أنواع التعرف
قلنا من أسس القص الحسن الروائى أو الدرامى ( التعرف ) وهو الاس السادس
البداية - الابتلاء - الزلة - العقدة - الانفراجة - التعرف - النهاية
أى تعرف ينقلنا من الجهل بالشيء إلى العلم به ومعرفته وهو من أهداف التعرف ، وتحقيق التحول من الجهل إلى العلم ، ومن الكراهية إلى الحب ، ومن الفعل إلى عكسه الخ0
المهم أن التعرف يقود إلى تحول من الأسوأ إلى الأحسن بكل ما تحمل من معان ، لأن المحك أن البطل مأزوم ، يصنع التعرف ليحل له هذا التأزم ، أو على الأقل ييسره له ويعينه لا أن يصعب عليه.
إلا فى حالة بطل التراجيديا السوداء حيث يحدث التعرف بعد فوات الاوان مما يكون وبالا على البطل وكشف ستره والسخرية منه ، ليذهب إلى مصيره الذى يصير محتوما بسبب هذا التعرف .
فى قصة أو سورة يوسف جاء على أجمل وأحسن أنواع التعرف حيث مكمن الإعجاز فى القرآن من أن الله جعل التعرف هنا غامضا ، أى لم يبسطه تمام البسط لنعرف نحن كيف عرف يوسف إخوته ؟ ليجعلنا نحن - المتدبرين والمتأملين والفاحصين والمفكرين - أن نستدل بما يفتحه الله علينا من عنده لنعرف الطرق الحتمية أو المحتملة للتعرف ، أى أنواع وأدوات التعرف التى من الممكن أن يعرف بها يوسف إخوته ، أو أى واحد منا لو كان مكانه 0
1- التعرف بالقلب
أى الإحساس والفطرة السليمة والغريزة المخلوقة من الله فينا التى يشعر بها من تربطهم أواصر الدم وصلة القرابة ، مثل الأب وأولاده ، أو الأخ وإخوته ، أو الأم وأولادها وغيرها0 وهذا محتمل إن لم يكن حتميا 0
2- التعرف بالعقل
إذ إن الصغير ملامحه تتغير وتتبدل ، بينما يظل الأكبر ملامحه لحد كبير ثابتة ، فمن اليسير أن يتعرف المتغير على الثابت ، وقد كان كذلك إذ يوسف هو الأصغر وإخوته هم الاكبر، وهنا التعرف من الممكن أن يكون حتميا، وهذا الرأي ما ذهب اليه ابن كثير .
3- التعرف بالعلامات المميزة
من حسن وجمال إخوته 0ذكر ابن كثير قال : إن إخوة يوسف كانوا أشكالا حسنة وصورا بديعة ، وأنا أزيد عليه بالدليل من أن يوسف أخاهم عنوانهم من الجمال ، لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقوله [ فمررت بيوسف عليه السلام إذا هو قد أُعطى شطر الحسن ] والتعرف محتمل0
4- التعرف بالاستنتاج الصحيح
ويأتي محتملا من خلال تحية آل يعقوب الخاصة بهم وهى السجدة ، والدليل على ذلك أن سجد يوسف مع إخوته تحية لعمه بأمر من أبيهم – وهذا عرف من صفات الشخصية الداخلية أى قبل بدء الأحداث - إذ من المنطق أن يدخل الأضعف والمحتاج والرعية على الحاكم أن يحيوه ، فحياه إخوته بسجودهم له فعرفهم مستدلا أن أحدا غير آل يعقوب لهم هذه التحية ، وأن السجدة هى محور القصة ونقطة ارتكاز كبيرة فيها ولها دور محوري ، والسجود هنا هو نوع من أنواع التحية والإكبار ليس سجدة عابد ، وتحية الفرعونيين آن ذاك الركوع لا السجود ، وهو فى التوارة ايضا.
5- التعرف باللغة
حيث يوسف مع الفرعونيين الذين لهم لغة خاصة بهم (الهيروغليفية ) بما عرفناه نحن من علماء الآثار0 وعندما قدم إخوته تكلموا معه بلغتهم التى يعرفها هو وهى لغة أهل كنعان العبرانية ، فعرفهم وهو محتمل 0
6- التعرف من خلال شخص آخر
وأقصد الحرس ، إذ ليس من المعقول أن وزيرا مهما ولديه حرس والدليل وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم ونستدل منها أنه كان حوله حرس يأتمرون بأمره ، وليس من المعقول ألا يقوم هذا الحرس بتنظيم الداخلين إليه من كل الأقطار يطلبون منه الطعام إلا أن يطلع الحرس -على الأقل - على هويتهم وأسمائهم ، ومن خلال الحرس الذين أخبروه عن الأسماء والهوية من يحتاجون إلى الميرة أن عرفهم يوسف ، وهذا محتمل 0
7- التعرف بالاستدلال الصحيح
عندما دخلوا عليه وكلموه بالعبرانية وهم لم يعرفوه قال لهم : ما أقدمكم إلى بلادي ؟ فقالوا : للميرة ، فقال : لعلكم عيون ، قالوا معاذ الله ، فقال : فمن أين أنتم ؟ قالوا من بلاد كنعان وأبونا يعقوب نبي الله ، قال: وله أولاد غيركم ، قالوا نعم ، كنا اثني عشر فذهب أصغرنا هلك فى البرية وكان أحبنا إليه وبقى شقيقه فاحتبسه ليتسلى به عنه ، فأمر بإنزالهم وإكرامهم 0 وهذا قول الجلالين وكذلك فى التوارة ، استدل من سؤالهم وتوصل إلى التعرف عليهم 0وهنا التعرف حتمى0
إن التعرف هنا من أروع وأعجب أنواع التعرف حيث اشتمل على وجهين للتعرف بين طرفي الحدث المفزع المفرح ، كل طرف احتاج إلى أداة تعرف تدله على الآخر ، ومع ذلك الحذر والحيطة ألا يقع الفزع والخوف والرعب ، إلا أنه أصاب ووقع بدون أن يقصد عكس ما ينتوى الطرف الأقوى صاحب الفعل وهو يوسف - أن يوقع الحدث المفزع على أقرب الناس له ألا وهو أبوه 0 وهو الذي فعل المستحيل من أجل ألا يفزع إخوته أو يخيفهم ، فما بالك بأبيه وقد أوقع به دون أن يدرى وعكس ما انتوى تماما ، ولكن هذا ما حدث وقد عمى أبوه ، وقد عرفنا الوجه الأول الخاص بتعرف يوسف على إخوته 0 ولا يزال الطرف الثاني ، وهو تعرف إخوته عليه ، وتعرف أبيه عليه ، وسنعرف كيف عرفوه هم :
8- التعرف بالاستنباط الصحيح
عندما بسط يوسف لإخوته كل ما أوتى من بسط وأدوات تعرف حتى يعرفوه بدون خوف ولا فزع ومع ذلك لم يعرفوه ، وكان ذلك محتما عليهم أنهم لا يعرفونه إلا بعد إنبائهم . وهذا نوع من المكاشفة والتقريب حتى يجعلهم يستنبطون من يكون ويذكرهم بما فعلوه به . ويزيد بسؤاله هذا الذي ينصرف إليهم ويقود إلى هويته الحقيقية ؛ لأن من اشتراه منهم عند الجب لم يعرف أنهم إخوته ، بل قالوا له آن ذاك أنه غلامهم وهم مالكوه ، وليس أخاهم ، ويتبقى الاحتمال الأكيد ، ذكّرهم بأشياء لا يعرفها سواهم فهم وحدهم الذين أبعدوه ، وضربوه ، وأهانوه ، و ألقوه فى الجب ، و باعوه ، وفعلوا مع أخيه الشقيق ما فعلوا ، وهنا فكروا إذ لابد من التفكير، فغيرنا لم يفعل مع أخيه مثلما فعلنا نحن به فلذلك هو يعرفنا، وغيرنا فى مصر لا يعرف ما فعلناه غيرنا نحن ومن فعلنا به ، إذا من يكون ؟!! ولذلك استنبطوا النتيجة الحتمية من أنه لا يكون غير يُوسُفُ . والتعرف حتمى0
يتبقى التعرف بين يوسف وأبيه يعقوب ، وقد عرفه يوسف من خلال إخوته يتبقى تعرف يعقوب على ولده يوسف ، والتعرف هنا
00
9- التعرف بالشيء المادي المحسوس
ألا وهو القميص ، فقد كان القميص أداة تعرف دلت يعقوب على ابنه دون أن يقول له أحد ، وكان القميص علاجا له ، وقد بنى العلاج من إرجاع البصر الذاهب على المستحيل وقد أصبح ممكنا ، وصار يعقوب يرى0
10- التعرف المباشر
من خلال الرؤية المباشرة والتقابل وجها لوجه ، عندما دخلوا عليه عرفهم ؛ لأنه لم ينسهم بعد ، لا يزال يذكرهم ، وهو تعرف حتمي ، ولكنه أضعفهم وأقلهم جودة وبناء ، ولا يتماشى مع قوة الحبكة وجودة الترتيب وحسن البناء للقصة التى هى إعجاز من الله – تعالى - ووصفها أنها من أحسن القصص0 وهذا التعرف يعرفه فقط السطحيون غير المتأملين ولا المتدبرين ولا المتمعنين ولا الباحثين فيما وراء الكلمات والعبارات والآيات والإعجاز العظيم0
التعرف يفهم من اسمه حيث يتم فيه وقوع الحدث المفزع بين المتصارعين ، وينوى أحدهما أن يقتل الآخر أو يوقع به مصيبة ما ، وفى اللحظة المناسبة يكشف أحدهما حقيقته للآخر ، أو يتدخل شخص آخر يكون أداة التعرف بينهما ، ويكشف حقيقتهما لبعضِهما البعض ، مما ينتج الحب الكبير من بعد العداء المستحكم ، ويصبح التعرف قوة مساعدة للبطل تعينه كثيرا وتساعده للوصول إلى هدفه والتمكين من حاجته 0
من كتابى ( أسس وقواعد الأدب والرواية من القرآن الكريم )
ساحة النقاش