صعوبات القراءة (ديسليكسيا )
لم أستطع أن أعبر عن غبطتي ودهشتي للدرجة العالية من الثقة بالنفس التي تفوق كل التوقعات للطفل ذي الاثني عشرعاما، رغم أنه لم يلتق بي من قبل، إلا أنه كان واثقا من أجوبته وتفاعله الاجتماعي معي، ومع الحضور بعيادة علم النفس. الطفل رضي كان الطفل الخامس بين إخوته السبعة، لأم غير متعلمة وأب عسكري محدود التعليم - لكنه أيضا حاد الذكاء، وحريص على مصلحة الابن بدرجة راقية جدا- أفضل من كثير من الآباء المتعلمين الذين مروا بالعيادة من غير مبالاة بمستقبل الابن لأسباب واهية، أو أوهام لا أساس لها من الصحة..! للأسف.
إن غالبية الأطفال يكون مستوى ذكائهم حوالي 100 درجة (يقل أو يرتفع قليلا فقط)، وهكذا مستوى الطفل رضي، فإن ذكاءه ضمن المتوسط، ولكن نجاحه بالمدرسة متعثر جدا، وعنده مشاكسات ومشكلات كثيرة. كل الأشعة والفحوصات الطبية لم تثمر عن شيء، وجاؤوا به لعيادتي لمعرفة مشكلته الأكاديمية، وسبب عدم قدرته على إتقان المهارات. الفحوصات الأولية واختبارات الذكاء تشير إلى أن رضي عادي ولا مشكلة لديه، ولكن عندما قمت بإجراء مجموعة من الاختبارات النفسية العصبية
( neuropsychological assessments) بدأ فجر الحقيقة يبتسم، موضحا قلب المشكلة التي يعانيها رضي. إن هذه الاختبارات دقيقة ومعقدة، وتستخدم بالغرب بطريقة صحيحة ومتكاملة- ومكلفة للوقت والجهد، وهي نادرة عندنا بالسعودية والبلدان العربية- من أجل الوصول إلى معرفة نقاط القوة والضعف عند الطفل (أوالراشد) بخصوص قدراته الذهنية والذكاء والذاكرة واللغة (قراءة وكتابة) والتفكير المنطقي... إلخ.
من نقاط القوة جدا عند رضي قدرته الحسابية، وكأنه يتسابق مع الآلة الحاسبة، ويحل المشكلات الحسابية المقروءة عليه بلا زمن- سبحان الله. بعدها أعطيته مشكلة حسابية أبسط لكنها مكتوبة..ولم يستطع الإجابة..!، وتغير مزاجه، وعبر عن إحباطه بجنب اندهاش وجزع الأهل.
"صعوبة القراءة- ديسليكسا":
إن رضي يعاني من " صعوبة القراءة- عسر القراءة" كنوع شائع من صعوبات التعلم. إن قراءة السؤال أعاقت قدرته الحسابية، وهكذا فإن كل اختبارات المدرسة المكتوبة صعبة جدا عليه، لكن كل سؤال مسموع سهل عليه. وأكثر من هذا فإن الكتابة أيضا وبنتيجة منطقية فإنها (الكتابة) عسيرة عليه لحد الخجل، فهو لا يستطيع كتابة كلمة بسيطة بصورة صحيحة( مثل: مدرسة، كلمات..)!
مع تراكم السنين أصبح رضي لا يقترب من شيء اسمه قراءة أو كتابة، وبعض المعلمين المخلصين تنبه إلى ذكائه وصعوباته، ولكنهم للأسف لم يفهموا بالذات صلب المشكلة، وهناك آلاف الأطفال مثل رضي. لقد تعلم رضي أن "يخمن" الكلمات، بمعنى أنه يقرأ الكلمة بالمخ لا بالعين- لا كما هي مكتوبة . بل كما هي متوقعة حسب مخه (عقله- بلغة أهل الكمبيوتر فإن مخه يقوم بحساب الاحتمال العالي لمعنى الكلمة وينطقها).
من الأخطاء الغريبة التي ينطقها رضي- ويصرح بها لحظة صدق ومواجهة للحقيقة- هي أنه يقرأ كلمة لفظ الجلالة " الله" يقرؤها " ربي". هناك تفسير علمي لهذه الظاهرة ليس محله الآن- سوى الإشارة إلى سياق النص وإلى معنى الكلمة.
من الصعوبات المهمة في عسر القراءة- وهي مختلفة من طفل إلى آخر من حيث الشدة والصعوبة- أن رضي يقرأ كل كلمة من جديد ، وكأنه لم يقرأها من قبل، فهو يتعثر كثيرا عندما أكتب له الكلمات التالية (لكمات، كلمات، لقمة، كلمة)، فإنه يتردد كثيرا ولا يستطيع أن يقرأها تكرارا صحيحا بعد أقل من دقيقة، إلا أنه يستطيع أن يتذكر موقعها من الكتاب، ويتذكر النطق السابق- وهذه ذاكرة وليست قراءة، فإذا غيرت موقع الكلمة بدأ من جديد تماما وبصعوبة معتادة، وكل هذا يفسر مشكلات رضي الأكاديمية بالمدرسة، حتى بالمواد الأخرى التي تعتمد على القراءة والكتابة ( جغرافية وقرآن ونصوص...إلخ) والمواد العلمية تحتاج قراءة السؤال لحله..، وهنا المشكلة.
فالمشكلة لا تخص مادة بل أداء معرفيا في كل يوم بالمدرسة. كيف سينجح إذا لم يستطع القراءة؟، وكيف سيقرأ أمام الفصل إذا كان عارفا بصعوبات القراءة لديه..؟ . عدة مرات سمع من المعلمين أنه "غبي"! ظلما للأسف.
هذه الظاهرة (صعوبة القراءة dyslexia) حقيقة، كما أسلفت في مقالات سابقة لا تخص لغة أو طبقة اجتماعية معينة، وهي تكثر عند الذكور. إن سببها هو مشكلة عضوية في نمو المخ، وليس كسل الطفل أو غباء أو إهمال الوالدين كما يعتقد البعض، لكن يجب أن نبين أن الاختبارت (النفسية العصبية) هي التي تحدد إذا كان الطفل يعاني من اضطراب "صعوبة القراءة"، ولكن ليس كل من تكون قراءته ضعيفة لأسباب أخرى ومتعددة يعني بالضرورة عنده صعوبات قراءة".
المهم في الموضوع بعد التشخيص الدقيق، هو كيف نتعامل في البيت والمدرسة والعيادة مع الطفل وصعوبته المعرفية –هنا صعوبة القراءة- وما هو العمل النفسي التأهيلي. من الخطوات التي أتبعها في العيادة إخبار وشرح كل الصعوبات المعرفية، ومنها صعوبة القراءة للأهل، وبعدها للمدرسة كلما سنحت الفرصة.
بعدها نبدأ باتخاذ الخطوات التعليمية- التي هي مبنية على معرفة بتركيبة المخ ووظائف المخ وعلاقتها بالقراءة...إلخ، وبالحالة النفسية للطفل. ومن ثم أبدأ بالتركيز على العودة لأساسيات تعلم الحروف والكلمات البسيطة. هنا أبدأ كذلك بتعليم الطفل(وتعليم الأهل ليعلموا الطفل) المقاطع الصغيرة جدا لبعض الكلمات أولا، وكيف تتجزأ الكلمة.
من الجوانب النفسية المهمة التي أركز عليها أن أساعد الطفل على تعلم طريقة جديدة للقراءة لا تعتمد على التخمين ولا التذكر. يبدأ تعلما جديدا بتتبع ا لحروف بصريا- حرفا حرفا ومقطعا مقطعا. وأكثر من هذا فإنني أحاول أن يتعلم المقاطع أو شبه كلمات بمعنى ( لا، مـية، صح، مسح...إلخ) أو بلا معنى (خص، ثي، سي ، عس). إن هذا التعلم سيعيد إليه القدرة على تعلم القراءة بصورة جديدة وفعالة.
إن الطريقة النفسية الجديدة للتعلم لا تتبع بالمدرسة، وطبعا ليس في فصول دراسية متقدمة ( سادس ابتدائي مثلا)....وتتطلب فترة طويلة جدا من التدريب مع مهارات عالية ومتخصصة جدا في علم النفس العصبي. ليس هناك طرق سحرية لعلاج صعوبة القراءة، ولا يجب أبدا الانخداع بطرق تجارية غير دقيقة وبلا أساس علمي أبدا- مثل النظارات التي يسوق لها البعض بلا دليل علمي مثلا.
المهم أن نعرف أن صعوبة القراءة- ديسليكسيا- ظاهرة واسعة الانتشار بين الذكور (أطفالا وكبارا) ويعانون منها، فلذا إذا ترك تشخيصها وعلاجها مبكرا فإنها تسبب مزيدا من المشكلات النفسية والمدرسية والمهنية للطفل والأهل، لكن يجب أن تشخص بالطرق الصحيحة، وبالجهد المتكامل من العيادة والبيت والمدرسة لنقلل من أثرها السلبي. كلما بادرنا مبكرين بالتأهيل النفسي العصبي الصحيح للمشكلة جنبنا الطفل مشكلة التخلف الدراسي والمهني مستقبلا، وإلا فإنه سيعاني منها طول العمر.
المصدر: الدكتور موفق العيثان
استشاري علم النفس العيادي
نشرت فى 20 مارس 2011
بواسطة alenshasy
هدى علي الانشاصي
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
10,398,289
ساحة النقاش