هي الصفعة التي كان يجب أن تسقط على وجه المدير الظالم؛ فألجمناها خشية العواقب، وعُدنا للمنزل والغيظ يملأ الصدر؛ فرأيناها فرصة طيبة نُريح بها يدنا المشلولة؛ فأسقطناها على خد طفلنا الصغير؛ بحجة أنه أساء الأدب!

وهي الصفعة التي لم يحالفنا الحظ ولا الوقت -وقبلهما الجرأة- لنهوي بها على خدّ السائق الأرعن، والبائع الغشاش، والجار الخبيث؛ فرأينا أن نُسكنها على خد الطفل الذي لا يحترم أبويه!!

هذه الصفعات هي مجموع الانفعالات من زوج لا يرضى، وظروف مادية مضطربة، وطريق قاسٍ في الذهاب والإياب للعمل، في شمس أغسطس المحرقة؛ فنجد أن وضعها على جسد الصبي هو تنفيس عمّا يموج في صدورنا، ولا تكلف شيئًا في فعلها!!

 

في الحقيقية أنه قد نالني بعض تلك الصفعات الضالة التي لم أكن أرى لها تبريرًا منطقيًّا؛ فقط كنت أشعر أن شيئًا ما ليس على ما يرام، وبأنني يجب أن أتعود ألا أربط بين الخطأ والعقاب، فقط كنت أراقب الوضع النفسي لوالدي؛ كي أعدّ نفسي للعقاب القادم!!

 

كما أنني لا أنسى أهلي وهم يدفعون بي إلى الشيخ في الكُتّاب كي يُحفّظني كتاب الله، وهم يوصونه بي قائلين: "اكسر له ضلع يطلع له أربعة"!!

لا أنكر أن حنان أبي كان قادرًا على أن يُذهب كثيرًا مما ألاقي، ولا أنكر كذلك أن وقوفي مكانه -فيما بعد- وارتداء جلباب الأبوة جعلني أكثر إدراكًا لمشاعره وسلوكه آنذاك؛ لكن هذا دفعني إلى أن أعيد النظر في تفكيري؛ كي أجنّب أبنائي نفس المصير، وألا أجعل من أجسادهم مرتعًا للركل والرفس والصفع واللكمات.

هذا جعلني أتساءل، وقد أصبحت مُربيًّا بعدما كنت ابنًا، في زمن صارت التربية فيه نوعًا من الابتلاء الذي كتبه الله على عباده، واختبارًا لمدى جدّيتنا في أن نكون آباء وأمهات على قدر الحدث؛ متفاعلين مع مستجدات الحياة: هل الضرب والعقاب صواب، أم خطأ؟ هل هما نوع من التقويم، أم أنهما سلوك عنيف يعمل عمله في تدمير نفسية الطفل؟

بنظرة متأملة يمكننا ملاحظة أن العقاب قاعدة دنيوية قبل أن يكون مبدأً تربويًّا؛ فالكبار قبل الصغار يتحكم كثيرًا في سلوكهم مقدار العقوبة التي ستقع عليهم في حال الإتيان بأمر ما؛ فكانت العقوبات القانونية، والمرورية، ولائحات العمل، أحد الأشياء التي تُرسّخ أن مفهوم العقاب والرهبة تُجدي أحيانًا؛ بل لا بد منها.

وفوق هذا فإن العقاب أمر إلهي، والنار قد خلقها الله ليُرهب بها عباده، ويؤكّد لهم أن الانحراف والخلل مردّه سيئ وقاسٍ ومؤلم.

لذا فإننا عندما نتحدث عن العقاب كشكل من أشكال تقويم سلوك أبنائنا؛ فإننا نتحدث عن أمر في غاية الأهمية والعمق، وعليه يتوقف استقامة مبادئهم وأفكارهم وسلوكهم.

والعقاب ليس شرًّا؛ إلا إذا كان مبالغًا فيه، أو كان ردّة فعل عشوائية، أو تنفيسًا عن غضب مكتوم بالصدر.

هذا عن العقاب بشكل عام، والذي قد يكون بفقد امتياز، أو حرمان من شيء يحبه الطفل؛ ولكن ماذا عن الضرب، عن العقاب الجسدي؟

وهذه أحد أكثر الأسئلة التي حيرت أساتذة التربية وعلم نفس الطفل، وانقسموا إزاءها إلى ثلاثة أقسام: أما الأول: فهو الذي يرى أن الضرب هو تعدّ جسديّ وانتهاك غير مقبول تجاه الأبناء، وذهبوا إلى أن الضرب يوصل لعكس ما نريد من نتائج، ويزيد من عدوان الطفل وعصبيته، وميله للعناد والعنف.

قسم آخر: يرى أن الضرب وسيلة تربوية مهمة، وفي الغالب يكون للتجربة الشخصية عمقها في تبني هذا الرأي، وربما وجدنا المربي يستدعي الشواهد من بيت الأستاذ فلان، ويؤكّد أن الضرب هو ما جعل هذا الشخص عظيمًا، ولولاه -أي الضرب- لما كان بهذه الأخلاق، ولا الانضباط، ولا النجاح الذي وصل إليه.

لدينا صنف ثالث: يرى أن بعض الضرب لا بأس منه؛ شريطة أن يكون بالمقدار المناسب، وبالشكل المناسب، وفي الوقت المناسب.

هذا الرأي يذهب إلى أننا بحاجة إلى جعله الحل الأخير، وبأننا بحاجة إلى أن نجرب الحديث والكلام والإقناع، والعقاب بالهجر والزجر والمنع من المصروف، قبل أن نبدأ في العقاب الجسدي.. ومتبَنّو هذا الرأي يؤكّدون أن هناك بعض الأبناء لا ينصلح لهم حال إلا إذا ذاقوا بعضًا من الألم الجسدي البسيط.

 

وهذا الرأي هو ما أميل إليه؛ أن نحترم أبناءنا، ونحترم بنيانهم النفسي، وأن نجتهد في وضع برنامج للتقويم والعقاب يكون الضرب فيه هو آخر المطاف، وبشروط أهمها ألا يكون مبرحًا، أو قاسيًا، أو على الملأ، وألا نستسهل الصفع، والرفس، والركل، وأن نتقي الله في صغارنا.

إن علماء النفس والتربية ما برحوا يرفعون لنا شارة التحذير؛ مؤكّدين أن الضرب وتفريغ شحنة الغضب في سلوك عنيف تجاه الطفل ليس بالسهولة التي نتوقعها، وبأنه يجرّنا إلى وضع سيئ جدًّا، وهو التكلفة غير المباشرة لعملية الضرب، والتي تكون في شكل تشوّهات نفسية يعانيها الطفل وقتًا غير قليل، بالإضافة إلى أن الضرب -كعقاب- يفقد معناه مع تكرره، أو ما يُطلق عليه "تبلّد الحس".. وفوق هذا هناك أحد أخطر الرواسب على الطفل؛ أنه يحرك مشاعر العداء لديه، وقد يزعزع مشاعر الودّ، ويزجي الجفاء النفسي والشعوري بين الطفل ووالديه أو مدرّسيه؛ خاصة في فترة المراهقة.

وهنا أراني بحاجة إلى أن أسألك يا صاحبي: هل ضلّت يومًا ما صفعة مؤلمة طريقها فسكنت على خدك؟ وهل أنت ممن يؤمن بأن الضرب تشويه لنفسيه الأبناء، أم أنك ممن يرى بأن الضرب هو من يصنع الرجل؟

alfaresmido

أنا مسلم .. أعتز بديني

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 90 مشاهدة
نشرت فى 6 يوليو 2012 بواسطة alfaresmido

ساحة النقاش

الفارس أحمد عطا

alfaresmido
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

109,912