الحداثة في العالم العربي ( دراسة في عالمية الحداثة )
المقدمة
إن مشروع الحداثة مشروع ظل يمثل هاجساً لي منذ سنوات تعدت فترة التحاقي بكلية الآداب، كنت أينما يممتُ وجهي إلى كتابٍ أو صحيفة أو مجلة أجدني أمام سؤال الحداثة وإشكالياتها، أقلب كتاب فلسفة فآراها سبقتني إليه، أفر إلى الأدب فإذا بها تغط في سبات عميق في رحابه، ألجأ إلى العلوم فأدهش بحجم الفتنة التي ألقت بها في قلوب وعقول العلماء! شعرت حينها بأن الحداثة تحاول أن تطردني إلى حيث لا أعلم، فإما أن أفهمها أو لا أكون، منذ ذلك الوقت وأنا في صراعٍ مع المشروع الحداثي، محاولاً فهمه وفك طلاسمه خطوةً خطوة، ولا أدعي أنني في هذه الدراسة العجلى، قد أصبت الهدف وبلغت الغاية، ولكن لن أقلل من شأن هذه الدراسة التي تحاول الإجابة عن سؤال من أسئلة، ولو كان هذا أمرٌ يؤلب التواضع عليْ.
تحاول هذه الورقة إثبات أمرٍ تغافل عنه كثيرٌ من الدارسين، عمداً أو سهواً، ألا وهو عالمية الحداثة وكليتها وشمولها، وليس في عنوان البحث (الحداثة في العالم العربي) ما يوهم بخصوصية للحداثة تتسم بها من مكانٍ إلى آخر، فالعالم العربي هنا لا يتعدى نموذجاً أو مثالاً لفهم الحداثة، فكان السؤال الذي يمثل محور هذا البحث هل الحداثة حداثات أم أنها حداثة عالمية وشمولية وكلية؟
وتفرع من السؤال المحوري بضع تساؤلات فرعية تصب في الموضوع الرئيسي هل الحداثة في العالم العربي ممكنة؟ أم أنها مشروعٌ زائف؟ هل الحداثة العربية تعيش خصوصية كافية يجعلها حداثة أخرى؟
هذا ما تحاول هذه الورقة مقاربته في الآتي من صفحاتها، وقد رأت الورقة أنه لا بد من المرور على الجذور الرئيسة الأولى في منابتها الأصل، فكانت الفقرة الأولى تمثل دارسة للتحولات المعرفية التي سبقت الحداثة، وإلقاء الضوء على شيء من تاريخ الحداثة الأوروبية وقليل مما بعدها، وفي الفقرة الثانية تناولت الحداثة في العالم العربي، وقاربت الورقة البدايات الأولى للمشروع التنويري العربي إذا صح لنا تجوزاً وسمه بهذه السمة، فكان لا يخفى على القارئ مدى المقاربة في الملامح بين الحداثة في العالم العربي والحداثة في منبتها الأصل.

وانتقلت الورقة إلى دراسة بعض من أزمات الحداثة في ظل السؤال المحوري، والذي تحاول فقرات هذا البحث جميعها الإجابة عليه، فمررنا بأزمة المصطلح وحاولنا دفع ما ذهب إليه بعض الدارسين من كون أزمة المصطلح عندنا تكمن في التقليد، والتباهي، فالأزمة أزمة كلية شأنها شأن الحداثة، وكانت أزمة المصطلح قد مثّلت مقدمة من معالجة أزمة أخرى، ألا وهي ( حداثة أم حداثات)، وتعد هذه الفقرة مركز البحث من حيث ترتيبها في صفحات البحث، أو من حيث كونها إجابة السؤال المحوري في هذا البحث، وهذا ما دفعنا إلى الوقوف عند أزمة أخرى كانت عاملاً رئيساً في تبني بعض الدارسين مفهوم الحداثة، فقرأنا المفهوم الزمني القيمي للحداثة، ومن خلال قراءتنا لمفهوم الحداثة دُفعنا إلى الخوض في حديث عن أحد ملامح هذه الحداثة والذي عُرف بالعقلانية، وحاولت الورقة أن تبين سبب خلط بعض الدارسين بين عقلانية الحداثة ولا عقلانيتها.
ولقد حاولت الورقة أن تبنى المنهج التسلسلي في الكتابة والذي علمنا إياه أستاذنا الفاضل الدكتور عبد الله المقالح، فكانت كل فقرة تمثل مقدمة للفقرة اللاحقة، وتمثل نهاية الفقرات خاتمة لها، وما ذلك إلا محاولةً لا تدعي شرفاً سوى أنها محاولة.
وفي الأخير أحب أن أنوه، بأنّ هذه الورقة لا تعالج موضوع الحداثة من ناحية الرفض والقبول، ولا تقوم بالتنظير لتعاملٍ ما مع الحداثة، فلقد حاولت هذه الورقة أن خصص نفسها في إطار السؤال المحوري الشامل، لتتسم من العلمية بأقلّها.


1-1
التحولات المكوّنة للحداثة:
سوف نبدأ الحديث في وصف مرحلة ما قبل الحداثة منذ الفترة التي سبقت هذه التحولات وذلك لغرض التوضيح والإفهام، لنركز أولاً على المرجعية الدينية والتي كانت هي المرجعية الأصل في قيادة المجتمع والتحكم بعلاقاته المختلفة، فالكنيسة كانت المفسر الوحيدة للدين والمعرفة وهي بلا مراء ظل الله في الأرض، تتدخل في صياغة كل شيء من عقود الزواج إلى عقود التجارة إلى الزراعة إلى التربية والتعليم، وقد تعدت سلطة الكنيسة المجتمع فهي سلطة حتى على الملوك والأمراء الذين وافقوا على هذا التسلط نتيجة لما حبتْهم به الكنيسة، فالحكم من الرب لإشباع مطامح الجنس البشري، فصارت طاعة الرب هي طاعة الملك والأمير وحكم الأخير هو حكم الرب، والكنيسة هي الرب أو من يمثله على الأرض()، وفي الجانب الاقتصادي كان نظام الإقطاع هو النظام المسيطر في المجتمع وقد وجدت الكنيسة في هذا النظام خير سندٍ لها، فتحالفت الكنيسة مع الإقطاع، ونتيجة لهذا التحالف تم إلغاء دور الإنسان في الحياة وتهميش فعاليته فغدا الدين حِكْراً على رجال الدين من القساوسة والرهبان الذين جعلوا من علم اللاهوت "عِلمْاً للعلوم، وجعلوا من جميع المعارف الممكنة استقالات للعلم الوحيد – اللاهوت"(). وكانت علاقة السيّد بالعبد هي العلاقة البارزة في ذلك المجتمع في ظل الفلسفة القياسية الأرسطية الصادرة عن انطباعات شخصية عُرضة لشتى الأوهام، فالقياس لا يساعد على الكشف عن الحقائق بل هو عملية عقيمة تعمل على تثبيت وتوطيد دعائم أفكارٍ موجودة من قبل(). من هنا نستطيع أن نقول أن هذه الصورة التي كانت عليها المجتمعات الأوروبية في فترة ما قبل الحداثة (الكنيسة، الاقطاع، الفلسفة القياسية) هي الأمور التي كانت تتحكم بالفرد الأوروبي والتي كرّست نفسها لألغاء الفردية وتهميش الذات، وإذا تعمّقنا أكثر في الطبيعة الاجتماعية لمجتمعات ما قبل الحداثة نرى كم كانت هذه المجتمعات تعيش حياةً أسطورية تعتمد على اللاعقل وتعتقد بالأساطير والسحر، وتؤمن بأن ما تعانيه من شقاء وبؤس هو قدر عليها ولا تملك لذلك شيء().
والآن عند حديثنا عن الحداثة ندرك أننا نتحدث عن هذه الفلسفة ليس بصفتها "مرجعية فكرية تفرض نفسها عن مجتمعات العالم المختلفة لتشكل تحدياً جديداً لها"() فحركة الحداثة هي حركة فكرية حاولت تبديل المرجعيات القديمة (الكنيسة – الإقطاع- فلسفات التثبيت) بمرجعيات من شأنها أن تعزز قيمة الفرد في المجتمع وتشجعه على التفكير الحر والإبداع "وما إن انتصف القرن الخامس عشر حتى كانت الفلسفية الاسمية قد نضجت في انجلترا وفرنسا، وقضت على جهود المدرسيين في إقامة فلسفة تتفق مع الدين، كما وجهت ضربات قاصمة إلى العلم الطبيعي الأرسطي بجامعة باريس في القرن السادس عشر، وظاهرت الأمراء في تمردهم على السلطة البابوية"() ومن ثم جاءت حركة الإصلاح الديني والتي كانت بمثابة العودة إلى الخلف لأنها تتعامل مع الدين، فهي كما يصفها باسم خريسان "ثورة للاهوت المعقلن ضد لاهوت الكنيسة المعتقل للعقل"() ليصبح كل إنسان يملك الحق في قراءة الدين وتفسيره، وبهذا ربط بعض الأدباء (نشأة التأويلية) إلى هذه الفترة التي حاول فيها الفرد الأوروبي تأويل الكتب المقدسة بعيداً عن سلطة الدين، ذلك التأويل الذي يتوافق مع فكرة الفردية() عُرفت هذه الحركة باسم (الحركة البروستانتية) والتي طغى عليها الجانب العقلي الذي تزامن مع الفلسفات العقلية في تلك الفترة والتي سيأتي على شيء منها نظراً لأهمية الأصل الفلسفي للحضارة الغربية، فالمذهب الرومانسي الذي رفع شعاراتٍ عدة يمجد فيه الذاتية على أصعدة مختلفة فعلى الصعيد الاقتصادي رفعتْ البرجوازية شعارها المعروف (دعْهُ يفعل.. دعْهُ يمُرُّ) وعلى الصعيد الأدبي رفعتْ شعار (دَعْهُ يُعبّر عن ذاتِهِ )(). ومن ثم أصبح العقل والمعرفة هما مصدر المعرفة وهذا لا يعني بالطبع إلغاء الفكر الكنسي الديني، فلا يصح بوجه من الوجوه أن نسقط الفكر الكنسي نهائياً بعد أن كان المحرك الوحيد والأساس، ولكن نستطيع القول بأن الفكر الكنسي قد تراجع إلى مرتبة تلي العقل والتجربة؛ لذلك وُجد منهجان في الفكر، المنهج التجريبي الذي جاء به بيكن والمنهج العقلي لديكارت. فبيكن كما يقول فؤاد زكريا "كان أول وأجرأ من ناقشوا المثل الأعلى للحكمة النظرية"().
لقد أدرك بيكن أن هناك عيباً في طريقة التفكير عند الفلاسفة اليونان القدامى ورجالات العصور الوسطى الذين خلطوا العلم بالفلسفة فجاءت كثيرٌ من نظرياتهم نظريات لا تتعدى الخرافات بشكل من الأشكال، وفي هذه العبارة التي ذكرها عبد الستار إبراهيم، حيثُ ذكَر أنّ أرسطو "اعتقد أن للنساء عدداً أقل من الأسنان ولكنه أي (أرسطو) وعلى الرغم أنه تزوج من امرأتين لم يكلف نفسه مرة أن يقوم بفحص فم أي من زوجتيه ليتحقق من صحة هذا الرأي المزعوم"() ما يبرز التحوّل الفكري الذي جنح إلى العقل والتجريب، وبهذا يتحول الوعي الأوربي ليدخل إلى مرحلة جديدة إبّان عصر النهضة هي مرحلة التنوير كما يقول كانط والذي يعني به "خروج الإنسان من مرحلة القاصر التي تتمثل بالعجز عن استخدام العقل بسبب فقدان العزيمة القوية والشجاعة لتوجيه نفسه بنفسه: ومن هنا فإن التنوير يطالب الإنسان بأن تكون له العزيمة الكافية لاستخدام عقله بنفسه"(). وقد أطلق عبد الوهاب المسيري على هذه الفترة النيرة فترة (الصلابة) التي تعني أنّ الإنسان المستنير يقف على أرضية صلبة يفكر، ويؤمن، وهي الفترة التي تلتها الاستنارة المظلمة حتى الدخول إلى مرحلة المادية الجديدة (المتحركة)، التي يقصد بها مرحلة (ما بعد الحداثة)().



2-1 الحداثة وقليلٌ مما بعدها:
لم تحاول هذه الورقة أن تقوم بما لم يقم به الأوائل من قريب أم من بعيد، ولم تحاول أيضاً أن تتخطى ما يقوم به الأوائل في جوانبٍ من هذا الدرس عصية تماماً، نعتقد أن الابتعاد عنها والنظر إليها من خلال صفاتها أخلق بالدرس العلمي، ومن هذه المسائل مسألة تعريف الحداثة التي لا يكاد يجمع على تعريفها اثنان، ورأت الورقة أن مجرد إلقاء الضوء على بعض تلك الملامح المكونة للحداثة أمرٌ يوحي بمعناها بشكل أفضل من محاولة القبض عليها ضمن حدود تعريف معين.
الحداثة ارتبطت كما مر بمشروع التنوير وبالفلسفة المثالية الذاتية التي أثارت الشك في كل ما سبق لتتيح لنفسها فرصة أوسع للخوض في الأفكار السابقة وفي تشكيل الملامح الجديدة التي تتلاءم مع الحياة العلمية الجديدة، دون خوض من رقيب الكنيسة أو التراث فهي كما يفهمها عبد الإله الصائغ "تمثل انقلاباً على زمن القهر والرتابة والبائد"(). إن جميع ما سبق يوحي بمدى الصلابة التي ينطلق منها مفكرو الحداثة تلك، ثم ظهرت المشكلة الفلسفية الكبرى فالعقلانية التي ارتكزت عليها حركة التنوير والتي حلت محل الدين والكنيسة والتي مثلت النسق الأقوى الذي استطاع أن يزيح الأنساق السابقة، أصبحت فيما بعد محط اتهام بعض المفكرين الماديين فراحوا يتهمون هذا النسق بعدم الاتساق إذ كان مع الحداثة أن حلت الأنا محل الإله، تلك الأنا التي تملك العقل الخارج عن الصيرورة والقادر على التفكير وربط الأمور وتصنيفها، ولكن مع الفكر الجديد الذي اتهم حتى العقل "فلماذا تُنسب للعقل المقدرة على تجاوز الأجزاء وإدراك الكليات والإفلات من قبضة الصيرورة"()، وهنا تمثل الانتقال من الصلابة التي نفخ العقل فيها صلابتها إلى السيولة بعد أن أصبح كل شيء في قبضة الصيرورة.
إذاً نحن الآن أمام ما بعد الحداثة والذي ظهرت تيارات هذا الفكر (تنقد وتفند إطار فكر التنوير والمحورية الغربية، ورفضوا القول بالنزعة الكلية وإنّما قالوا بالنسبية الثقافية)() أما تحديد الفترة الزمنية التي خرجت فيها المجتمعات الأوروبية في الحداثة إلى ما بعدها فهي مسألة أقرب إلى الخوض في مهامه لا طائل منها، فلا أعتقد أن مثل هذا الأمر في تحديد فترة زمنية لظهور حركة ما تحديداً دقيقاً يصل عند بعض الباحثين إلى تحديد الساعة والدقيقة!! أمرٌ علمي يشجعه البحث العلمي، فهذا شارلز جانكس "يحدد النهاية الرمزية للحداثة والانتقال إلى ما بعد الحداثة، عند الساعة الثالثة والدقيقة الثانية والثلاثين من بعد ظهر 15 تموز/ يوليو1972م عندما جرى نسف مبنى بريت – إيغو لسكن ذوي الدخل المحدود في سانت لويس "() لذلك سنحاول تجاوزاً أن تتلمس بداية حركة ما بعد الحداثة عند نيتشه الذي أعلن موت الإله، والذي قصد به كل الأفكار العالمية والعالم المتسامي وهو بهذا ألغى حتى ظلال الإله التي أبقت عليه الحداثة من خلال مركزية (العقل – الأنا)، فموت الإله عند نيتشه هو موت العالم المتسامي، ولو أن الحداثة قد وفت بما وعدت به من عالم مترفٍ وسعيدٍ وآمن لما كان لما بعد الحداثة من قدرة على الظهور، ولكن ما جاءت به الحداثة هو "عدد أكبر من الضحايا والجنود القتلى ومن المواطنين المغتالين والمدنيين المقتولين برداً ومن السجناء السياسيين واللاجئين"() هذا من جهة ومن جهات أخرى حدث نفس الخلل في الحياة الاقتصادية والمعلومات التي رأى في تدفقها مطاع الصفدي أنه "لم يسهمْ في الكشف عن الحقيقة بقدر ما أصبح ذاته حجاباً لها"().

بعد هذه المقدمة التي قرأنا فيها بعض التحولات المكونة للحداثة وتعرفنا على الجوانب الفلسفية للحداثة وما بعدها في مكان نشوبها في الغرب ننطلق من خلال ذلك إلى الحداثة في العالم العربي وتبيان كثير من الأزمات والإشكاليات في الحداثة العربية.


3-1 الحداثة في العالم العربي:

لقد عاش المجتمع العربي فترة من الخمود والسكينة ليست بالقصيرة إبان الحكم التركي للأمة العربية، فقد كان المجتمع العربي يعيش هذا الثبات الرتيب في كل مناحي الحياة، ثبات ديني، وفكري وسياسي، كان العربي إبان الحكم العثماني مطموس الهوية والذات لقد عاش في ظل عنصرية تركية في ذلك الوقت، فالتركي هو كائن أرقى وأسمى وأذكى من ذلك العربي المستَعمَر مما كان له عظيم الأثر في زرع فكرة القوميات في الخلفية الذهنية العربية التي لاقت من المستعمر التركي تلك الإهانة العنصرية بالرغم من أنّ الاثنين يدينان بدين الإسلام، فلا مناص إذاً لهذا العربي أن يبحث عما يميّزه والآخر بمحاولته البحث عن الجذور القومية وصقلها وإبداء محاسنها وشرفها، وانظر ما جاء في (أم القرى) للكواكبي من بغض الترك للعرب، وما كان يجري على ألسنتهم من أمثال دالّة على هذا البغض مع الاحتكار(). ونحن ندرك أن المذهب أو التيار الرومانسي الأوروبي في أحد أوجهه قد ارتبط بفكرة القوميات.
وبدأت في الفترة الأخيرة من الحكم التركي حركات إصلاح دينية كبيرة كالحركة الوهابية في السعودية رغم ما توصف به هذه الحركة من صفات التزمت والجمود الآن، ولا إشكالية في ذلك فالحركة البروتستانتية في بداياتها حملت ملامحاً تختلف عنها في الفترات المتأخرة، فالعربي في الجزيرة العربية كان يعيش حياة أسطورية بكل ما تحمله الكلمة من معنى فهو يتقرب بقبور الأولياء ويتخذها مزاراً ويؤمن بالشعوذة والسحر والخرافات "فكانت أول صوت زعزع سلطان الخرافة التي استولت على عقول الناس وأصابت بالتحريف حقائق العقيدة الدينية"() وقد كان لهذه الحركات الدينية في منتصف القرن الثامن عشر أثراً كبيراً على حركات الإصلاح المختلفة، ومن أمثلة إصلاح الدين الشعبي الفتوى التي أفتاها محمد عبده عام 1905م حول الطربوش أم البرنيطة(). وفي تتابع سريع للأحداث أفاقت الأمة العربية من سباتها العميق مع وقع مدافع نابليون بونابرت عام 1798م الذي ذهل العرب بالأسلحة الحديثة، والمستشرقين والعلماء().يقول المؤرخ الإنجليزي الكود: "لقد ترك الاحتلال الفرنسي في مصر أثراً لا يمحى فقد ظل المصريون يعجبون بنابليون بعد خروجه من ديارهم، وظلت أساليب الإدارة الفرنسية مهيمنة على حكومة مصر وظلت عادات التفكير الفرنسية مسيطرة على الطبقة المستنيرة بمصر وإن ما خلفته الحملة الفرنسية في مصر خلال ثلاثة أعوام لا غير لمن أضخم ما يتسنى إنجازه في هذا الأمد الوجيز"()، ومن هنا لا بد أن يبدأ الإنسان العربي توجهه إلى ذلك الغرب الذي أذهله ليأخذ منه ويستقي من نبعه هذه المعرفة الحقيقية التي حققت له هذا الرصيد الكبير من التفوق فكانت النزعة العقلانية والاتجاه إلى الغرب، حتى وإن كان هناك شيء من تقليد فهذا لا يقلل ألبتة من إمكانية العقل العرب في الإبداع، فهذا الطريق هو تماماً الطريق الذي سلكه الأوروبيون إبان حداثتهم، فالعقلية العربية التي ألح عليها الفضول في أن تزداد إطلاعاً على فكر العقل المتفوق مما يوقعها في تيارٍ من التأثر والتقليد وذلك "مثلما حدث للمجتمع الأوروبي في أعقاب نهضته حيث أصبح الرجال وأفكارهم معهم يتحركون من الجنوب إلى الشمال، ومن الغرب إلى الشرق، ولم يعودوا يكتفون بهذا الغذاء الذي يقيم الأود، وإنما يطمعون في التجديد ويطمحون إلى التغيير، ولو ألقى بهم في أحضان المغامرة"() وقد أصبحت فكرة اللحاق بالحضارة الغربية فكرة مصيرية فهذا حسين فوزي أحد دعاة التغريب في مصر والذي كان واسع الاطلاع على الثقافة العربية يتساءل "متى بدأ المصريون يشعرون بواجبهم الروحي في هذا التطور ويحسون بأن البقاء على القديم فكرياً هو الركود والموت ؟ وأن عليهم واجب اللحاق بركب الحضارة، إذا أرادوا ألا يداسوا كالدواجن ويذلوا كالأنعام"().
فالنزعة العقلية تفضي في نهاية المطاف إلى نزعة أخرى هي النزعة العلمانية، فلقد ارتفعت الأصوات في العالم العربي التي تطالب بالعلمانية كنظام يفصل الدين عن الدولة، فالعلمانية تمثل للحداثيين "روح الحداثة وأهم آفاقها والقاسم المشترك بين عناوينها إذا لا يمكن بدونها تصور وجود ثقافة حديثة وقيام أنظمة سياسية حديثة قادرة على تحقيق التنمية والتطور"(). وقد شنّت الكثير من المعارك على كتابات العلمانيين ومن أشهر تلك المعارك ما شنّه كثير من الأصوليين من تهم على كتاب طه حسين (في الشعر الجاهلي)() وبالرغم من كل تلك الأصوات التي نادت بالعلمانية واعتبرتها أنسب نظام اجتماعي وسياسي للبلدان العربية، لاسيما تلك المتعددة المذاهب والأديان، إلا أنها لم تطبق في أي بلد عربي بشكل كامل. ومما سبق يتضح أن لا عقلانية ولا علمانية ولا إصلاح ديني ولا إمكانية للتوجهات القومية، ممكنة، إلا في ظل الحرية التي شكلتْ أحد أهم النقاط التي نظّر لها المفكرون منذ عصر النهضة "فقد استفاض النهضويون في التكلم عن الحرية وتطبيقاتها المختلفة على الصعيد الشخصي والاجتماعي والفكري والسياسي"() ومفهوم الحرية هو مفهوم من ابتكار المحدثين بمعانيه الكبيرة الاستقلالية بالرغم من وجود ظلال لهذا المفهوم في مباحث المعتزلة عن الجبر والاختيار، مفهوم الحرية مفهومٌ نشأ وتشكل في الظروف التحولية التي شهدتها أوروبا على الصعيد السياسي والفكري والديني بانتقال المرجعية من اللاهوتية إلى المركزية البشرية().
وسوف نكتفي بهذا القدر من الجوانب والمفاهيم التي كانت ترسم أبرز ملامح الحداثة العالمية والتي بلغت من حدود المشابهة درجة الدهشة، لننتقل بعد إثبات هذه الحداثة وتوضيح عالميتها إلى الأزمات والإشكاليات التي اكتنفت الحداثة في العالم العربي على وجه الخصوص.

1-2 أزمات الحداثة:

إن الحديث عن الحداثة هو حديث عن التجديد والتمرد والقطيعة مع الماضي من أجل إيجاد حاضر ومستقبل أفضل، ذي ملامح جديدة ونظريات جديدة قادرة على حمل الإنسان إلى آفاق أكثر رحابة، الحديث عن الحديث هو حديث عن الجدة والتغيير وهذا ما يدفعنا لزاماً أن نتحدث عن مفهوم الأزمة التي لا تنفصل عن الحداثة أبداً، فالحديث عن الأزمة هو حديث عن الحداثة بوجه من الوجوه فالأزمات "شرطٌ مسبق تمهيدي وضروري لظهور نظريات جديدة"()، والأزمة تعني "أن نجد أنفسنا مجبرين على تغيير الأدوات"()، فأزمة الإنسان ما قبل الحداثة هي التي دفعته إلى الحداثة، وأزمته في عهد الحداثة هي أيضاً التي دفعته إلى ما بعد الحداثة، فبدون الأزمة لن يكون هناك تغيير، ولكننا في صدد الحديث عن أزمة الحداثة في العالم العربي ننحرف قليلاً في هذا المفهوم للأزمة؛ إذا أن أزمات الحداثة العربية لا تعني البحث عن المفاهيم الأخرى للحداثة كما بعد الحداثة مثلاً، فأزمة الحداثة العربية تعني محاولة لضبط المفهوم الأساس أولاً، فأزماتنا الحداثية هي أزمات خلط وسوء فهم وعداوة مسبقة للحداثة، فحديثنا عن أزمة الحداثة العربية هو محاولة للانتقال من حداثة مغلوطة، وهمية، خاصة، إلى حداثة عالمية، حقيقية، صحيحة.

2-2 أزمة المصطلح:

لا يكاد يخلو علم من العلوم الطبيعية والإنسانية من أزمة مصطلحات سواء كانت تلك المصطلحات هي مصطلحات نابعة من المجتمع ومن الظروف التي شكّلت خلفيات ذلك المصطلح، أو كانت تلك المصطلحات منقولة من المكان الأصل إلى آخر عن طريق الترجمة، وفي المسألة الثانية تبدو الأزمة أشد وأبرز، فمصطلح الحداثة هو مصطلح جاءنا من الغرب ترجمة لمصطلح (modernity) فعبد العزيز حمودة لا يرى أن الأزمة تكمن في نقل هذا المصطلح من سياق لغوي معين إلى آخر()؛ بل يذهب إلى أن الأزمة هي أزمة فذلكة ومحاولة لإشعار القارئ بعميم المعرفة والتبحر في المذاهب()، وما ذلك إلا نتيجة فصل الدكتور الفاضل الحداثة العربية عن الحداثة الغربية في مشروعه الكبير المتمثل في (المرايا المحدبة) و (المرايا المقعرة) و (الخروج من التيه)، يقول عبد العزير حمودة: "حينما ننقل نحن الحداثيين العرب المصطلح النقدي الجديد في عزلة عن خلفيته الفكرية والفلسفية فإنه يفرغ من دلالته ويفقد القدرة على أن يحدد معنى"() وليس قَذْفُه لشريحة كبيرة من الحداثيين بهذه الألقاب (الفذلكة، إبهار القارئ، المراوغة، الانبهار بالعقل الغربي، احتقار العقل العربي، وغيرها من الألقاب) ما يمكن أن يُنْظَر إليه بجدية وعِلمية، فكأنّه يحاكم شريحة كبيرة ممن أفنوا عمرهم في دراسة الحداثة من خلال بعض الشواذ والنادر الذي لا يقاس عليه، أما هذه الورقة فتحاول أن تقارب شيئاً من أزمة المصطلح في شموليته وكليته، فالمصطلح الحداثي أفرز أزمة كبيرة في بيئته الأصل فهل كان ذلك انبهاراً واحتقاراً ؟! فإشكالية مصطلح الحداثة تتحدد عن أدونيس "لا من حيث علاقاته بالغرب وحسب بل من حيث تاريخه الخاص"() حيث أن الحداثيين في الغرب قد ارتبكوا في تحديد المصطلح وظهر اضطرابهم بين مصطلحي (modernity – modernism) فنرى بيتر بروكر يترجم الأول بالحداثة والثاني بالمعاصرة() وهذا هابرماس يجعل المصطلح الأول يدل على الإطار المعرفي للحداثة، أو الوعي التاريخي السائد إبان مرحلة معينة من القديم إلى الحديث، بينما يجعل الثاني بمثابة المحصلة لذلك التراث الفكري()، وامتد هذا الافتراض إلى الحداثيين العرب فذهب طائفة منهم إلى ترجمة مصطلح modernism إلى الحداثة دون التطرق إلى مصطلح modernity ومن هؤلاء، فوزي كريم()، شكري عياد()، محي الدين إسماعيل() وآخرون ذهبوا إلى أن المصطلح الثاني يستخدم في الغالب في الدراسات الفلسفية المنهجية والاجتماعية، في حين نجد المصطلح الثاني وهو الأكثر شيوعاً يستخدم في الدراسات الأدبية والفنية() أما هذه الورقة فترجح كون مصطلح modernity يعني الحداثة في إطارها الشامل والكلي دون تقيد باشتراكات مذهبية أو خلفيات اجتماعية ما، فنستطيع نتحدث عن الحداثة في الأدب الفرنسي أو الإنجليزي أو العربي بماهية واحدة، أما مصطلح modernism فرغم أنه ينتمي لغةً إلى نفس الجذر إلى أنه يعني حركة معينة داخل الأدب الغربي مشروطة بوضع تاريخي معين() فنستطيع عندها القول بحداثانية فرنسية أو إنجليزية أو عربية *.
ومن منطلق التفريق بين الحداثة والحداثانية نمر على أزمة أخرى من أزمات الحداثة في العالم العربي، إذ كثر الحديث عن حداثة عربية بين حداثاتٍ أخرى، وهذا ما سوف نعالجه في الفقرة الآتية:

3-2 أزمة الحداثات:

يذهب كثير من الدارسين العرب من القول بوجود حداثات مختلفة وإلى وهم مفهوم الحداثة الكلية الشاملة، نظراً لوجود اختلافات بين تلك الحداثات في بيئتها الأصل بله على أن تكون تلك الاختلافات بين مجتمعين مختلفين فعندها يكون الاختلاف أوسع والتمايز واضح، وهذا عبد العزيز حمودة يقول عن حداثة الغرب:"إن الحداثة التي يتحدثون عنها في الواقع أكثرمن حداثة"()، ويتحدث محمد عابد الجابري عن خصوصية الحداثة العربية من حيث خصوصية ثقافتها منكراً وجود حداثة مطلقة، كلية وعالمية()، وهذا فهم خاطئ للحداثة التي جاءت كدين جديد (مجازاً) في الغرب، دين عالمي للبشرية جمعاء لا تحدها بيئات ولا ظروف معينة فهي صالحة لكل ما هو بشري، فالحداثة ليست نظرية مستوردة من الغرب بهذا المفهوم للمعنى، لأنها لو لم وجدت في الغرب فإنها لا محالة سوف تنشأ لدينا، وهي ليست نظرية مستوردة من الغرب تماماً كما أن المسيحية في الغرب ليست مستوردة ()، إن العالمية في مفهوم الحداثة ناتج في الأساس من خلال علاقات القوى المهيمنة والتي من شأنها التقريب بين الثقافات العالمية وكسر الحواجز والحدود، حتى يصبح هذا العالم قرية كونية نتيجة التطورات الهائلة في مجال الاتصالات والمواصلات والتكنولوجيا، وهذا ما تبحثه العولمة والتي يمكن "تلخيصها في كلمتين: كثافة انتقال المعلومات وسرعتها ، إلى درجة أصبحنا نشعر أننا نعيش في عالم واحد وموحد.... فهناك ميلٌ لا رادّ له، إلى توحيد الوعي وتوحيد القيم وتوحيد طرائق السلوك وأنماط الإنتاج والاستهلاك، أي إلى قيام مجتمع إنساني واحد"()، إذاً فالحداثة ذات طابع شمولي كلي عالمي ولا يكفي وجود الاختلافات بين اتجاهاتها أن يكون سبباً لخلق حداثة مختلفة، صحيح بأن "الحداثة تختلف من زمن إلى آخر ومن قطرٍ إلى آخر، لا بل من لغة إلى أخرى، ولكن جوهر الحداثة يكمن في طابعها العالمي، أو هي مرادف للعالمية كما قال بعض النقاد"()، ولكن خوف العرب على الهوية العربية هو مادفعهم إلى محاربة الحداثة بطرق مشروعة أو غير مشروعة، ومن زوايا غير صحيحة فالحداثة لا تلغي أبداً الذات الإنسانية بل إن لكل إنسان الحق في دفع الحركة الثقافية والعلمية، والإضافة إلى الرصيد الإنساني الكلي، فالإنسان اليوم ليس إنسان الأمس الذي لا يكاد يعرف من الدنيا إلا ما يقع تحت رجلية، لا غرو إذاً أن الحداثة هي حداثة عالمية واحدة، شمولية، كلية()، ارتبطت بظروف كونية واحدة وتضمنت مفاهيم قيمية واحدة في جوهرها على الأقل، واتسمت بملامح كثيرة كالعقلانية والنزعة الإنسانية ونظريات العلوم، فلا حداثة بمعناها الاصطلاحي، ممكنة، في الأزمان الفائتة، كما يذهب لذلك مجموعة من الدارسين، وبذلك نرصد أزمة فهم جديدة هي الأخرى:

4-2 أزمة الحداثة كمفهوم (زمني – قيمي):

يرتبط مفهوم الحداثة كجذر لغوي بالجدة ومناقضة القديم من جهة ومن جهة أخرى يرتبط بالشيء الذي لم يكن موجوداً سابقاً وذلك لا يقتصر على لغتنا العربية فقط، فقيل المحدث: الأمر المبتدع، أو ما لم يكن معروفاً في كتابٍ ولا سنة ولا إجماع، والحدوث كون شيء لم يكن، والمحدِث: المجدد في العلم والفن()، وقد ظهرت هذه المفردة عند النقاد العرب القدامى بما يتلاءم مع جذرها اللغوي بعيداً عن اصطلاحٍ قد يحرف المعنى عن الأصل الذي وضع له. فهذا ابن قتيبة يقول: "لقد كثر هذا المحدث وحَسُن حتى هممت بروايته، ثم صار هؤلاء قدماء عندنا ببعد العهد، وكذلك يكون من بعدهم لمن بعدنا..."()، فالدلالة الزمنية واضحة أشد الوضوح في لفظ المحدث عند ابن قتيبة. ومثله ابن رشيق حيث يقول: "كل قديم من الشعراء فهو محدث في زمانه بالإضافة إلى من كان قبله"()، ويبدو أن هذه الدلالة الزمنية التي يحملها مصطلح الحداثة والتي شحنت بالمفهوم الزمني منذ القديم أوقعت بعض الدارسين في أزمة مفهومية للحداثة، فعبر بعض الدارسين عن الجدة والمعاصرة بالحداثة، وتحدث عن هذا المحدث القديم وكأنه حداثة وذلك لجدته فقط، فكريم الوائلي في سياق حديثه عن الخطاب النقدي عند المعتزلة يتطرق إلى "أن الحداثة قد ولدت ضجة في القرنين الثاني والثالث الهجريين، وكان طريق الانتصار ممهداً لها في القرن الرابع الهجري.... ولذلك راح الناقد الاعتزالي يدافع عنها بحماس معتمداً على المقومات العقلية التي ترفض التسليم المطلق للقديم لمجرد قدمه.... "()، ويلاحظ القارئ استخدامه مصطلح (الحداثة) وكأنه يعبر عن المحدث أو الحديث، ويضيف ما يوحي بأنه حداثة، وذلك خلال حديثة عن النزعة العقلية!! وهذا خلطٌ عجيب، فالنقاد كما يقول هو "فطنوا للحداثة في بعدها الزمني"()، أي أنهم لم يتعدوا مفهوم ابن رشيق وابن قتيبة، بالرغم من أنهم لم يتعاملوا مع مصطلح الحداثة وإنما محدث، ويبدو أن النزعة العقلية عند المعتزلة أوهمته تبرير استخدامه للحداثة، وهذا ما لا يكون، ويربط دارسون آخرون بين الحداثة وبين شعراء ومذاهب في العصر العباسي مثلاً! وذلك كخالدة سعيد () وفوزي كريم ()، وطرّاد الكبيسي ()، ومحمد عبد المطلب()، وأدونيس()، الذي يقول عنه محمد بنيس أنه "مكتشف التنظيرات العربية للحداثة في ثقافتنا العربية"()، وهذا ما لا تقبله ورقة البحث هذه، التي تصدر عن آراء تتمثل في وحدوية وفرادة وعالمية الحداثة، ومما أدى إلى ذلك الخلط هو المحمول الدلالي لكلمة دلالة، فهي تحمل الزمن الحادث والجدة والإبداع هذا من ناحية الجذر اللغوي، وتحمل مفاهيم تمردية ثورية لا تقبل القيود والإتباع، وهذا جانب واحدٌ من جوانب كثيرة تشكلت منها الحداثة، ولكن للأسف توقف الدارسون عند نصوص تراثية حملت بعض المفاهيم الحداثية، إما من خلال الزمن أو الجدة أو التمرد والثورة، وصنّفوها ضمن الحداثة متغافلين عن محمولات الحداثة الكونية الواحدة والتي واكبت العلمية والاقتصادات الرأسمالية والاشتراكية، والعالم الجديد المضطرب والمحمّل بالوسائل التكنولوجية العالية المستويات، والتي زعزعت الإنسان بالعلوم الإنسانية، وتلك الوسائل التي ذهبت إلى مزاحمته في مجال العمل حتى ألغته تماماً في بعض جوانب الحياة، نعم، لقد تغافلوا عن كون الحداثة فن المدن بالدرجة الأولى ()، تلك المدينة المترامية الأطراف والتي عكست تمزقها وتبعثرها في شعر شعرائها().
فبداية الحداثة "لا تكون إلا في الفترات المتأخرة مع (اللقاء الاستعماري) مع الغرب، فقد دخل العرب مستعمراً، ومن النافذة نفسها، تدفقت منجزاته الحضارية ما أدى إلى انشطار الذات زمانياً (نحو الماضي)، ومكانياً (نحو الغرب)، هذا الاحتكاك خلخل القيم المحلية وجعل الشخصية المحلية تهتز لأول مرة وتبحث عن الذات"()، ومن هنا يتضح أن الحديث عن الحداثة ليس حديثاً عن مفهوم يناقض القديم ()، وليس حديثاً عن أمرٍ مبتدعٍ وجديد، وليس حديثاً عن ثورة وتمرد ورفض لسكونية ما، وليس حديثاً عن البحث عن تحقيق الذات، بل إن الحديث عن الحداثة هو الحديث عن كل ما مضى مجتمعاً، يحتويه إطارٌ زمني محدد، عاش فيه الإنسان عصر العلوم فأنتج الآلات وطرق الاتصال الحديثة وعرف المدينة التي كانت مثالاً قاسياً لتحقيق الذات، نعم هذه هي الحداثة تلك العجائبية التي لا تفتأ عن عشق المتناظرات، فبدأت حداثة عقلانية وانتهى بها المسير إلى اللاعقل، بدأت بشك ديكارت المثمر، وانتهت بشكل نيتشه العدمي.
وهذا ما يفسر مزاوجة بعض الدراسين بين الحداثة واللاعقلانية بالرغم من النزعة العقلية التي تنزعها الحداثة ففضلنا الحديث عن هذه الإشكالية:

5-2 الحداثة بين العقلانية واللاعقلانية:

لقد رصدنا عند الحديث عن تاريخ نشأة الحداثة النزعة العقلية الكبيرة للحداثة، والتي ربما تكون هي النزعة الأبرز والملمح الأصفى، في تاريخ الحداثة، فالفكر والعقل في زمن الحداثة قد حلا بديلين عن الأسطورة والإيمان، والحقيقة العلمية حلّت محل الحقيقة الدينية()، فمع الحداثة اتجه المجتمع نحو رفع الممنوعات والمحرمات التي فرضت عليه، فلم يعد يرى في جسده ما يحرّم دراسته()، ولكن أصبح العقل أداةً لاستعباد الإنسان، فالنظرية الهيغلية والماركسية اللتان تمثلان أبرز تجليات العقل، كانتا تمثلان نظماً شمولية كلية، فقيمة الإنسان أصبحت مرتهنة بممارسات جماعية غير واعية، وأصبح الإنسان جزءاً بالغ الضآلة، فلم يعد هناك ما يسمى باستقلال الفرد وحريته ()، ويعالج هابر ماس العلاقة بين السلطة والتقنية، فبعد أن كان المرجو من هذه التقنية إسعاد البشر وتحقيق ذواتهم وحرياتهم، أصبحت هذه التقنية تمارس تأثيرها على الإنسان()، مما دفع الكثير من المفكرين إلى القول بما بعد الحداثة التي تمثل حالة السيولة فهي "ثقافة تسخر الآن من فكرة النظام وتمجد المنظورات المتباينة وكل صنوف التلاعب بالزمان والمكان، والحياة المعلقة على حافة الموت، والذاكرة المعلقة على حافة النسيان والغياب"()، إذاً هناك عقلانية حداثية في البدء، ثم ماذا؟ لقد خرج نظام الأشياء عن السيطرة، وعن حدود التنبؤ فحدث اختلال في المفاهيم وصدمة حضارية عنيفة للإنسان، الذي ثار وناضل ودفع حياته من أجل مبادئ وقيم ما لبثت أن تلاشت، ليدخل بعدها إلى مرحلة جديدة عُرفت بما بعد الحداثة.

يتضح مما سبق أن هناك ثلاث مراحل متداخلة: الحداثة، الصدمة، بعد الحداثة، ومرحلة الصدمة هي المرحلة الانتقالية بالطبع من الحداثة إلى ما بعدها، وقد حملت ملامح من المرحلتين السابقة لها واللاحقة له، وقد عبّر حمّودة عن هذا التداخل بشكل غير مباشر إذ يقول: "أما ما بعد الحداثة فقد بدأت قبل صعود نجم البنيوية، وعصر الشك في الثوابت، بما في ذلك سلطة العلم، عصر التفتت والتشرذم .... كان قد بدأ بالفعل قبل ظهور البنيوية بسنواتٍ"()، فالعقلانية هي السمة الرئيسة للحداثة، أما اللاعقلانية فهي السمة الرئيسة لما بعد الحداثة والتي (اللاعقلانية) بدأت تظهر في الفترات المتأخرة لمرحلة الحداثة للأسباب السابقة الذكر، وتميل هذه الورقة إلى أن كثيراً من الدارسين الذين قد وسموا الحداثة باللاعقلانية أصدروا مثل هذا الحكم من خلال رصد المرحلة اللاعقلانية المتأخرة من الحداثة، بالإضافة إلى تركيزهم على الحداثة الشعرية التي اتسمت باللاعقلانية في مرحلة متقدمة من الحداثة، "فالحداثة وُسمت بعقلانيتها، لكن المعروف أن أدب الحداثة بتناقضاته وعدم منطقيته وشطحاته الخيالية، إلى درجة تعزل الشاعر عن واقعه يفارق العقل والمنطق والواقع"()، وفي العالم العربي كانت حداثة الشعر متقدمة على الحداثة العلمية الثورية() لهذا كثر الحديث عن حداثة لا عقلانية عربية فالشعر مادة تعتمد على الخيال أكثر بكثير من اعتمادها على الموضوعية والعقلانية الحداثية، وإن كان جنوح القصيدة الحداثية إلى الأساطير والرموز والقناع ما هو إلا محاولة هذه القصيدة الإلمام بشيء من العلمية والعقلية، وفي محاولة القصيدة الحداثية السير على خطى الفلسفة الحداثية، التي تبنت التمرد على القديم ومحاولة البحث عن ما هو غير مسبوق، فظهر على السطح مفهوم التجريب "بحثاً عن رؤى جديدة وأسلوب جديد يبغي الكشف عن شكل فني وتقديمه بصيغة تتجاوز التعامل المألوف...."()، والتجريب بهذا يضفي على النص الشعري غموضاً لعدم ألفته فيقربه من اللاعقلانية، كما عرفت القصيدة الحداثية بأنها قصيدة رؤيا همّها الأول هو الكشف والإبداع ليتحول الشعر من حدوٍ للإبل إلى صورة من صور النبوة ()، فالحداثة كما يقول محمد جمال باروت "رؤيا قبل أن تكون شكلاً فنياً"(). تلك الرؤيا التي حاول بها الحداثيون أن يعودوا بالشعر إلى مكانته القديمة، التي فقدها لحساب العلوم الطبيعية والتقنية التي أثبتت وجودها في زمن المادة والحداثة، فحاولوا التخفف من الأغراض القديمة كالمديح والهجاء وغيرها()، ولسنا الآن بصدد الخوض في الحديث عن الغموض في شعر الحداثة، ولكن تحاول هذه الورقة إثبات النزعة اللاعقلانية في أدب الحداثة، وإضافة إلى ما سبق، فالشعراء والفنانون قد أحسوا وشعروا بأزمة الحداثة في وقت مبكر نظراً لما حباهم به الله من حدس شفاف ورؤية ثقافية وعاطفة مستفيضة، فعاشوا التوتر والاكتئاب والصدمة بالعالم المادي مبكراً، "فاتجه شعراء الحداثة نحو العالم الدينوسي حيث الإثارة والنشوة والمغامرة التي لا هدوء فيها ولا صفاء، بل إحساس مدهشٌ بالقوة، واستسلام لسلطة المخدر الذي ينسي الإنسان نفسه، فيتماثل مع الطبيعة أو مع الجموع البشرية في غمرة أوضاعها الأقل عقلية والأكثر غريزية"(). ولم يبقَ أمام الفنان سوى الاستنجاد بقوة المخيلة لإقامة الواقع البديل والكشف عن العالم المجهول والحقيقة الخفية. فمن هذا الجانب كثر الحديث عن لا عقلانية الحداثة الذي نلخصه بأمرين: الأول: النظر إلى الحداثة في فتراتها المتأخرة الثاني: الحديث عن الحداثة من خلال الفن، والذي كان وقعه في العالم العربي أكبر، نظراً لضخامة الحداثة الشعرية في الوطن العربي مقارنة بنظيرتها العلمية.

الخاتمة

اتضح مما سبق، أن الحداثة مفهوم شمولي، عالمي، وكلي، عاش ظروفاً خاصة ساعدت على تشكيله وتكوينه، فنشأت الحداثة وهي تدعو إلى نبذ المعتقدات البائدة، والفكر القديم؛ لتنهي سطوة المقدسات التي يفرضها الجمود الفكري أو المصلحي ذلك الجمود الذي نما وترعرع في ظل الفلسفة القياسية، بعيداً عن التجريب والعلم. فلم تكن الحداثة رؤية محدودة لمجتمع معين بعد التقارب الشديد الذي يعيشه العالم في ظل شبكة الاتصالات والمواصلات العالية المستوى، أو بعد تطور مفهوم العولمة، فكان لا بد من رؤية جديدة قادرة على استيعاب العالم بوصفه قرية كونية واحدة، وكانت الحداثة هي الرؤية التي تبنتها الظروف الكائنة من حولها، لتمثل الدين (مجازاً) الجديد الذي يقبله الإنسان في بقاع المعمورة، بعيداً عن التشنجات الدينية المتباينة، والعادات المرتبطة بأقليم دون آخر.
فعاشت الحداثة ظروفاً مشابهة في العالم بأسره، بغض النظر عن آراء كثير من الدارسين الذين حاولوا التغاضي عن وجودها في الوطن العربي، فالإنسان الذي تعامل مع التكنولوجيا لا يشبه أبداً الإنسان الذي تعامل مع الناقة في شيء، لا في إيمانه ولا تفكيره ولا تقديره للأمور.
ولكن الحداثة كما قبلها ليست مطلقاً خارجاً عن حركة التاريخ وجدلية الحياة، ككل بداية، تقطع سيرها إلى نهاية، فبدأت الحداثة بعقلانية شديدة السيطرة في جميع مناحي الحياة: القانون، الاقتصاد، الأدب، توفير الرخاء والرفاه للإنسان.....، وانتهى بها المطاف إلى اللاعقلانية والتمرد والتشرذم لتعلن عن ولادة ما بعد الحداثة.
لقد جاءت ما بعد الحداثة إعلاناً عن عملية تفكيكية ونقدية لمرجعيات الحداثة.

alfaresmido

أنا مسلم .. أعتز بديني

  • Currently 61/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
21 تصويتات / 3519 مشاهدة
نشرت فى 14 ديسمبر 2010 بواسطة alfaresmido

ساحة النقاش

الفارس أحمد عطا

alfaresmido
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

115,364