في القرآن الكريم سورةٌ قصيرةٌ ، كان الرَّجلانِ مِن أصحابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا الْتَقَيَا لم يتفرَّقا حتى يتلوَ أحدُهما على الآخر هذه السورة ، وكان الإمامُ الشافعيُّ رحمه الله تعالى يقول : (لو تدبَّر الناسُ هذه السورة لَكَفَتْهُم). [تفسير ابن كثير (4/548)]

       هذه السورةُ ترسمُ منهجًا كاملاً للحياة البشرية ، كما يريدُها خالقَ البشرية ، فعلى امتدادِ الزمانِ في جميعِ العصور ، وعلى امتدادِ المكانِ في جميع الدهور ، ليسَ أمامَ الإنسانِ إلا منهجٌ واحدٌ رابحٌ ، وطريق واحد سالك إلى جنةِ الخُلدِ ، وكلُّ ما وراء ذلك ضياعٌ ، وخسارةٌ ، وشقاء ، إنها سورة العصر ، قال تعالى : ]وَالْعَصْرِ*إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ[ .

[سورة العصر : الآية 1-2]

     لقد أَقْسمَ اللهُ جلّ جلالُه بمطلق الزمن ، العصر ، لهذا الإنسانِ الذي هو في حقيقته زمنٌ ، فهو بِضْعَةُ أيام ، كلما انقضى يومٌ انقضى بِضْعٌ منه ، وما مِن يوم ينشقُّ فجرُه إلا وينادي : يا ابن آدم ، أنا خلقٌ جديدٌ ، وعلى عملِك شهيدٌ ، فتزوَّدْ منِّي ، فإني لا أعود إلى يوم القيامة .

     لقد أقسمَ اللهُ بالزمن للإنسان أنّه في خُسرٍ ، بمعنى أنَّ مُضِيَّ الزمنِ وحدَه يستهلكُ عُمُرَ الإنسان الذي هو رأسُ ماله ، ووعاءُ عملِه الصالحِ ، الذي هو ثمنُ الجنة التي وَعَدَه اللهُ بها .

هلِ الخسارةُ في العُرْفِ التِّجاريِّ إلا أنْ تُضَيِّعَ رأسَ مالِكَ مِن دون تحقيقِ الربحِ المطلوب ، لكنّ الإنسانَ إذا استثْمرَ الوقتَ فيما خُلِقَ له ، يستطيع أنْ يتلافَى هذه الخسارةَ ، وذلك بالإيمانِ ، والعملِ الصالحِ ، والتواصي بالحقِّ ، والتواصي بالصّبرِ  .

     قال تعالى : ]وَالْعَصْرِ*إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ*إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ[ .

[سورة العصر : الآية 1-3]

       أولاً : الإيمان ، ]إلاّ الَّذِينَ آمَنُوا[ .

     إنّ الإيمانَ هو اتصالُ هذا الكائنِ الإنسانيّ الصغيرِ ، الضعيف الفاني ، المحدود ، بالأصل المطلقِ الأزليّ الباقي ، الذي صدرَ عنه هذا الوجودُ ، وعندئذٍ ينطلقُ هذا الإنسانُ من حدود ذاته الصغيرة ، إلى رحابةِ الكون الكبير ، مِن حدودِ قوته الهزلية ، إلى عظمة الطاقات الكونية المخبوءة ، من حدود عمره القصير ، إلى امتدادِ الآبادِ التي لا يعلمُها إلا اللهُ ، هذا الاتصالُ فضلاً على أنه يمنحُ الإنسانَ القوةَ ، والامتدادَ ، والانطلاقَ ، فإنه يمنحُه السعادةَ الحقيقيةَ التي يَلْهَثُ وراءها الإنسانُ ، وهي سعادةٌ رفيعةٌ ، وفرحٌ نفيسٌ ، وأُنْسٌ بالحياةِ ، كَأُنْسِ الحبيبِ بحبيبِه ، وهو كَسْبٌ لا يعدِلُه كسبٌ ، وفقدانُه خسرانٌ لا يعدِله خسرانٌ ، وعبادةُ إلٍه واحدٍ ترفعُ الإنسانَ عن العبوديةِ لسواه ، فلا يذلّ لأحد ، ولا يحني رأسَه لغير الواحد القهار ، فليس هناك إلا قوةٌ واحدةٌ ، ومعبودٌ واحدٌ ، وعندئذٍ تنتفي مِن حياةِ الإنسانِ المصلحةُ ، والهوى ، ليحلّ محلَّها الشريعةُ والعدلُ .

     والاعتقادُ بكرامةِ الإنسانِ ، وهو مِن لوازمِ الإيمانِ ، الاعتقاد بكرامة الإنسان عند الله يرفع من قيمته في نظر نفسه ، ويثيرُ في نفْسهِ الحياءَ ، مِنَ التّدنِّي عنِ المرتبةِ التي رَفَعَهُ اللهُ إليها .

       ثانياً : ]إلاّ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [ .

     ولأنّ الإيمانَ حقيقةٌ إيجابيةٌ متحركةٌ ، كان العملُ الصالحُ هو الثمرةَ الطبيعيةَ للإيمان ، فمَا إنْ تستقرَّ حقيقةُ الإيمانِ في ضميرِ المؤمنِ حتّى تسعَى بذاتِها إلى تحقيق ذاتِها ، في صورةِ عملٍ صالحٍ ، فلا يمكنُ أنْ يظلَّ الإيمانُ في نفسِ المؤمنِ خامداً لا يتحرّك ، كامنًا لا يَتَبَدَّى ، فإنْ لم يتحرّكِ الإيمانُ هذه الحركةَ الطبيعيةَ فهو مزيَّفٌ ، أو ميتٌ ، شأنُه شأنُ الزهرةِ ، ينبعثُ أريجُها منها انبعاثاً طبيعياً ، فإنْ لم ينبعثْ منها أريجٌ فهو غيرُ موجود .

     والعملُ الصالحُ ليس فلتةً عارضةً ، ولا نزوةً طارئةً ، ولا حادثةً منقطعةً ، إنما ينبعثُ عن دوافعَ ، ويتّجهُ إلى أهدافٍ ، ويتعاونُ عليه المؤمنون .

     الإيمانُ ليس انكماشاً ، ولا سلبيةً ، ولا انزواءً ، ولا تَقَوْقُعاً ، بل هو حركةٌ خَيِّرَةٌ نظيفةٌ ، وعَمَلٌ إيجابيٌّ هادفٌ ، وعمارةٌ متوازنةٌ للأرض ، وبناٌء شامخٌ للأجيال ، يتّجهُ إلى الله ، ويليقُ بمنهج الله ، ورَحِمَ اللهُ عمرَ بنِ عبد العزيز إذ يقول : ( إن اللّيل والنهار يعملان فيك ، فاعمل فيهما ، ويأخذان منك ، فخذ منهما ) .

كلما اتَسعتْ رقعةُ العملِ فشملتْ أعداداً كبيرةً من بَني البشرِ حتى دخلتْ فيه الأممُ والشعوبُ ، وكلّما امتدّ أمدُ العملِ وطالَ حتى توارثتْ ثمارَه أجيالٌ وأجيالٌ ، وكلما تغلغلَ العملُ في كيانِ الإنسانِ كلِّه ؛ الماديّ والنفسيّ ، والاجتماعيّ ، والروحيّ ، حتى تحقَّق به وجودُ الإنسان ، وتألّقتْ من خلاله إنسانيتُه ، وكان كما أريد له أن يكون ، إذاً كلما اتسعتْ رقعةُ العمل ، وعَمَّ خيره ، وطالَ أمدُه ، واشتدَّ تأثيرُه ، كانَ أعظمَ عندَ اللهِ .

     هذه صفاتُ العملِ الصالحِ ، فالنبيّ صلى الله عليه وسلم أَخْرَجَ الناسَ مِن الظلمات إلى النور ، ومِن دَرَكَاتِ الجاهليةِ إلى أعلى مراتبِ الإنسانية ، وغيَّر وجهَ التاريخِ البشريّ كله ، إلى اليوم ، وإلى ما شاء الله ، في ثلاث وعشرين سنة ، أقامَ فيها دينًا جديداً ، وربَّى عليه جيلاً فريداً ، وأنشأ أمّةً مثاليةً ، وأسّسَ دولةً عالميةً ، في هذا الزمن اليسير ، على الرغم مِن كلّ الصعوباتِ والعوائقِ التي اعترضتْ سبيلَه مِن أوّل يومٍ .

     ويزدادُ ثقلُ العملِ في ميزانِ الحقِّ ، وتتضاعفُ قيمتُه ومثوبتُه عند الله كلما كثرتْ العوائقُ في سبيله ، وعظُمتِ الصوارفُ عنه ، وقَلَّ المُعينُ عليه .

     ويزدادُ ثقلُ العملِ في ميزان الحقِّ ، وتتضاعفُ قيمتُه ومثوبتُه عند اللهِ حينما تَفْسُدُ المجتمعاتُ ، وتضطرب الأحوالُ ، فيجور الأمراءُ ، ويتجبّرُ الأقوياءُ - كما ترون - ويترفُ الأغنياءُ ، ويداهِن العلماءُ ، وتشيع الفاحشةُ ، ويظهرُ المنكرُ ، ويختفي المعروفُ ، وفي الحديث عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ((الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ )) .

[أخرجه مسلم (2948)، والترمذي(2201)]

       وهنا محلُّ الإشارةِ إلى أنّ الإنسانَ إذا رُزِقَ التوفيقَ في إنفاقِ وقتهِ يستطيعُ أنْ يُطيلَ عمرَه إلى ما شاء الله بعد موته ، فيحيا وهو ميت ، ويؤدّي رسالتَه وهو تحت التراب ، ففي الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (( إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ ، إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ )) .

                     [أخرجه مسلم (1631) عن أبي هريرة]

فكيف إنْ لم يكن له عملٌ أصلاً ، ووافتْه المنيّةُ .

     وفي حديثٍ آخرَ تضمّنَ تفصيلاتٍ لهذه الثلاث ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ ، وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ ، وَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ ، أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ ، أَوْ بَيْتًا لِابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ ، أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ يَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ )) .

[رواه ابن ماجه(242)وابن خزيمة في صحيحه (2490)]

     وأَخرجَ مسلمٌ في صحيحه أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال : (( مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا ، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ ، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا ، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ )) .

[رواه مسلم (1017)، والنسائي(5/75) وغيرهما عن جرير بن عبد الله ، وللحديث تتمة]

     فوَيْلٌ ، ثم ويلٌ ، ثم ويلٌ ، لِمَنِ انقضتْ آجالُهم ، وضلالاتُهم ، وآثامُهم باقيةٌ مِن بعدهم ، وهنيئاً ، ثم هنيئًا ، ثم هنيئًا لِمَن كانوا تحت الثرى ، والناسُ مهتدُون بهديهم سعداء بأعمالهم .

     قال صاحب الحكم العطائية : ( رُبَّ عُمُرٍ اتَّسعت آمادُه ، وقلَّتْ أمدادُه ، ورُبَّ عُمُرٍ قليلةٌ آمادُه ، كثيرةٌ أمدادُه ، ومَنْ بوركَ له في عُمرِه أدركَ في يسيرٍ مِنَ الزمنِ مِنَ المِنَنِ ما لا يدخلُ تحتَ دائرةِ العبارةِ ، ولا تلحقُه وَمْضَةُ الإشارةِ ) .

[شرح الحكم العطائية للشرنوبي]

       ثالثاً : ]وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ[ .

]وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ[ ، لأنَّ النهوضَ بالحقِّ عسيرٌ ، والعوائقَ كثيرةٌ  ، والصوارفَ عديدةٌ ، فهناك هوى النفوسِ ، ومنطقُ المصلحةِ ، وظروفُ البيئة ، وضغوطُ العمل ، والتقاليدُ ، والعاداتُ ، والحرصُ ، والطمعُ ، عندئذٍ يأتي " التواصي بالحق " ، ليكونَ مذكِّراً ، ومشجِّعاً ، ومحصِّناً للمؤمنِ الذي يجدُ أخاه معه يوصيه ، ويشجِّعه ، ويقف معه ، ويحرصُ على سلامته ، وسعادته ، ولا يخذُله ، ولا يسلبُه ، وفضلاً عن ذلك ، فإن" التواصي بالحق " ينقِّي الاتِّجاهاتِ الفرديةِ ، ويَقِيها ، فالحقُّ لا يستقرّ ، ولا يستمرّ إلا في مجتمعٍ مؤمنٍ ، متواصٍ ، متعاونٍ  متكافلٍ ، متضامنٍ .

       فالمرءُ بالإيمانِ والعملِ الصالحِ يكمِّل نفسَه ، وبالتواصي بالحقِّ يكمِّل غيرَه ، وبما أنّ كيانَ الأمةِ مبنيٌّ على الدِّينِ الحقِّ الذي جاءنا بِالنَّقلِ الصحيح  ، وأكّده العقلُ الصريحُ ، وأقرَّه الواقعُ الموضوعيّ ، وتطابقَ مع الفطرة السليمة ، فلا بد أنّ يستمرَّ هذا الحقُّ ، ويستقرَّ ، حتى تشعرَ الأمةُ بكيانها ، ورسالتها ، " فالتواصي بالحق " قضيةٌ مصيريةٌ ، فما لم تتنامَ دوائرُ الحقِّ في الأرض ، تنامتْ دوائرُ الباطلِ ، وحاصرتْه ، " فالتواصي بالحق " يعني الحفاظَ على وجودِه ، والأداءِ لرسالته .

       رابعاً : ]وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ[ .

     لقد شاءتْ حكمةُ الله جل جلاله أنْ تكون الدنيا دارَ ابتلاءٍ بالشَّرِّ والخيرِ ، ودارَ صراعٍ بين الحقِّ والباطلِ ، لذلك كان التواصي بالصبر ضرورةً للفوزِ بالابتلاءِ ، والغلبةِ في الصراعِ .

     إذاً : لا بد مِنَ التواصي بالصبر على مغالبةِ الهوى ، وعنادِ الباطل ، وتحّملِ الأذى ، وتكبّدِ المشقةِ ، لذلك يعدُّ الصبرُ وسيلةً فعالةً لتذليلِ العقباتِ ، ومضاعفةِ القدراتِ ، وبلوغِ الغاياتِ ، قال تعالى : ]إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ[  .

                          [سورة النساء ، الآية 104]

       العبرةُ ليست في إنفاقِ الوقتِ ، بل في استثماره ، فالوقتُ إذا أنفقناهُ ضاعَ ، أما إذا استثمرناهُ فسينمو ، ويُؤتِي ثمارَه في مستقبلِ حياتنا ، وللأجيال القادمة .

     إذًا كيف يُنفقُ المسلمُ الزمنَ إنفاقاً استثماريًّا ؟ لئلاّ تُحقَّق به الخسارةُ ، إنَّ هذا ما يسمَّى في المصطلح الحديث (إدارة الوقت) ، وهو موضوعُ الخطبةِ اليومَ .

الوقتُ في حياةِ المسلمِ عبادةٌ ممتدَّةٌ ، أمّا الوقتُ في الثقافةِ الغربيةِ ، والنظرياتِ الماديةِ ، فإنه لا يخرج عن نطاقِ المثل الشائع : " الوقت هو المال " ، وإذا وَازَنَّا هذه العبارةَ بقولِ الحسنِ البصري رحمه الله تعالى : ( أدركتُ أقواماً كان أحدهم أشحَّ على عمره منه على دراهمه ودنانيره ) ، نَستنتجُ أنّ الوقتَ عندَ المسلمِ أغلى مِنَ المالِ ، ذلك أنّ المسلمَ يُدرك أنّ المالَ يمكنُ تعويضُه ، بينما الوقتُ لا يمكن تعويضُه.

       الإنسانُ حينما يَحرقُ مبلغاً كبيراً مِنَ المال يُحكَم عليه بالسَّفَهِ ، ويُحْجَر على تصرفاتِه ، ولأنه مركَّبٌ في أعماقِ الإنسانِ أنّ الوقتَ أثمنُ مِنَ المالِ ، بدليلِ أنه يبيعُ بيتَه الذي يسكنُه ولا يملكُ شيًا سِوَاهُ ليُجريَ بثمنِه عمليةً جراحيةً ، متوهِّمًا أنّها تزيدُ في حياتِه سنواتٍ عدةً ، فالوقتُ عندَ كلّ إنسانٍ أثمنُ مِنَ المال ، وبناءً على هذه المُسَلَّمَةِ فإنّ الذي يُتلفُ وقتَه أشدُّ سَفَهاً مِنَ الذي يُتْلِفُ مالَه .

     إدارةُ الوقتِ هِي فعلُ ما ينبغي ، على الوجهِ الذي ينبغي ، في الوقتِ الذي ينبغي ، الوقتُ مِن ذَهَبٍ ، بل أغلى من الذهب ، بل هو لا يُقدَّر بثمن ، إنه أنت ، ويُعَدُّ الوقتُ أحدَ أربعةِ مواردَ أساسية في مجال الأعمالِ ؛ المواد ، والمعلومات ، والأفراد ، ثم الوقتُ الذي يُعدّ أكثرَها أهميةً ، لأنه كلما تَحَكّمَ الفردُ في وقتِه بمهارةٍ وإيجابيةٍ استطاعَ أن يستثمرَه في تحقيقِ أقصى عائدٍ ممكنٍ مِنَ المواردِ الأخرى ؛ حيث إنّ الفردَ عندما يديرُ وقتَه بشكلٍ فعّالٍ هو في الحقيقة يديرُ نفسَه ، وعبادتَه ، وعملَه ، ودنياهُ إدارةً فعّالةً .

       كي نكونَ واقعيّين ، إنْ لم يكنْ بالإمكانِ استثمارُ كلِّ الوقتِ ... فعلى الأقلِّ يمكنُ أنْ نستثمرَ أكبرَ قدْرٍ مِنه .

        وعلى الرغمِ مِن هذه الأهميةِ الكبيرةِ للوقتِ ، فإنّ أكثرَ العناصرِ والمواردِ هدراً ، وإنّ أقلَّها استثماراً ، سواء من الجماعات ، أو من الأفراد ، هو الوقتُ ، ويعود هذا لأسبابٍ عدّةٍ ، أهمّها عدمُ الإدراكِ الكافي للخسارةِ الكبيرةِ المترتبةِ على سُوءِ إدارتِه .

     الوقتُ مَوْرِدٌ نادرٌ ، لا يمكن تجميعُه ، ولأنّه سريعُ الانقضاءِ ، وما مضى منه لا يرجع ، ولا يعوَّض بشيء ، كان الوقتُ أنفسَ وأثمنَ ما يملكُ الإنسانُ ، وترجعُ نفاستُه إلى أنه وعاءٌ لكلِّ علمٍ ، ولكلِّ عملٍ ، ولكلِّ عبادةٍ ، فهو في الواقعِ رأسُ المالِ الحقيقيّ للإنسانِ ، فرداً ومجتمعاً.

        ومِنْ هذا المنطلقِ يعدُّ الوقتُ أساسَ الحياةِ ، وعليه تقومُ الحضارةُ ، فصحيحٌ أنّ الوقتَ لا يمكن شراؤُه ، ولا بيعُه ، ولا تأجيرُه ، ولا استعارتُه ، ولا مضاعفتُه ، ولا توفيرُه ، ولا تصنيعُه ، ولكن يمكن استثمارُه وتوظيفُه ، أولئك الذين لديهم الوقتُ لإنجازِ أعمالِهم ، ولديهم أيضاً الوقتُ لمعرفةِ ربِّهم ، وعبادتِه ، والتقرّبِ إليه ، عرفوا قيمتَه ، هم يستثمرون كلَّ دقيقةٍ مِن وقتهم ، ولذا  فإدارةُ الوقتِ لا تنطلقُ إلى تغييرِه ، أو تعديلِه ، أو تطويرِه ، بل إلى طريقةِ استثمارِه بشكلٍ فعّالٍ ، ومحاولةِ تقليلِ الوقتِ الضائعِ هَدْراً مِن دون فائدةٍ 0

       يؤكِّد بعضُ العلماءِ منذ زَمَنٍ قديم أنَّ الوقتَ يمرُّ بسرعةٍ محدّدةٍ وثابتةٍ ، فكلُّ ثانيةٍ أو دقيقةٍ ، وكلُّ ساعةٍ تشبهُ الأخرى ، وأنّ الوقتَ يسيرُ إلى الأمامِ بشكلٍ متتابع ، وأنه يتحركُ وَفقَ نظامٍ معيَّن مُحكَم ، لا يمكن إيقافُه ، أو تغييرُه ، أو زيادتُه ، أو إعادةُ تنظيمه ، وبهذا يمضي الوقتُ بانتظامٍ نحو الأمام ، دون أيِّ تأخيرٍ أو تقديم ، ولا يمكن بأيِّ حالٍ مِنَ الأحوالِ إيقافُه أو تراكمُه أو إلغاؤُه أو تبديلُه أو إحلالُه ، إنّه موردٌ محدَّدٌ يملكُه الجميعُ بالتساوي ، فعلى الرّغم مِنْ أنّ الناسَ لم يُولَدوا بقدراتٍ أو فُرَصٍ متساويةٍ ، فإنهم جميعا يملكون الأربعَ والعشرين ساعةً نفْسَها كلَّ يومٍ ، والاثنينِ والخمسينَ أسبوعاً كلَّ عام ، وهكذا فإن جميعَ الناس متساوون في ناحيةِ المُدَّة الزمنية ، سواء أكانوا من كبار الموظفين أم مِن صغارهم ، مِن أغنياء القوم أم مِن فقرائهم ، لذلك فالمشكلةُ ليستْ في مقدار الوقتِ المتوفّر لكلٍّ مِن هؤلاء ، ولكنْ في كيفيةِ إدارةِ الوقت المتوفّر لديهم واستخدامِه ، وهل يستخدمونه بشكلٍ جيِّدٍ ومفيدٍ في إنجاز الأعمالِ المطلوبةِ منهم ، أو يهدرونه ، ويضيِّعونَه في أمور قليلة الفائدة .

     إنّ إدارةَ الوقتِ هي تحديدُ هدفٍ ، ثم تحقيقُه ، قال تعالى : ]أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[ .

[سورة الملك : الآية 22]

        ولا شكّ أنّ مَنْ يمشي إلى هدفٍ وغايةٍ واضحةٍ أهدى مِمَّن يَخبِطُ خَبْطَ عشواء ، هذه حقيقة .

       الوقتُ نعمةٌ عظيمةٌ ، تؤكِّد السُّنّةُ المطهّرةُ ما جاء في القرآن الكريم مِن أنّ الوقتَ مِنْ نِعَمِ الله على عباده ، وأنهم مأمورون بحفظه ، مسؤولون عنه ، فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ ، الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ )) .

[رواه البخاري (6049) ، والترمذي (2304) وغيرهما]

     ومعنى قوله  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  : ((كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ)) ، أيْ الذي يُوَفَّقُ لذلك قليلٌ ... فقد يكون الإنسانُ صحيحاً ، ولا يكون متفرِّغاً لشغله بالمعاش ، وقد يكون مستغنيًا ، ولا يكون صحيحاً ، فإذا اجتمعا - الصحةُ والفراغُ - فغَلَبَ على الإنسان الكسلُ عن الطاعة فهو المغبونُ ، والغبنُ أنْ تشتريَ بأضعافِ الثمنِ ، وأنْ تبيعَ بأقَلّ مِن ثمنِ المِثْلِ .

       الوقتُ مسؤوليةٌ كبرى ، فقد قال عليه الصلاة والسلام : ((لاَ تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ ،وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ ، وَفِيمَ أَنْفَقَهُ ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ )) .

[رواه الترمذي عن أبي برزة الأسلمي(2417)]

     الوقتُ وعاءُ العبادةِ ، فالصلاةُ والزكاةُ والصيامُ والحجُّ ونحوُها عباداتٌ محددَّةٌ بأوقاتٍ معيَّنةٍ ، لا يصحّ تأخيرُها عنها ، وبعضُها لا يُقْبَل إذا أُدِّيَ في غير وقته ، فهي مرتبطةٌ ارتباطاً وثيقاً بالوقتِ ، الذي هو عبارة عن الظرفِ أو الوعاء الذي تُؤَدَّى فيه .

     ومما ورد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحثِّ على أداءِ العباداتِ في وقتِها قولُه حين سئل : (( أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : الصَّلَاةُ لِوَقْتِهَا ، وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ ، ثُمَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ )) .

                       [البخاري(504) ، ومسلم(85) عن ابن مسعود]

     الوقت في حياة النبي عليه الصلاة والسلام :

     لقد عرف النبي صلى الله عليه وسلم  قيمةَ الوقت ، فجعلتَه ظرفاً لبطولاتٍ تعجزُ عن صنعَها الأممُ والشعوبُ ، حتّى أقسمَ اللهُ في عليائه بِعُمُرِكَ الثمينِ ، فقال تعالى :

]لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ[ .

[سورة الحجر : الآية 72]

        وربى أصحابه على معرفة قيمة الوقت ، حتى أن سيدنا علياً رضي الله عنه  قال :

 ( والله لو كُشف الغطاء ما ازددت يقيناً ، ولو علمتُ أن غداً أجلي ما قدرتُ أن أزيد في عملي) .

                         [حاشية السِّنْدي على سنن النسائي(8/96) مِن قول عليٍّ]


       وكان عليه الصلاة والسلام مِن أَشَدِّ الناسِ حِرْصاً على وقته ، وكان لا يَمضي له وقتٌ مِن غير عَمَلٍ لله تعالى ، أو فيما لا بدّ له لصلاحِ نفسه ، يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه يصف حالَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( كان إذا أَوَى إلى مَنْزله جَزَّأ دُخولَه ثلاثة أجزاء : جُزءا للّه ، وجُزءا لأهلْه ، وجُزءا لنَفْسه ، ثم جَزَّأ جُزْءَهُ بَيْنَهُ وبين الناس ، فَيردَ ذلك على العامَّة بالخاصَّة )) .

[ابن سعد في الطبقات الكبرى (1/423) ، والبيهقي في شعب الإيمان(2/156)]

وفي السنة النبوية الشريفة إشارات إلى أهمية الوقت :

     فعن أبن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( اِغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ : شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ ، وَفَرَاغِكَ قَبْلَ شُغْلِكَ ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ )) .

[أخرجه الحاكم في المستدرك (4/341) ، وابن أبي شيبة في المصنف (7/77) ، والمنذري في الترغيب والترهيب (4/125)]

     بل في حديث رائع عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( إِنْ قَامَتْ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ ))  .

[أخرجه أحمد (13004)]

     لابن القيم رحمه الله تعالى قول في قيمة الوقت في حياة المسلم ، يقول : ( فالعارفُ ابنُ وقتِه ، فإنْ أضاعَه ضاعت عليه مصالحُه كلها ، فجميعُ المصالحِ إنما تنشأ مِنَ الوقت ، فمتَى أضاعَ الوقتَ  لم يستدرِكْه ، فوقتُ الإنسانِ هو عمرُه في الحقيقة ، وهو مادةُ حياتِه الأبديةِ في النعيم المقيم ، ومادةُ المعيشة الضنكِ في العذابِ الأليمِ ، وهو يمرّ أسرعَ مِن مَرِّ السحابِ ، فما كان مِن وقتِه لله ، وبالله فهو حياتُه وعمرُه ، وغيرُ ذلك ليس محسوبًا مِن حياته ، وإنْ عاشَ فيه عيشَ البهائم ، فإذا قَطَعَ وقتَه في الغفلةِ والشهوةِ والأماني الباطلةِ ، وكان خيرُ ما قطعه بالنوم والبطالة ، فموتُ هذا خيرٌ له مِن حياته ، وإذا كان العبدُ وهو في الصلاة ليس له من صلاته إلا ما عَقَلَ منها ، فليس له من عمره إلا ما كان فيه بالله وله) .

[الجواب الكافي لمَن سأل عن الدواء الشافي (ص201) ، بتصرف يسير]

من جَهِل قيمةَ الوقتِ فسيأتي عليه موقفان خطيران ، يتذكّر فيهما قيمةَ الوقت .

     الموقف الأول : ساعةُ الاحتضارِ ، حينَ يودِّع الدنيا ، ويستقبلُ الآخرة ، ويتمنّى لو مُنِحَ مهلةً من الزمن ، وأُخِّر إلى أجلٍ قريبٍ ، ليُصلِحَ ما أفسدَ ، وليتداركَ ما فاتَ .. قال تعالى : ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ*وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ[ .

[سورة المنافقون : الآية 9-10]

      ويأتي الرد الإلهيّ : ]وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[ .

                    [سورة المنافقون : الآية 11]

     الموقف الثاني : في الآخرة ، حيث تُوفَّى كلُّ نفسٍ ما عملتْ ، وتُجزَى بما كسبت ، ويدخل أهلُ الجنةِ الجنةَ ، وأهلُ النارِ النارَ ، هناك يتمنّى أهلُ النارِ لو يعودون إلى دارِ التكليفِ ، ليعملوا عملاً صالحاً ، ولكنْ هيهاتَ هيهاتَ ، فقد انتهى زمنُ العمل ، وجاء زمنُ الجزاءِ ، قال تعالى : ]وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ*وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ[  .

[سورة فاطر : الآية 36-37]

       القرآنُ يحذِّر مِنَ الغفلة أشدَّ التحذير ، قال تعالى : ]وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءَاذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ[  . 

[سورة الأعراف : الآية 179]

      آفةٌ أخرى تصيبُ الناسَ ، إنها التسويفُ ، غدًا ، وبَعْدَ غدٍ ، وسوف أتوبُ ، وبعْد انتهاء العام الدراسي ، وبعد تأسيسِ المحلِّ ، وبعْد الزواجِ ، آفة أخرى هي التسويف ، قال الحسن البصري رحمه الله : (( إيّاكَ والتسويفَ ، فإنّك بيومِك ، ولستَ بغدك ، فإنْ يكن غدٌ لك ، فكنْ في غدٍ كما كنتَ في اليوم ، وإنْ لم يكن لك غدٌ ، فلنْ تندمَ على ما فرَّطتَ في اليومِ )) .

     وقيل لعالم جليل : أوصنا ، فقال : ((احذروا ( سوف ) فإنها جند من جنود إبليس )) ، ولله دَرُّ مَنْ قال :

           تزود من التقوى فإنك لاتدري        إذا جن ليل هل تعيش إلى الفجر

فَكَمْ مِن سَليمٍ مَات مِن غيرِ عِلّةٍ      وَكَمْ مِن سقيمٍ عَاشَ حِيناً مِنَ الدَّهْرِ

وَكَمْ مِن فتًى يُمسي ويُصبحُ آمناً      وقد نُسِجَتْ أكفانُه وهو لا يَـدْرِي

***

     عبدُ اللهِ بن رواحةَ ، صحابيٌّ جليل ، القائدُ الثالثُ في معركةِ مؤتةَ ؛ ففيما تروي بعض السيرُ ، حين قُتل زيدٌ ، القائدُ الأولُ ، ثم قُتل جعفرُ ، القائدُ الثاني ، وجاء دورُه في القيادة ، وكان شاعراً ، تردَّد قليلاً في حَمْلِ الراية ، وقال هذين البيتين :

***

يا نفسُ إلاّ تُقْتَلي تَمُـوتِي        هذا حِمَامُ الموتِ قدْ صَلِيتِ

وما تمنَّيتِ فقد لقِيـــتِ        إنْ تفْعلِي فِعْلَهُمَا هُدِيــتِ

       ثم أخَذَ الرايةَ ، وقاتلَ بها حتى قُتِلَ ، وكان النبيُّ عليه الصلاة والسلام مع أصحابه فقال : (( أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ ، فَقَاتَلَ بِهَا حَتَّى قُتِلَ شَهِيدًا ، ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرُ فَقَاتَلَ بِهَا حَتَّى قُتِلَ شَهِيدًا ، ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُ اللهِ بْنِ رَوَاحَةَ فَقَاتَلَ بِهَا حَتَّى قُتِلَ شَهِيدًا ، لَقَدْ رُفِعُوا لِي فِي الْجَنَّةِ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ عَلَى سُرُرٍ مِنْ ذَهَبٍ ، فَرَأَيْتُ فِي سَرِيرِ عَبْدِ اللهِ بْنِ رَوَاحَةَ ازْوِرَارًا عَنْ سَرِيرِ صَاحِبَيْهِ ، فَقُلْتُ : بِمَ هَذَا ؟ فَقِيلَ لِي : مَضَيَا وَتَرَدَّدَ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ بَعْضَ التَّرَدُّدِ وَمَضَى)) .

[مجمع الزوائد (6/160) ، وقال : أخرجه الطبراني عن رجل من الصحابة ، وانظر حلية الأولياء (1/120) ، والسيرة النبوية(5/31) ، وتفسير القرطبي (10/368)]

قرأتُ البيتين ، وعددتُ الزمنَ ، فكان الزمنُ عشرَ ثوانٍ فقط .

     أرأيت أيها القارئ إلى هذا التردُّدِ الذي لا يزيد عن عَشْرِ ثوانٍ ، كيف أنّه هَبَطَ بمنزلةِ صاحبِه في الجنة ، مع أنّه بَذَلَ حياتَه في سبيل الله ، إنَّ هذه القصة إنْ صحَّتْ تؤكِّد قيمةَ الوقتِ في حياة المسلم .


                                       *     *     *

       وإذا كان الوقت هو البعد الرابع للأشياء ، أو هو البعد الحركي للمادة ، فالشمس لها علاقة بموضوع الوقت :  يقول الله تعالى :

]وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ[  .

                                                                                                                [سورة يس : الآية 38]

     الشّمسُ الزمانُ ، وهي سببُ حصولِه ، ومُنْشَعَبُ فروعِه ، وأصولِه ، وكتابُه بأجزائِه وفصولِه ، لولاها ما اتَّسقتْ أيامُه ، ولا انتظمتْ شهورُه وأعوامُه ، ولا اختلف نورُه وظلامُه ، قال تعالى : ]وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ[  . 

     في مَوْقِعٍ معلوماتيٍّ في حقلِ الإعجازِ العلميِّ في الكتاب والسنة وَرَدَتْ هذه الحقائقُ المذهلة ، ]وَالشَّمْسُ تَجْرِي[ .

     إنّ الشمسَ نجمٌ عاديٌّ ، يقع في الثلثِ الخارجيّ لشعاعِ قرصِ المجرّة اللَّبنية ، وهي تجري بسرعة (230) كلم في الثانية حولَ مركزِ المجرةِ اللبنيةِ ، الذي يبْعُدُ عنه ثلاثين ألف سنة ضوئية ، ساحبةً معها الكواكبُ السيَّارةُ ، التي تتبعُها حيثُ تُكمِلُ دورةً كاملةً حول مجرّتها ، فمنذُ ولادتِها التي ترجع إلى خمسةِ مليارات سنة تقريباً أكملتْ الشمسُ وما تبعَها من نجومٍ ثماني عشرةَ دورةً حولَ المجرةِ اللبنية ، التي تجري نحوَ تجمّعٍ أكبرَ هو كُدْسُ المجرات ، وكُدْسُ المجراتِ يجري نحو تجمّع أكبرَ هو كُدْسُ المجراتِ العملاقُ ، والكُدسُ المجموعةُ الكبيرةُ ، فكل جِرم في الكون يجري ويدورُ حولَ جِرمٍ آخرَ ، وهذا معنى قوله تعالى: ]وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ[ .

                  [سورة الطارق : الآية 11]

       أي كلُّ نجمٍ يدورُ حولَ نجمٍ آخرَ ، ويرجعُ إلى مكانِ انطلاقهِ النسبيِّ ، وهذه الحقيقةُ تنتظمُ الكونَ كلَّه  ، قال عزوجل : ]وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا[ .

     إنّ مستقرَّ الشمسِ هو أجلُها المسمّى ، والمقدّرُ لها مِنَ العزيز العليم ، أي الوقت الذي فيه ينفذُ وقودُها فتنطفئُ ، وهذا المعنى لمستقرّ الشمس نستنتجُه من الآية الكريمة التالية : ]وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى[ . 

                      [سورة الرعد ، الآية 2]

     وقد تكررت هذه الآية الكريمة ستَّ مرات(4) في كتاب الله – [وهذه المواضع هي : ((اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى)) [ الرعد : 2] ، ((يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى )) [ فاطر : 13] ، ((أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى)) [لقمان : 29] ، ((وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا)) [يس : 38] ، ((لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)) [يس : 40] ، ((خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى)) [الزمر : 5] .

المصدر: بقلم الدكتور محمد راتب النابلسي
  • Currently 150/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
48 تصويتات / 348 مشاهدة
نشرت فى 21 يناير 2010 بواسطة ahmedelbebani

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

280,894