الدرس قبل الأخير ..
بقلم : علاء الأديب
كثيرون هم من فرحوا فرحا شديدا نساء ورجالا فالنساء تزغرد والرجال يطلقون النار في الهواء كعادتهم بكل سرّاء وضرّاء في العراق. هذا عندما كان يذيع مقداد مراد المذيع العراقي رخيم الصوت بيانا للقيادة العامة للقوات المسلحة العراقية جاء مطلعه يقول ( لقد زلزل الله الأرض بقارون الكويت). وكان هذا البيان قد أذيع على المواطنين بعد أن كانت وحدات خاصة من الجيش العراقي قد دخلت الكويت وتمكنت منها بساعات قلائل وبباصات نقل للجنود وليس بدبابات ودروع . لقد فرح العراقيون بهذا لأن الكويت بالنسبة لهم جزء منهم قد اقتطعتها بريطانيا وهذا مايؤمن به كل عراقي حتى لو أراد أن يخفي ذلك لأي سبب كان. بين فرح النسوة والرجال كان والدي رحمه الله الوحيد الذي أصيب بالدهشة المكتنفة بالحزن الشديد والذهول الذي لم أشاهده بمثله من قبل فلقد اعتدت عليه وهو يحتوي أكبر المواقف وأشدّها ويتعامل معها بحكمة . لقد طالت به الحيرة وأكله الحزن لثلاث أيام متتالية ولم يكن من يجرأ على سؤاله عن السبب حتى نفد صبري فسألته هل انت حزين على الكويت.؟ رفع رأسه المطرق الى الأرض وكانت لحيته قد طالت على الرغم من انه لم يكن يتحملها يوما واحدا انذاك وعيناه محمرتان جدا وقال لي: لا انا حزين على العراق. لم افهم ماكان يعنيه والدي فتداخلت والدتي بعفويتها وقالت لماذا الحزن على العراق خير العراق صار خيرين ونفطه سيزيد فلماذا تحزن عليه؟ نظر لها وحاجباه يشيران الى أن اصمتي فأنت لاتفقهين شيئا. وقال لها أخرجي كل مالديك من نقود فورا وهاتيها لي بسرعة ... استغربت والدتي طلب والدي وقالت لماذا ؟ زاد غضبه وصرخ بها افعلي ما قلته لك. لم انبس بكلمة وبقيت انتظر ما سيفعل والدي علّني افهم شيئا مما يخشاه. أخذ كلّ مانملك في البيت من نقود واصطحبني وأخي الأصغر مني الى حانوت عمّه المسن الذي كان بجوار بيتنا . وسلّم عليه وقال له اريد ان تزودني بالمواد الغذائية المسجلة بهذه القائمة. وبدأ يقرأ عليه وانا واخي نحمل هذه المواد من الحانوت الى بيتنا والناس تتفرج علينا وكأننا مجانين. ما يفعل هؤلاء بأكياس الرز والسكر والشاي والدقيق والصابون والزيت ووووو. حتى نحن لم نعرف بماذا كان يفكر والدي. وبعد أن وضع كل هذه المؤونة بغرفة خاصة بها قفل بابها وقال انسوا مافي هذه الغرفة ومارسوا حياتكم طبيعية. لم استطع تحمل ما اجهل فكررت عليه السؤال ماببالك يا أبي قل لي؟ قال لي : علاء ...قلت نعم...قال : انتهى العراق. قلت كيف؟ قال هل تتصور بأن دخولنا الكويت سيمرّ على العراق هينا؟ هل تعرف معنى الكويت بالنسبة لأميركا؟ هل تعلم بأن اميركا تنتظر هذه الفرصة لتقضي على العراق . الأيام القادمة ياعلاء ستكون اشدّ على العراق من حرب ايران وايامها السوداء . كن على حذر من كل شيء وفي كل مكان في عملك وفي تصرفاتك مع الآخرين .. ستتعرض الى مواقف صعبة ربّما لن تتحملها فاصبر عليها . وماهي الا أشهر حتى ساءت امور العراق وحلّ الحصار ومات الصغار والكبار جوعا ..والرجل الحكيم يطعم عائلته مما جمعه لهم من ايام الرخاء. وكان يشرف كل يوم على طبخ أمي ويصرف لها المواد الغذائية بالقدر الذي يراه مناسبا للديمومة دون افراط. ومرّت ازمة الجوع بنا على سلام . بهذا الدرس تعلمت من العظيم إبي علاء كيف يدير الرجال الأزمات. رحمك الله ايها الحاضر بالضمير والوجدان الى الأبد.