غارسا قدميه الكبيرتين في الوحل، رافعا ياقة معطفه العتيق الى ما فوق اذنيه، انه ما زال واقفا ينتظر، هذا الانسان الواقف امامه، يحمل معه قدرا جديدا غامضا، يساومه ليرفع معه الاكياس من المخزن، الى مكان ما، يأتيه الامريكي كل شهر ويقف امام اكوام الطحين يفرك راحتيه النظيفتين، ويضحك بعيون زرقاء كعيون قط يتحفز امام جحر فأر مسكين.
- منذ متى وانت تتعامل مع هذا الحارس وذلك الموظف؟
- هل تريد ان تحقق معي ام تأخذ ثمن الطحين وتذهب لتشتري الشياطين؟اسمع ان هذا الامريكي صديقي، وهو انسان يحب العمل المنظم، انه يطلب مني دائما ان اضع الوقت بالمقدمة. وهو لا يحب التأخير في المواعيد.. علينا ان نبدأ الآن. اسرع.
و عاد يتصور الامريكي واقفا امام اكياس الطحين، يضحك بعيون زرقاء ضيقة ويفرك راحتيه النظيفتين بحبور وطمأنينة، فشعر بضيق غريب، وخطر له ان ذلك الامريكي كان يبيع الطحين في الوقت الذي كان يقول فيه لرجال المخيم ولنسائه ان توزيع الاغاثة سيتأجل الى نهاية الايام العشرة الاولى من الشهر، واحس بنقمة طاغية، هي صدى لاحساساته يوم كان يرجع من المخازن ليقول لزوجته بصوت كسير انهم اجلوا توزيع الطحين عشرة ايام، كم هي مؤلمة خيبة الامل التي كانت ترتسم في وجهها الاسمر المجهد، لقد كان يحس الغصة تتعلق بالف ذراع في حنجرته وهي تنظر بصمت مريع الى كيس الطحين الفارغ يتأرجح على ذراعه كالمشنوق.. لقد كانت تعني في نظرتها تلك ان عشرة ايام ستمضي قبل ان يجدوا طحينا للاكل. كان يبدو له ايضا ان عبد الرحمن يفهم الموقف تماما، لقد كان يكف عن طلب الاكل بالحاح..
في كل خيام قريةالنازحين كانت العيون المتلهفة تقع في خيبة الامل ذاتها، كان على كل طفل في المخيم ان ينتظر عشرة ايام ليأكل خبزا. هذا اذن هو سبب التأجيل، ابو سمير الواقف امامه كالشبح الاسود، غارسا قدميه في الطين قلقا لمصير مساوماته، هو والامريكي الذي يفرك راحتيه النظيفتين امام اكوام الطحين وهويضحك بعيون زرقاء ضيقة..
لم يدر كيف رفع الرفش الى ما فوق رأسه وكيف هوى به بعنف رهيب على رأس ابي سمير، وهويصيح في وجهها ان الطحين لن يتأجل توزيعه هذا الشهر..
كان لا يزال راغبا في ان يراه يبتسم لقميص جديد..
فأخذ يبكي..

المصدر: موقع "أدب"
almsbah7

نورالمصباح

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 89 مشاهدة
نشرت فى 9 يونيو 2014 بواسطة almsbah7
almsbah7
"بوابة لحفظ المواضيع والنصوص يعتمد على مشاركات الأعضاء والأصدقاء وإدارة تحرير الموقع بالتحكم الكامل بمحتوياته .الموقع ليس مصدر المواضيع والمقالات الأصلي إنما هو وسيلة للنشر والحفظ مصادرنا متعددة عربية وغير عربية . »

أقسام الموقع

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

132,284

حال الدنيا

حال الناس
عجبا للناس كيف باتوا وكيف أصبحوا.
ماذا جرى لهم ؟
وما آل إليه أمرهم والى أي منحدرا ينحدرون،
أصبح الأخ يأكل لحم أخيه ولا يبالي ،انعدمت القيم والأخلاق 
والمبادئ، من الذي تغير نحن أم الحياة.إننا وان تكلمنا 
بصدق لا نساوي شيئا ،فالكذبأصبح زادنا وزوادنا، ،
إن الإنسان في العصر الحجريرغم بساطته فَكّرَ وصَنَع فالحاجة أم الاختراع، أما نحن نريد كل شيء جاهزا، أجساد بلا روح تأتي ريح الشرق فتدفعنا وتأتي ريح الغرب فتأخذنا إننا أحيانا نتحرك من دون إرادتنا كحجار الشطرنج أنائمون نحن أم متجاهلون ما يدور حولنا أم أعمتنا المادة .كلنا تائه في طريق ممتلئه بالأشواك، أشواك مغطاة بالقطن الأبيض نسير عليها مخدوعين بمظهرها بدون
انتباه وبين الحين والأخر يسعى الحاقدون لقتل واحد 
منا، فيزول القطن الأبيض ولا يبقى إلا الشوك،
فنستغرب لحالنا، لان عيوننا لا ترى إلا الأشياء البراقة 
اللامعة والمظاهر الخادعة أما الجوهر المسكين فَقَدَ 
قيمته لم يعد إلا شعارات رنانة نعزي بها أنفسنا بين 
الحين والأخر، 
هكذا أصبح حال الناس هذه الأيام.
ـــــــــــــــ
حسين خلف موسى

 دنياالوطن