WA-WEEKLY

 

   قرر البابا إنوسنت الثالث عام 1209 ميلادية أن يشن حربا "مقدسة" على هراطقة مدينة فرنسية تطل على المتوسط تسمى بيزييه. فلما أحاط الرجل بالمدينة وظن جنده أنهم قادرون عليها، استوقفتهم علامة حيرة كبيرة. إذ كان في تلك المدينة المسكونة بالخارجين على سلطان الكنيسة وربها مئات العائلات المسيحية، ولم يكن لدى معتمري الخوذات الدينية سبيل للتمييز بين الزنادقة المارقين وأتباع المسيح المخلصين. ولأن الظن لا يُعفي من القتل، ظل أصحاب الخوذات المقدسة مصلوبين على أعتاب المدينة المتمردة حينا من التردد لم تحدده كتب التاريخ، حتى أتى أحد المتمترسين خلف درعه المقدس بفتوى تبيح إهدار دم أهل المدينة جميعا، بحجة أنهم يوم يلقون ربهم، سيميز الخبيث من الطيب "فالرب يعرف أولياءه" وهو على فرزهم لقدير.
ويومها، يقول المؤرخون، هلك آلاف الأولياء الصالحين تحت سنابك خيل القادمين من فوق الغمام لتطهير بيزييه من بؤر الشرك. وبالفعل، تطهرت بيزييه من درن الهرطقة ووحل الردة، لكن أحدا من أهلها لم يبق هناك ليساعد حاملي دروع التقوى في التعرف على أبناء الرب وأحبائه، ولم يعثر المفتشون في وجوه الموتى على أثارة من تقوى أو دليل على إيمان ليهتدوا إليهم. وبقيت جثث المؤمنين وجيف المهرطقين مكومة بعضها فوق بعض على قارعة المدينة المحررة لا تجد من يواريها التراب لأن الغزاة المؤمنين جدا لم يجدوا من يفتيهم بجواز دفن الهراطقة مع المؤمنين في مقابر جماعية واحدة، لهذا تركوهم في العراء قربانا لرب "يعرف أولياءه". 
يكفيك أن تقنع حامل سيف أو رمح أو عصا أو زجاجة مولوتوف في ميدان حرب أو ميدان تحرير أنه يقاتل باسم الرب وأن أصحاب الرؤوس اليانعة هناك يستحقون الذبح لأنهم خراف الرب الضالة، وأن تستدل على تقواك بفتوى كفتوى سيمون دي كنتفورت لتجمع ملايين الخطا خلف ظهرك. وساعتها، سيكفيك المتقدمون نحو النحور "الصابئة" مئونة النظر في أعين النساء المتوسلات وهن يستجدينك برب الناس أن تكف سيفك ويدك، ولن تضطر إلى إشاحة وجهك عن اللحوم المترامية فوق الطرقات تنهشها أعين الشامتين، لأن سيفك سله الرب على الضالين من عباده كي يعودوا إلى حظائره أفواجا وجثثا متفحمة.
لماذا يتطوع "أبناء الرب وأحباؤه" بالقتل والذبح والسحل كما كان يفعل الأعراب قبل البعثة، فيفتدون أرواحا من أبنائهم بقرابين من أبنائهم ليوفوا بنذور لم يطلبها منهم أحد ولا يتقبلها منهم إله؟ وعلى نصب الكراهية يُذبح الصديق ورفيق الثورة والصاحب بالجنب وصاحب الميدان لمجرد أنه جلس في رقعة من قلب فرنسا لا يسكنها المارقون وحدهم. وينسى المؤمنون من الفرنسيين أنهم مدانون بالذنب نفسه لأنهم خالطوا "زنادقة الوطن" وافترشوا بسطهم ذات تاريخ قريب. 
بالطبع يعرف الرب أولياءه، لكن أنبياء الزمن الأخير لا وقت لديهم ليشقوا عن صدور الناس أو يفتشوا في هوياتهم، فالكل مدان في نظرهم حتى يفرز الرب أولياءه يوم يحشرهم إليه. وكل من في ميادين التمرد زنديق وإن خرج بحثا عن شعاع من أمل في واقع يزداد قتامة كل نهار. لكن السيوف المصقولة في أفران فتاوى الذبح تأبى أن تدخل أغمادها حتى ينتصر المرء على وطنه وتاريخه ومستقبله. 
لو أن إنوسنت الثالث تريث قليلا، وجمع "سحرة فرعون" في ميادين الحرية جميعا وسلط على وجوههم المراوغة وأياديهم العابثة كاميرا المنطق، وكشف حيلهم أمام الطائفين والعاكفين حول تماثيلهم الرخيصة، لما اضطر باغيا وعاديا إلى قتل أولياء الرب أو سحل من أخلصوا دينهم لله. 
بأي وجه يلقى معتمرو الخوذات المقدسة نبيهم يوم يلقونه عند الحوض والدماء تخضب أياديهم المتوضئة ولحاهم الكثة؟ وكيف يبررون جحودهم لوصيته في خطبة الوداع يوم النحر حين قال: ""إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، في شَهْرِكُمْ هَذَا، في بَلَدِكُمْ هَذَا، إلى يَوْمِ تَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ. أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ، اللَّهُمَّ اشْهَدْ، فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ، فَلاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ"؟ ألا فليتوقف الباحثون في تاريخ النكسات عن مبررات تبيح الخروج بفتاوى تهدر الدم أو تحل المحرم لأن الرب الذي يعرف أولياءه يعرف كيف يدافع عنهم. 
ليس كل من في الميدان ضدكم أيها المؤمنون الطيبون، فكثير منهم مؤمنون مثلكم، يحبون الله كما تحبونه ويخلصون لأوطانهم كما تخلصون، فلا تأخذوهم بجريرة أهل الفتن الذين لا يرقبون في وحدتكم إلا ولا ذمة، وكونوا عباد الله إخوانا ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا. اعدلوا هو أقرب للتقوى. فإن أبيتم إلا القتال، فاخلعوا خوذاتكم المقدسة ولا تنتظروا المزيد من فتاوى الذبح، فلديكم اليوم منها ما يكفي ويزيد.    


المصدر: عبد الرازق أحمد الشاعر - أديب مصري مقيم بالإمارات - [email protected]
WA-WEEKLY

صحيفة " الوطن العربى الأسبوعية " المستقلة الشاملة - لندن ، المملكة المتحدة .. رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير : د. علاء الدين سعيد

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 141 مشاهدة

رئـيـــــــس مـجــلـــــــس الإدارة و رئـيــــــس الـتـحـــــــــريــــــر د. عـــلاء الـديــــن ســــــعــيــد

WA-WEEKLY
* السـنة الرابعة * العدد رقم ( 208 ) - ************ الخميس الموافق 27 نوفمبر 2014 تصــدر مـن الـقـاهـرة - جمهـورية مصــر العربيـة ====================== ALWATANULARABY JOURNAL ********* Chairman and Editor in Chief : ALAUDDIN SAID ====================== No. 208 - 27 of Nov 2014 ====================== CAIRO - ARAB REPUBLIC OF EGYPT »

ابحث

إشترك فى قائمتنا البريدية ليصلك كل جديدنا ضع ايميلك هنا ثم اضغط للإشتراك

Delivered by FeedBurner

لا تنسَ الرجوع إلى أيميلك لتفعيل الإشتراك

لمراسـلتنا بأعمالكم و أخبارِكم و آراءِكم .. إيميلات إدارة النشر بالصحيفة 

  [email protected]
أو إلى
[email protected]
أو إلى
[email protected]

 برسـالة متضمنة السيرة الذاتية الموجزة موضحة بها بياناتكم وعنوانكم وجنسيتكم وصورة شخصية مختارة للنشر مع موضوعاتكم ، مع خالص تحياتنا وتمنياتنا 

  

أهم و آخر الأخبار

================================

  •   مفتي تونس: 16 تونسية سافرن الى سوريا ل"جهاد النكاح" الذي اعتبره "بغاء"
  •  طلاب إماراتيون يصممون سيارة تقطع ألف كم بلتر واحد من الوقود
  •  طيران الامارات يرعى بطولة فرنسا المفتوحة للتنس خمسة أعوام ..
  •  الأمم المتحدة تطلق تقريرها السنوي للتنمية البشرية لعام 2013
  • عاطف عبدالعزيز وقراءة في" الحياة السرية للآباء " للشاعر صلاح فاروق
  • أقـلامٌ و آراءٌ حُـرّة

    =================================

  • الكاتب العراقى دكتور : عزيز العلي ، يكتب : ثورة ربيع العراق ، والمعركة الاستخبارية الدبلوماسية
  •  الكاتب السورى دكتور غسان شحرور ، يكتب : لغتنا الجميلة في عيدها .. هل اقترب نعيها ؟!
  •  الكاتب السورى دكتور غسان شحرور ، يكتب : في يوم "داون" العالمي ، دعوة إلى مواجهة التحديات
  • حينما توشك الدولة على الافلاس ، هل يمكن انقاذها - بقلم الكاتب المصرى دكتور : حسين الكاشف

  • كُتـَّاب ٌ و أعمـِدَةٌ و أقلام

    ============================
     

    ضع هنا التعليق المناسب

    ضع هنا التعليق المناسب

    ضع هنا التعليق المناسب

    ضع هنا التعليق المناسب

    ضع هنا التعليق المناسب

    ضع هنا التعليق المناسب

          

      شاركونـا صفحاتنـا 
    على المواقع الأخرى

    مواصفات الأعلان :: ينتهي الإعلان بتاريخ  /// مواصفات الأعلان :: ينتهي الإعلان بتاريخ  /// مواصفات الأعلان :: ينتهي الإعلان بتاريخ  /// مواصفات الأعلان :: ينتهي الإعلان بتاريخ  ///  
    مواصفات الأعلان :: ينتهي الإعلان بتاريخ  ///  مواصفات الأعلان :: ينتهي الإعلان بتاريخ  ///مواصفات الأعلان :: ينتهي الإعلان بتاريخ  /// مواصفات الأعلان :: ينتهي الإعلان بتاريخ  /// 
    مواصفات الأعلان :: ينتهي الإعلان بتاريخ  ///  مواصفات الأعلان :: ينتهي الإعلان بتاريخ  ///  مواصفات الأعلان :: ينتهي الإعلان بتاريخ  ///  مواصفات الأعلان :: ينتهي الإعلان بتاريخ  /// 
    مواصفات الأعلان :: ينتهي الإعلان بتاريخ  ///  مواصفات الأعلان :: ينتهي الإعلان بتاريخ  ///  مواصفات الأعلان :: ينتهي الإعلان بتاريخ  /// مواصفات الأعلان :: ينتهي الإعلان بتاريخ  ///  

    تقارير و دراسات

    =========================

  • مصر- نقيب عمال مصانع الطوب:اصحاب مصانع الطوب اعلنوا توقف المصانع نهائيا بعد ان فوجئوا بان التفاوض كان حبرا على ورق ...
  • خاص " الوطن العربى "- اليمن : قضية صعده من وجهة نظر(الحوثيين) في ورشة عمل بصنعاء  
  • ننشر القائمة الأُولى لأسماء افراد جماعة الاخوان الذين إحتلّوا مناصب الدولة خلال 7 أشهر فقط 
  •  تقرير لـ"سي آي إيه" يُلمح إلى استخدام إسرائيل السلاح النووي في حرب 1973 ضد مصر وسوريا
  •  إسرائيل خططت لقتل خال صدام لنصب فخ لاغتياله خلال جنازته