المصباح....كتاب الأدب

للمحتوى الثقافي والأدبي العربي

 

حمد بن حنبل– الخلاف في الرأي قد يفسد “أحيانًا” للود قضية

 

بغداد، سنة 221 هـ – 836 م

وقف الإمام “أحمد بن حنبل” في سجنه، محاولاً تلمس اتجاه القبلة وسط الظلام، ومتحاملاً على آلام ظهره الذي مزقته السياط، وبعدما أنهى صلاته، جلس يتأمل حاله؛ وحده في زنزانة رطبة مظلمة، مقيد بسلاسل ثقيلة غليظة، تثقل حركته بشدة، وظهره يصرخ ألمًا من أثر ضرب السياط.

كيف وصل به الحال إلى هذا الأمر، وهو الإمام الزاهد، التقي الورع، الذي لم يؤذ ذبابة في حياته؟

انطلقت ذكريات الإمام إلى الماضي، مسترجعًا بداية هذا الأمر، وعقله لا يكاد يصدق ما حدث.

 

البداية:

قد يعجب المرء في زماننا هذا كيف يمكن أن يؤدي الخلاف في الرأي حول مسألة نظرية بحتة، لا تبدو لها في الظاهر أية دلالات عملية، إلى مثل ذلك العنف والمرارة والحقد، بل والقتل أيضًا.

غير أن هذه العواقب ذاتها هي أصدق دليل على أزمة الحكم بالحق الإلهي، حيث لا يرى الحاكم أن اجتهاده مجرد رأي، يحتمل الصواب أو الخطأ، ولكن يراه صحيح الدين، وما عداه باطل وكفر بواح.

وقد بدأ هذا الأمر عندما قرر الخليفة العباسي “المأمون” أن يأخذ بنظرية المعتزلة القائلة بأن القرآن مخلوق، وهي النظرية التي استندت إلى الإقرار بتنزيه الله عن مشاركة الخلائق في الصفات، ومنها صفة الكلام، فالكلام عن المعتزلة هو من صفات البشر، والله تعالى لا يمكن أن تكون له صفات بشرية، لأنه، جل شأنه، ليس كمثله شيء، ومن هذا المنطلق رفضوا الإقرار بأن القرآن “كلام الله”، وقرروا أنه “مخلوق” لله، أي أن الله خلق القرآن كما خلق سائر المخلوقات، وهي بالطبع نظرية بها شطط فكري كبير، فالعقل لا يمكن أن يصل إلى حقيقة مطلقة فيما يتعلق بهذه الأمور الغيبية، وأي رأي يصل إليه المرء في هذه الأمور سيظل مندرجًا تحت خانة الاجتهاد، ولا يمكن أن يصل أبدًا إلى مستوى الحقائق، والاجتهادات لا تخرج أصحابها عن صحيح الدين، فمن اجتهد وأصاب فله أجرين، ومن اجتهد وأخطأ فله أجر، وبالتالي فلا يجوز أبدًا في مثل هذه الحالات تكفير المخالف، ولكنه مُركّب السلطة في الدولة الدينية، حين يخلط الحاكم بين رأيه وصحيح الدين، فيصبح من يخالفه في الرأي كافرًا مرتدًا.

 

محاكم تفتيش المأمون:

ونتيجة لما سبق، نظر “المأمون” إلى رأيه هذا باعتباره وحيًا من الله، فقرر فرضه على الأمة بقوة السيف باعتباره أصلاً من أصول الدين، وقرر أن يمتحن فقهاء عصره في مسألة خلق القرآن، وكان الكثير منهم قد عارض هذه المسألة، فقد رأوا أن القرآن يجب أن يظل بعيدًا عن أية مزايدات، فهو كتاب الله ولا نزيد، وأن الاجتهاد يجوز فقط في الأمور الحياتية الخاصة بالبشر، ولا يجوز في المسائل الغيبية، لأن ذلك قد يؤدي إلى الشك وزعزعة العقيدة، فكتب “المأمون” رسائله إلى الولاة في جميع الأمصار، ومنها رسالة إلى نائبه في بغداد “إسحاق بن إبراهيم” جاء فيها:

“قد عرف أمير المؤمنين أن الجمهور الأعظم والسواد الأكبر من حشوة الرعية وسفلة العامة ممن لا نظر له ولا روية ولا استضاءة بنور العلم وبرهانه، أهل جهالة بالله، وعمى عنه، وضلالة عن حقيقة دينه، وذلك أنهم ساووا بين الله وبين ما أنزل من القرآن، فأطبقوا على أنه قديم لم يخلقه الله ويخترعه، وقد قال الله تعالى “إنا جعلناه قرآنًا عربيًا” (الزخرف: 3) فكل ما جعله الله فقد خلقه، وقال “كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق” (طه: 99) فأخبر أنه قصص لأمور أحدثه بعدها، ثم انتسبوا إلى السنة وأظهروا أنهم أهل الحق والجماعة، وأن من سواهم أهل الباطل والكفر، فاستطالوا بذلك وغروا به الجهال حتى مال قوم من أهل السمت الكاذب والتخشع لغير الله إلى موافقتهم فتركوا الحق إلى باطلهم، واتخذوا دون الله وليجة (مدخل) إلى ضلالهم”…

إلى أن قال: “فرأى أمير المؤمنين أن أولئك شر الأمة، وأوعية الجهالة، وأعلام الكذب، ولسان إبليس الناطق في أوليائه، وأحق من يتهم في صدقه، وتطرح شهادته، ولعمر أمير المؤمنين إن أكذب الناس من كذب على الله ووحيه، ولم يعرف الله حق معرفته، فاجمع من بحضرتك من القضاة فاقرأ عليهم كتابنا، وامتحنهم فيما يقولون، واكشفهم عما يعتقدون في خلقه وإحداثه، فإذا أقروا بذلك ووافقوا، فمرهم بنص من بحضرتهم من الشهود، ومسألتهم عن علمهم في القرآن، وترك شهادة من لم يقر بأنه مخلوق، واكتب إلينا بما يأتيك”.

 

والمتأمل لرسالة “المأمون” يدرك أن هذا الخليفة يؤمن تمامًا بأنه على الحق المبين، وأن اجتهاده هذا هو وحده الصواب، ووصل به الأمر إلى وصف مخالفيه بأنهم “سفلة العامة وأهل الضلالة” على حد زعمه، وهذا دليل آخر على خطورة الحكم الديني الذي لابد وأن يؤدي إلى أخطر أنواع الاستبداد، وهو الاستبداد الديني.

وبعدما أرسل “المأمون” رسائله إلى ولاته في جميع أرجاء الخلافة، بدأت سلسلة من أشهر محاكم التفتيش عبر تاريخ المسلمين، فتم جمع الكثير من الفقهاء لسؤالهم عن رأيهم في مسألة خلق القرآن، وأحضر والي العراق جماعة منهم “أحمد بن حنبل” و”بشر بن الوليد الكندي” وغيرهم، وعرض عليهم رسالة “المأمون”، وعُقدت محكمة التفتيش التي بدأها الوالي “إسحاق” بسؤال أولهم “بشر بن الوليد”:

-          ما رأيك في مسألة خلق القرآن؟

بشر:

-          أقول أن القرآن هو كلام الله.

إسحاق:

-         لم أسألك عن هذا، بل سألتك هل القرآن مخلوق؟

بشر:

-         لا أقول غير ما قلت لك، وقد أخذت العهد من أمير المؤمنين ألا أتكلم فيه.

 

ثم انتقل “إسحاق” نائب “المأمون” إلى فقيه آخر وهو “علي بن أبي مقاتل” وسأله:

-         ما رأيك في مسألة خلق القرآن؟

علي:

-         القرآن كلام الله، وإن أمرنا أمير المؤمنين بشيء سمعنا وأطعنا. (تخيل حجم الرعب الذي كان يعاني منه هذا الرجل!)

 

 ثم انتقل السؤال إلى الإمام “أحمد بن حنبل”

إسحاق:

-          ما رأيك في مسألة خلق القرآن؟ أمخلوق هو؟

ابن حنبل:

-          هو كلام الله، لا أزيد عن هذا.

 

استمر “إسحاق” في امتحان الفقهاء، واحد تلو الآخر، ثم جمع الإجابات وأرسلها إلى المأمون، فجاء رد المأمون كالتالي:

“بالنسبة إلى “بشر بن الوليد”، فقد كذب، فإنني لم أعاهده إلا على قول كلمة الإخلاص والإقرار بأن القرآن مخلوق، فأحضره إليك، واطلب منه التوبة، فإن تاب فأشهر أمر توبته بين الناس، وإن أصر على شركه وكفره وإلحاده ورفض الاعتراف بأن القرآن مخلوق، فاضرب عنقه، وابعث إلينا برأسه”!!

وأكمل “المأمون” رسالته قائلاً:

“ومن لم يجب أن القرآن مخلوق فامنعه من الفتوى والرواية حتى يقر بذلك”

فاستمر “إسحاق” في امتحان الفقهاء، فأجاب أكثرهم مكرهون، خشية السيف وقطع الأرزاق، ولم يتبق غير “أحمد بن حنبل” و”محمد بن نوح” اللذين أصرا على الرفض، فأمر “المأمون” بتوثيقهما بالأغلال الثقيلة وإرسالهما إليه حتى يمتحنهما بنفسه.

وهكذا صدرت الأوامر، وتم توثيق الإمام “أحمد بن حنبل” وصاحبه “محمد بن نوح” في قيود حديدية ثقيلة جدًا، لدرجة أنهما كانا بالكاد يستطيعان السير من ثقلها، وتم إرسالهما إلى الخليفة في معسكره.

وبينما هما في الطريق، مرض “المأمون” ومات، ففرح الإمام “أحمد” وصاحبه، إلا أن فرحتهما لم تدم طويلاً، عندما علما أن من تولى الخلافة من بعده هو أخيه “المعتصم بالله”، الذي كان على رأي “المأمون”، وكان أشد من أخيه في ذلك، فتابع امتحان الناس في خلق القرآن، وكتب إلى البلاد بذلك، وأمر المعلمين أن يعلموا الصبيان ذلك، وقاسى الناس منه مشقة كبيرة، وقتل الكثير من العلماء الذين رفضوا الإقرار بتلك المسألة.

وبدأت رحلة جديدة من المعاناة، وصفحة أخرى من صفحات الاستبداد الديني.

في قيود السجن:

سار الإمام أحمد وصاحبه تحت القيود الثقيلة، وكانت قيود الظلم أشد وطأة من القيود الحديدية، فلما جاء خبر وفاة “المأمون”، قرر الحراس إعادة الإمامين إلى بغداد ليكونا تحت إمرة الخليفة الجديد، “المعتصم بالله”، ونال الإمام “أحمد” الكثير من الأذى خلال هذه الرحلة.

وفي الطريق، مات “محمد بن نوح”، وصلى عليه “أحمد”، ووصل الإمام إلى بغداد في رمضان، وأودع في السجن لمدة تقترب من عامين ونصف، وطوال مدة سجنه، لم تفارقه القيود الثقيلة، فكان يصلي في القيود، ويأكل في القيود، وينام في القيود، لأكثر من عامين كاملين، حتى جاءت اللحظة الحاسمة، فأخرجه الحراس لمقابلة الخليفة المعتصم ومناظرة من معه من فقهاء.

بين يدي المعتصم:

ولما أخرجه “المعتصم” من السجن زاد في قيوده، ويروي الإمام أحمد بنفسه تفاصيل هذا الأمر:

“فلم أستطع أن أمشي بهذه القيود، فربطتها في التكة وحملتها بيدي، ثم جاءوني بدابة وأركبوني عليها فكدت أن أسقط على وجهي من ثقل القيود، وليس معي أحد يمسكني، فسلم الله حتى وصلنا إلى دار المعتصم”.

دخل الإمام مجلس الخليفة، فأمر الخليفة أحد الفقهاء لديه ويدعى “عبد الرحمن” أن يبدأ في مناظرة “ابن حنبل”، فدار الحوار التالي:

عبد الرحمن:

-         ماذا تقول في القرآن؟

ابن حنبل:

-         هو كتاب الله، ولا أزيد.

الخليفة:

-         أمخلوق هو؟

فقال ابن حنبل:

-         يا أمير المؤمنين، أعطوني شيئا من كتاب الله أو سنة رسوله حتى أقول به.

فقال “أحمد ابن أبي داوود” (أحد كبار فقهاء المعتزلة):

-         وأنت لا تقول إلا بهذا وهذا؟ (يقصد الكتاب والسنة)

ابن حنبل:

-         وهل يقول الإسلام إلا بهما؟

وجرت مناظرات طويلة، واحتجوا عليه بعدة آيات من القرآن، فرد عليهم بمثلها.

فقال ابن أبي داوود:

-         هو والله يا أمير المؤمنين ضال مضل مبتدع، وهنا قضاتك والفقهاء فاسألهم.

فقال الخليفة للملأ:

-         ما تقولون؟

فأجابوا بمثل ما قال “ابن أبي داوود”، ثم أحضروه في اليوم الثاني وناظروه أيضا، ثم في اليوم الثالث، وفي ذلك كله يعلو صوته عليهم، وتغلب حجته حججهم.

وفي إحدى المرات قال له الخليفة:

-         يا أحمد ! أجبني إلى هذا حتى أجعلك من خاصتي وممن يطأ بساطي.

فرد “ابن حنبل”:

-         يا أمير المؤمنين ! يأتوني بآية من كتاب الله أو سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أجيبهم إليها.

فقال الحضور:

-         يا أمير المؤمنين ! هذا كافر ضال مضل.

فصاح الخليفة غاضبًا:

-         لعنك الله يا “أحمد”، طمعت فيك أن تجيبني فلم تجبني.

وأمر الجلادين بربطه وجلده، حتي يقر بأن القرآن مخلوق!

وبدأ فصل جديد من فصول المحنة، فكان الحراس يأتون بالإمام ويجلدونه جلدًا شديدًا حتى يتقطع جلده ويغيب وعيه.

واستمرت رحلة العذاب والجلد والسجن، وظل الإمام ثابتًا على رأيه، حتى شعر “المعتصم” بالشفقة على الإمام، فعفى عنه، وأعاده إلى منزله، وجاءه الطبيب فقطع لحمًا ميتًا من جسده وظل يداويه، ولما أتم الله عليه الشفاء، بقي مدة وإبهاماه يؤذيهما البرد، ولزم منزله فلم يخرج منه إلى جمعة ولا جماعة، وامتنع من التحديث طوال خلافة “المعتصم” وابنه “الواثق”.

وتوفي الإمام في زمن الخليفة “المتوكل على الله” وعمره سبعًا وسبعين سنة، فكان بصموده نموذجًا للفقيه الذي لا يقبل أن يكون مطيه للحكام، وقصته عبره للمطالبين بالدولة الدينية، فهل من متعظ؟

وللحديث بقية…

 

المصدر: موقع بص وطل
almsbah7

نورالمصباح

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 86 مشاهدة
نشرت فى 7 يونيو 2014 بواسطة almsbah7
almsbah7
"بوابة لحفظ المواضيع والنصوص يعتمد على مشاركات الأعضاء والأصدقاء وإدارة تحرير الموقع بالتحكم الكامل بمحتوياته .الموقع ليس مصدر المواضيع والمقالات الأصلي إنما هو وسيلة للنشر والحفظ مصادرنا متعددة عربية وغير عربية . »

أقسام الموقع

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

97,090

حال الدنيا

حال الناس
عجبا للناس كيف باتوا وكيف أصبحوا.
ماذا جرى لهم ؟
وما آل إليه أمرهم والى أي منحدرا ينحدرون،
أصبح الأخ يأكل لحم أخيه ولا يبالي ،انعدمت القيم والأخلاق 
والمبادئ، من الذي تغير نحن أم الحياة.إننا وان تكلمنا 
بصدق لا نساوي شيئا ،فالكذبأصبح زادنا وزوادنا، ،
إن الإنسان في العصر الحجريرغم بساطته فَكّرَ وصَنَع فالحاجة أم الاختراع، أما نحن نريد كل شيء جاهزا، أجساد بلا روح تأتي ريح الشرق فتدفعنا وتأتي ريح الغرب فتأخذنا إننا أحيانا نتحرك من دون إرادتنا كحجار الشطرنج أنائمون نحن أم متجاهلون ما يدور حولنا أم أعمتنا المادة .كلنا تائه في طريق ممتلئه بالأشواك، أشواك مغطاة بالقطن الأبيض نسير عليها مخدوعين بمظهرها بدون
انتباه وبين الحين والأخر يسعى الحاقدون لقتل واحد 
منا، فيزول القطن الأبيض ولا يبقى إلا الشوك،
فنستغرب لحالنا، لان عيوننا لا ترى إلا الأشياء البراقة 
اللامعة والمظاهر الخادعة أما الجوهر المسكين فَقَدَ 
قيمته لم يعد إلا شعارات رنانة نعزي بها أنفسنا بين 
الحين والأخر، 
هكذا أصبح حال الناس هذه الأيام.
ـــــــــــــــ
حسين خلف موسى

 دنياالوطن