كتب العلامة ابن قيم الجوزية عن شخصية المسلم لكنه بنى تصوره لهذه الشخصية على قاعدة مهمة وهى تصور المسلم لأفضل العبادات التى يتقرب بها إلى الله وبناء على هذا التصور تتكون شخصية المسلم واهتماماته
(افضل العبادة وأنفعها)
قال : َهْل مَقَامِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} لَهُمْ فِي أَفْضَلِ الْعِبَادَةِ وَأَنْفَعِهَا وَأَحَقِّهَا بِالْإِيثَارِ وَالتَّخْصِيصِ أَرْبَعُ طُرُقٍ فَهُمْ فِي ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَصْنَاف:
الصِّنْفُ الْأَوَّلُ: عِنْدَهُمْ أَنْفَعُ الْعِبَادَاتِ وَأَفْضَلُهَا أَشَقُّهَا عَلَى النُّفُوسِ وَأَصْعَبُهَا
الصِّنْفُ الثَّانِي، قَالُوا: أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ التَّجَرُّدُ، وَالزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا، وَالتَّقَلُّلُ مِنْهَا غَايَةَ الْإِمْكَانِ،
ثُمَّ هَؤُلَاءِ قِسْمَانِ
فَعَوَامُّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ هَذَا غَايَةٌ، فَشَمَّرُوا إِلَيْهِ وَعَمِلُوا عَلَيْهِ، وَدَعَوُا النَّاسَ إِلَيْهِ، وَقَالُوا: هُوَ أَفْضَلُ مِنْ دَرَجَةِ الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ، فَرَأَوُا الزُّهْدَ فِي الدُّنْيَا غَايَةَ كُلِّ عِبَادَةٍ وَرَأْسَهَا.
وَخَوَاصُهُمْ رَأَوْا هَذَا مَقْصُودًا لِغَيْرِهِ، وَأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ عُكُوفُ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ، وَجَمْعُ الْهِمَّةِ عَلَيْهِ، وَتَفْرِيغُ الْقَلْبِ لِمَحَبَّتِهِ، وَالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَالِاشْتِغَالِ بِمَرْضَاتِهِ، فَرَأَوْا أَنَّ أَفْضَلَ الْعِبَادَاتِ فِي الْجَمْعِيَّةِ عَلَى اللَّهِ، وَدَوَامِ ذِكْرِهِ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، وَالِاشْتِغَالِ بِمُرَاقَبَتِهِ، دُونَ كُلِّ مَا فِيهِ تَفْرِيقٌ لِلْقَلْبِ وَتَشْتِيتٌ لَهُ.
ثُمَّ هَؤُلَاءِ قِسْمَانِ، فَالْعَارِفُونَ الْمُتَّبِعُونَ مِنْهُمْ إِذَا جَاءَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ بَادَرُوا إِلَيْهِ وَلَوْ فَرَّقَهُمْ وَأَذْهَبَ جَمْعِيَّتَهُمْ، وَالْمُنْحَرِفُونَ مِنْهُمْ يَقُولُونَ: الْمَقْصُودُ مِنَ الْعِبَادَةِ جَمْعِيَّةُ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ، فَإِذَا جَاءَ مَا يُفَرِّقُهُ عَنِ اللَّهِ لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَيْهِ
ثُمَّ هَؤُلَاءِ أَيْضًا قِسْمَانِ، مِنْهُمْ مَنْ يَتْرُكُ الْوَاجِبَاتِ وَالْفَرَائِضَ لِجَمْعِيَّتِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُومُ بِهَا وَيَتْرُكُ السُّنَنَ وَالنَّوَافِلَ، وَتَعَلُّمَ الْعِلْمِ النَّافِعِ لِجَمْعِيَّتِهِ.
وَسَأَلَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ شَيْخًا عَارِفًا، فَقَالَ: إِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ وَأَنَا فِي جَمْعِيَّتِي عَلَى اللَّهِ، فَإِنْ قُمْتُ وَخَرَجْتُ نَفَقْتُ، وَإِنْ بَقِيتُ عَلَى حَالِي بَقِيتُ عَلَى جَمْعِيَّتِي، فَمَا الْأَفْضَلُ فِي حَقِّي؟
فَقَالَ: إِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ وَأَنْتَ تَحْتَ الْعَرْشِ فَقُمْ، وَأَجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ، ثُمَّ عُدْ إِلَى مَوْضِعِكَ، وَهَذَا لِأَنَّ الْجَمْعِيَّةَ عَلَى اللَّهِ حَظُّ الرُّوحِ وَالْقَلْبِ، وَإِجَابَةَ الدَّاعِي حَقُّ الرَّبِّ، .
الصِّنْفُ الثَّالِثُ: رَأَوْا أَنَّ أَنْفَعَ الْعِبَادَاتِ وَأَفْضَلَهَا: مَا كَانَ فِيهِ نَفْعٌ مُتَعَدٍّ، فَرَأَوْهُ أَفْضَلَ مِنْ ذِي النَّفْعِ الْقَاصِرِ، قَالُوا: وَلِهَذَا كَانَ فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ.
الصِّنْفُ الرَّابِعُ، قَالُوا:
<!--[endif]-->
إِنَّ أَفْضَلَ الْعِبَادَةِ الْعَمَلُ عَلَى مَرْضَاةِ الرَّبِّ فِي كُلِّ وَقْتٍ بِمَا هُوَ مُقْتَضَى ذَلِكَ الْوَقْتِ وَوَظِيفَتُهُ، |
فَأَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ فِي وَقْتِ الْجِهَادِ: الْجِهَادُ، وَإِنْ آَلَ إِلَى تَرْكِ الْأَوْرَادِ، مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ وَصِيَامِ النَّهَارِ، بَلْ وَمِنْ تَرْكِ إِتْمَامِ صَلَاةِ الْفَرْضِ، كَمَا فِي حَالَةِ الْأَمْنِ.
وَالْأَفْضَلُ فِي وَقْتِ حُضُورِ الضَّيْفِ مَثَلًا الْقِيَامُ بِحَقِّهِ، وَالِاشْتِغَالُ بِهِ عَنِ الْوِرْدِ الْمُسْتَحَبِّ، وَكَذَلِكَ فِي أَدَاءِ حَقِّ الزَّوْجَةِ وَالْأَهْلِ.
وَالْأَفْضَلُ فِي أَوْقَاتِ السَّحَرِ الِاشْتِغَالُ بِالصَّلَاةِ وَالْقُرْآنِ، وَالدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ وَالِاسْتِغْفَارِ.
وَالْأَفْضَلُ فِي وَقْتِ اسْتِرْشَادِ الطَّالِبِ، وَتَعْلِيمِ الْجَاهِلِ الْإِقْبَالُ عَلَى تَعْلِيمِهِ وَالِاشْتِغَالِ بِهِ.
وَالْأَفْضَلُ فِي أَوْقَاتِ الْأَذَانِ تَرْكُ مَا هُوَ فِيهِ مِنْ وِرْدِهِ، وَالِاشْتِغَالُ بِإِجَابَةِ الْمُؤَذِّنِ.
وَالْأَفْضَلُ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ الْجِدُّ وَالنُّصْحُ فِي إِيقَاعِهَا عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ، وَالْمُبَادَرَةُ إِلَيْهَا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، وَالْخُرُوجُ إِلَى الْجَامِعِ، وَإِنْ بَعُدَ كَانَ أَفْضَلَ.
وَالْأَفْضَلُ فِي أَوْقَاتِ ضَرُورَةِ الْمُحْتَاجِ إِلَى الْمُسَاعَدَةِ بِالْجَاهِ، أَوِ الْبَدَنِ، أَوِ الْمَالِ الِاشْتِغَالُ بِمُسَاعَدَتِهِ، وَإِغَاثَةُ لَهْفَتِهِ، وَإِيثَارُ ذَلِكَ عَلَى أَوْرَادِكَ وَخَلْوَتِكَ.
وَهَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ التَّعَبُّدِ الْمُطْلَقِ،
وَالْأَصْنَافُ قِبَلَهُمْ أَهْلُ التَّعَبُّدِ الْمُقَيَّدِ، فَمَتَى خَرَجَ أَحَدُهُمْ عَنِ النَّوْعِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ مِنَ الْعِبَادَةِ وَفَارَقَهُ يَرَى نَفْسَهُ كَأَنَّهُ قَدْ نَقَصَ وَتَرَكَ عِبَادَتَهُ، فَهُوَ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ،!!!
|
<!--[endif]-->
شخصية المسلم <!--[if !mso]--> |
غايته قال ابن القيم : وَصَاحِبُ التَّعَبُّدِ الْمُطْلَقِ لَيْسَ لَهُ غَرَضٌ فِي تَعَبُّدٍ بِعَيْنِهِ يُؤْثِرُهُ عَلَى غَيْرِهِ، بَلْ غَرَضُهُ تَتَبُّعُ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى أَيْنَ كَانَتْ، فَمَدَارُ تَعَبُّدِهِ عَلَيْهَا،
عبادته قال: فَهُوَ لَا يَزَالُ مُتَنَقِّلًا فِي مَنَازِلِ الْعُبُودِيَّةِ، كُلَّمَا رُفِعَتْ لَهُ مَنْزِلَةٌ عَمِلَ عَلَى سَيْرِهِ إِلَيْهَا، وَاشْتَغَلَ بِهَا حَتَّى تَلُوحَ لَهُ مَنْزِلَةٌ أُخْرَى، فَهَذَا دَأْبَهُ فِي السَّيْرِ حَتَّى يَنْتَهِيَ سَيْرُهُ،
شموليته : قال: فَإِنْ رَأَيْتَ الْعُلَمَاءَ رَأَيْتَهُ مَعَهُمْ، وَإِنْ رَأَيْتَ الْعُبَّادَ رَأَيْتَهُ مَعَهُمْ، وَإِنْ رَأَيْتَ الْمُجَاهِدِينَ رَأَيْتَهُ مَعَهُمْ، وَإِنْ رَأَيْتَ الذَّاكِرِينَ رَأَيْتَهُ مَعَهُمْ، وَإِنْ رَأَيْتَ الْمُتَصَدِّقِينَ الْمُحْسِنِينَ رَأَيْتَهُ مَعَهُمْ، فَهَذَا هُوَ الْعَبْدُ الْمُطْلَقُ، الَّذِي لَمْ تَمْلِكْهُ الرُّسُومُ، وَلَمْ تُقَيِّدْهُ الْقُيُودُ،
مراده وتجرُّده قال: وَلَمْ يَكُنْ عَمَلُهُ عَلَى مُرَادِ نَفْسِهِ وَمَا فِيهِ لَذَّتُهَا وَرَاحَتُهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ، بَلْ هُوَ عَلَى مُرَادِ رَبِّهِ، وَلَوْ كَانَتْ رَاحَةُ نَفْسِهِ وَلَذَّتُهَا فِي سِوَاهُ، فَهَذَا هُوَ الْمُتَحَقِّقُ بِـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} حَقًّا، الْقَائِمُ بِهِمَا صِدْقًا،
مرونته قال: مَلْبَسُهُ مَا تَهَيَّأَ، وَمَأْكَلُهُ مَا تَيَسَّرَ، وَاشْتِغَالُهُ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ بِوَقْتِهِ، وَمَجْلِسُهُ حَيْثُ انْتَهَى بِهِ الْمَكَانُ وَوَجَدَهُ خَالِيًا،
حريته وعدم تعلقه بشىء قال:لَا تَمْلِكُهُ إِشَارَةٌ، وَلَا يَتَعَبَّدُهُ قَيْدٌ، وَلَا يَسْتَوْلِي عَلَيْهِ رَسْمٌ، حُرٌّ مُجَرَّدٌ، دَائِرٌ مَعَ الْأَمْرِ حَيْثُ دَارَ، يَدِينُ بِدِينِ الْآمِرِ أَنَّى تَوَجَّهَتْ رَكَائِبُهُ، وَيَدُورُ مَعَهُ حَيْثُ اسْتَقَلَّتْ مَضَارِبُهُ،
مع الناس قال: يَأْنَسُ بِهِ كُلُّ مُحِقٍّ، وَيَسْتَوْحِشُ مِنْهُ كُلُّ مُبْطِلٍ، كَالْغَيْثِ حَيْثُ وَقَعَ نَفَعَ، وَكَالْنَخْلَةِ لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا وَكُلُّهَا مَنْفَعَةٌ حَتَّى شَوْكُهَا، وَهُوَ مَوْضِعُ الْغِلْظَةِ مِنْهُ عَلَى الْمُخَالِفِينَ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَالْغَضَبِ إِذَا انْتُهِكَتْ مَحَارِمُ اللَّهِ،
مع الله قال: فَهُوَ لِلَّهِ وَبِاللَّهِ وَمَعَ اللَّهِ، قال :قَدْ صَحِبَ اللَّهَ بِلَا خَلْقٍ، وَصَحِبَ النَّاسَ بِلَا نَفْسٍ، بَلْ إِذَا كَانَ مَعَ اللَّهِ عَزَلَ الْخَلَائِقَ عَنِ الْبَيْنِ، وَتَخَلَّى عَنْهُمْ، وَإِذَا كَانَ مَعَ خَلْقِهِ عَزَلَ نَفْسَهُ مِنَ الْوَسَطِ وَتَخَلَّى عَنْهَا،فَوَاهًا لَهُ! مَا أَغْرَبَهُ بَيْنَ النَّاسِ! وَمَا أَشَدَّ وَحْشَتَهُ مِنْهُمْ! وَمَا أَعْظَمَ أُنْسَهُ بِاللَّهِ وَفَرَحَهُ بِهِ، وَطُمَأْنِينَتَهُ وَسُكُونَهُ إِلَيْهِ!! وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَعَلَيْهِ الْتُكْلَانُ.
<!--
<!--
ساحة النقاش